المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : الإيمان إفعال من الأمن ، ثم يقال : آمنه ، إذا صدقه ، وحقيقته   [ ص: 23 ] آمنه من التكذيب والمخالفة ، وأما تعديته بالباء فلتضمنه معنى " أقر وأعترف " وأما ما حكى أبو زيد    : ما آمنت أن أجد صحابة ، أي ما وثقت ، فحقيقته صرت ذا أمن ، أي ذا سكون وطمأنينة ، وكلا الوجهين حسن في ( يؤمنون بالغيب    ) أي يعترفون به أو يثقون بأنه حق . وأقول : اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان في عرف الشرع  ، ويجمعهم فرق أربع . 
الفرقة الأولى : الذين قالوا : الإيمان اسم لأفعال القلوب والجوارح والإقرار باللسان ، وهم المعتزلة  والخوارج  والزيدية  ، وأهل الحديث ، أما الخوارج  فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلا عقليا أو نقليا من الكتاب والسنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيرا كان أو كبيرا ، فقالوا : مجموع هذه الأشياء هو الإيمان ، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر ، وأما المعتزلة  فقد اتفقوا على أن الإيمان إذا عدي بالباء فالمراد به التصديق ، ولذلك يقال : فلان آمن بالله وبرسوله ، ويكون المراد التصديق ، إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية ، فلا يقال : فلان آمن بكذا إذا صلى وصام ، بل يقال : فلان آمن بالله كما يقال : صام وصلى لله ، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة ، أما إذا ذكر مطلقا غير معدى فقد اتفقوا على أنه منقول من المسمى اللغوي الذي هو التصديق إلى معنى آخر ، ثم اختلفوا فيه على وجوه : 
أحدها : أن الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات ، وهو قول  واصل بن عطاء  وأبي الهذيل   والقاضي عبد الجبار بن أحمد    . 
وثانيها : أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل ، وهو قول أبي علي  وأبي هاشم    . 
وثالثها : أن الإيمان عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد ، فالمؤمن عند الله كل من اجتنب كل الكبائر ، والمؤمن عندنا كل من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد ، وهو قول النظام  ، ومن أصحابه من قال : شرط كونه مؤمنا عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها . وأما أهل الحديث فذكروا وجهين : 
الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيمانا إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة . وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعده كفر على حدة ، ولم يجعلوا شيئا من الطاعات إيمانا ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئا من المعاصي كفرا ما لم يوجد الجحود والإنكار ، لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله ، وهو قول  عبد الله بن سعيد بن كلاب    . 
الثاني : زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها ، وهو إيمان واحد ، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان ، ومن ترك شيئا من الفرائض فقد انتقص إيمانه ، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه ، ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل . 
الفرقة الثانية : الذين قالوا : الإيمان بالقلب واللسان معا ، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب ، الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب ، وهو قول  أبي حنيفة  وعامة الفقهاء ، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين ، أحدهما : اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من فسرها بالاعتقاد الجازم سواء كان اعتقادا تقليديا أو كان علما صادرا عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم ، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال . وثانيهما : اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان  علم بماذا ؟ قال بعض المتكلمين : هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله   [ ص: 24 ] تعالى لا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف . وقال أهل الإنصاف : المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد  صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالما بالعلم أو عالما لذاته وبكونه مرئيا أو غيره لا يكون داخلا في مسمى الإيمان . القول الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معا ، وهو قول بشر بن عتاب المريسي  ،  وأبي الحسن الأشعري  ، والمراد من التصديق بالقلب الكلام القائم بالنفس . القول الثالث : قول طائفة من الصوفية    : الإيمان إقرار باللسان ، وإخلاص بالقلب . 
الفرقة الثالثة : الذين قالوا : الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، وهؤلاء قد اختلفوا على قولين : أحدهما : أن الإيمان عبارة عن معرفة الله بالقلب ، حتى أن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقر به فهو مؤمن كامل الإيمان ، وهو قول  جهم بن صفوان    . أما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلة في حد الإيمان . وحكى الكعبي  عنه : أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد  صلى الله عليه وسلم . وثانيهما : أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب ، وهو قول  الحسين بن الفضل البجلي    . 
الفرقة الرابعة : الذين قالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، وهم فريقان : الأول : أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط ، لكن شرط كونه إيمانا حصول المعرفة في القلب ، فالمعرفة شرط لكون الإقرار اللساني إيمانا ، لا أنها داخلة في مسمى الإيمان ، وهو قول غيلان بن مسلم الدمشقي  والفضل الرقاشي  ، وإن كان الكعبي  قد أنكر كونه قولا لغيلان    . الثاني : أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان ، وهو قول الكرامية  ، وزعموا أن المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة ، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة ، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع ، والذي نذهب إليه أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ونفتقر ههنا إلى شرح ماهية التصديق بالقلب ، فنقول : إن من قال العالم محدث ، فليس مدلول هذه الألفاظ كون العالم موصوفا بالحدوث ، بل مدلولها حكم ذلك القائل بكون العالم حادثا ، والحكم بثبوت الحدوث للعالم  مغاير لثبوت الحدوث للعالم ، فهذا الحكم الذهني بالثبوت أو بالانتفاء أمر يعبر عنه في كل لغة بلفظ خاص ، واختلاف الصيغ والعبارات مع كون الحكم الذهني أمرا واحدا يدل على أن الحكم الذهني أمر مغاير لهذه الصيغ والعبارات ، ولأن هذه الصيغ دالة على ذلك الحكم والدال غير المدلول ، ثم نقول هذا الحكم الذهني غير العلم ، لأن الجاهل بالشيء قد يحكم به ، فعلمنا أن هذا الحكم الذهني مغاير للعلم ، فالمراد من التصديق بالقلب هو هذا الحكم الذهني ، بقي ههنا بحث لفظي ، وهو أن المسمى بالتصديق في اللغة هو ذلك الحكم الذهني أم الصيغة الدالة على ذلك الحكم الذهني ، وتحقيق القول فيه قد ذكرناه في أصول الفقه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					