المقام الثالث : الجواب على سبيل التفصيل ، للمعتزلة  فيه طريقان : 
الأول : طريقة أبي علي  وأبي هاشم   والقاضي عبد الجبار  ، فإنا لما قلنا : لو وقع خلاف معلوم الله تعالى لانقلب علمه جهلا  ، قالوا خطأ قول من يقول : إنه ينقلب علمه جهلا ، وخطأ أيضا قول من يقول : إنه لا ينقلب ، ولكن يجب الإمساك عن القولين . 
والثاني : طريقة الكعبي  واختيار أبي الحسين البصري    : أن العلم تبع المعلوم ، فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل لله تعالى هو العلم بالإيمان ، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلا عن الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلا عن الإيمان ، فهذا فرض علم بدلا عن علم آخر ، لا أنه تغير العلم . فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة    . 
واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة : فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا : قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قويا قاطعا ، وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة  يجريان مجرى الخرافة ، ولا يلتفت العاقل إليهما ، وسمعنا كلام المعتزلة  في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح ، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جدا ، فصار مجموع الكلامين كلاما قويا في نفي التكاليف ، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات . ومنها أن الطاعنين في القرآن قالوا : الذي قاله المعتزلة  من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا منع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه ، والذي قاله الجبرية    : من أن العلم بعدم الإيمان مانع عنه فقد صدقوا فيه ، فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه ، وذلك من أعظم المطاعن ، وأقوى القوادح فيه ، ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به محمد  صلى الله عليه وسلم توسل به إلى الطعن فيه ، وقال قوم من الرافضة    : إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد  بل غير وبدل . والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر . ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا : لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة ، فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر ، وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة ، فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة ، فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال ، وعند هذا قيل : من تعمق في الكلام تزندق . ومنها أن هشام بن الحكم  زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل   [ ص: 43 ] وقوعها ، وجوز البداء على الله تعالى ، وقال : إن قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون    ) إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة ، ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره ، وإنما قال بهذا المذهب فرارا من تلك الإشكالات المتقدمة . 
واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن المعتزلة  كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب . بل هي جارية مجرى التشنيعات . فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف . أما قول أبي علي  وأبي هشام  والقاضي : خطأ قول من يقول إنه يدل ، وخطأ قول من يقول إنه لا يدل ، إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكما بفساد النفي والإثبات ، وذلك لا يرتضيه العقل ، وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل ، كفى في دفعه تقرير وجه الاستدلال ، فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم ، فلو حصل الوجود معه لكان قد اجتمع العدم والوجود معا ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه . وأما قول الكعبي  ففي نهاية الضعف ، لأنا وإن كنا لا ندري أن الله تعالى كان في الأزل عالما بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلا ، وهو الآن أيضا حاضر ، فلو حصل مع العلم بأحد النقيضين ذلك النقيض الآخر لزم اجتماع النقيضين ، ولو قيل بأن ذلك العلم لا يبقى كان ذلك اعترافا بانقلاب العلم جهلا ، وهذا آخر الكلام في هذا البحث . واعلم أن الكلام المعنوي هو الذي تقدم ، وبقي في هذا الباب أمور أخرى إقناعية ، ولا بد من ذكرها وهي خمسة : 
أحدها : روى الخطيب  في كتاب تاريخ بغداد عن  معاذ بن معاذ العنبري  ، قال : كنت جالسا عند  عمرو بن عبيد  ، فأتاه رجل ، فقال : يا أبا عثمان  سمعت والله اليوم بالكفر ، فقال : لا تعجل بالكفر ، وما سمعت ؟ قال : سمعت هاشما الأوقص  يقول : إن ( تبت يدا أبي لهب    ) [المسد : 1] وقوله : ( ذرني ومن خلقت وحيدا    ) [المدثر : 11] إلى قوله : ( سأصليه سقر    ) [المدثر : 26] إن هذا ليس في أم الكتاب والله تعالى يقول : ( حم  والكتاب المبين    ) [الدخان : 2] إلى قوله : ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم    ) [الزخرف : 4] فما الكفر إلا هذا يا أبا عثمان  ، فسكت عمرو  هنيهة ثم أقبل علي ، فقال : والله لو كان القول كما يقول ما كان على أبي لهب  من لوم ، ولا على الوليد  من لوم ، فلما سمع الرجل ذلك قال : أتقول يا أبا عثمان  ذلك ، هذا والله الذي قال معاذ    ! فدخل بالإسلام وخرج بالكفر . وحكي أيضا أنه دخل رجل على  عمرو بن عبيد  ، وقرأ عنده : ( بل هو قرآن مجيد  في لوح محفوظ    ) [البروج : 22] فقال له : أخبرني عن ( تبت ) أكانت في اللوح المحفوظ ؟ فقال عمرو    : ليس هكذا كانت ، بل كانت : تبت يدا من عمل بمثل ما عمل أبو لهب  ، فقال له الرجل : هكذا ينبغي أن تقرأ إذا قمنا إلى الصلاة ، فغضب عمرو  وقال : إن علم الله ليس بشيطان ، إن علم الله لا يضر ولا ينفع . وهذه الحكاية تدل على شك  عمرو بن عبيد  في صحة القرآن . 
وثانيها : روى القاضي في كتاب طبقات المعتزلة  عن ابن عمر  ، أن رجلا قام إليه ، فقال : يا أبا عبد الرحمن  ، إن أقواما يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ويقولون : كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بدا ، فغضب ثم قال : سبحان الله العظيم ، قد كان في علمه أنهم يفعلونها ، فلم  [ ص: 44 ] يحملهم علم الله على فعلها . 
حدثني أبي  عمر بن الخطاب  ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم ، والأرض التي أقلتكم ، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض ، فكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله تعالى ، وكما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب ، فكذلك لا يحملكم علم الله تعالى عليها   . 
واعلم أن في الأخبار التي يرويها الجبرية  والقدرية   كثرة ، والغرض من رواية هذا الحديث بيان أنه لا يليق بالرسول أن يقول مثل ذلك ، وذلك لأنه متناقض وفاسد ، أما المتناقض فلأن قوله : " وكذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله   " صريح في الجبر ، وما قبله صريح في القدر ، فهو متناقض ، وأما أنه فاسد ، فلأنا بينا أن العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان متنافيان ، فالتكليف بالإيمان مع وجود العلم بعدم الإيمان تكليف بالجمع بين النفي والإثبات ، أما السماء والأرض فإنهما لا ينافيان شيئا من الأعمال ، فظهر أن تشبيه إحدى الصورتين بالأخرى لا يصدر إلا عن جاهل أو متجاهل ، وجل منصب الرسالة عنه . 
وثالثها : الحديثان المشهوران في هذا الباب : أما الحديث الأول : فهو ما روي في الصحيحين عن  الأعمش  ، عن  زيد بن وهب  ، عن  عبد الله بن مسعود  ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه ملكا ، فينفخ فيه الروح ، فيؤمر بأربع كلمات : فيكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخلها   " وحكى الخطيب  في تاريخ بغداد ، عن  عمرو بن عبيد  ، أنه قال : لو سمعت  الأعمش  يقول هذا لكذبته ، ولو سمعت  زيد بن وهب  يقول هذا ما أحببته ، ولو سمعت  عبد الله بن مسعود  يقول هذا ما قبلته ، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته ، ولو سمعت الله عز وجل يقول هذا لقلت : ليس على هذا أخذت ميثاقنا . 
وأما الحديث الثاني : فهو مناظرة آدم  وموسى  عليهما السلام  ، فإن موسى  قال لآدم    : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ؟ فقال آدم    : أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه ، وأنزل عليك التوراة ، فهل تجد الله قدره علي ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم  موسى  ، والمعتزلة  طعنوا فيه من وجوه : 
أحدها : أن هذا الخبر يقتضي أن يكون موسى  قد ذم آدم  على الصغيرة ، وذلك يقتضي الجهل في حق موسى  عليه السلام ، وأنه غير جائز . 
وثانيها : أن الولد كيف يشافه والده بالقول الغليظ . 
وثالثها : أنه قال : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ، وقد علم موسى  أن شقاء الخلق وإخراجهم من الجنة لم يكن من جهة آدم  ، بل الله أخرجه منها . 
ورابعها : أن آدم    - عليه السلام - احتج بما ليس بحجة إذ لو كان حجة لكان لفرعون  وهامان  وسائر الكفار أن يحتجوا بها ، ولما بطل ذلك علمنا فساد هذه الحجة . 
وخامسها : أن الرسول عليه السلام صوب آدم  في ذلك مع أنا بينا أنه ليس بصواب . 
إذا ثبت هذا وجب حمل الحديث على أحد ثلاثة أوجه : 
أحدها : أنه - عليه السلام - حكى ذلك عن اليهود  ، لا أنه حكاه عن الله تعالى أو عن نفسه ، والرسول عليه السلام كان قد ذكر هذه الحكاية إلا أن الراوي حين دخل ما سمع إلا هذا الكلام ، فظن أنه عليه السلام ذكره عن نفسه لا عن اليهود    . 
وثانيها : أنه قال : " فحج آدم    " منصوبا ، أي أن موسى  عليه السلام غلبه وجعله محجوجا ، وأن الذي أتى به آدم  ليس بحجة ولا بعذر . 
وثالثها : وهو المعتمد أنه ليس المراد من المناظرة الذم على المعصية ، ولا الاعتذار منه بعلم الله ، بل موسى    - عليه السلام - سأله عن السبب   [ ص: 45 ] الذي حمله على تلك الزلة حتى خرج بسببها من الجنة ، فقال آدم    : إن خروجي من الجنة لم يكن بسبب تلك الزلة ، بل بسبب أن الله تعالى كان قد كتب علي أن أخرج من الجنة إلى الأرض وأكون خليفة فيها ، وهذا المعنى كان مكتوبا في التوراة ، فلا جرم كانت حجة آدم  قوية ، وصار موسى  عليه السلام في ذلك كالمغلوب ، واعلم أن الكلام في هذه المسألة طويل جدا ، والقرآن مملوء منه ، وسنستقصي القول فيها في هذا التفسير إن قدر الله تعالى ذلك ؛ وفيما ذكرنا ههنا كفاية . 
				
						
						
