( المسألة الخامسة ) : أن الله تعالى لما أمر آدم  عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها ، فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك : ( ألم أقل لكم إني أعلم غيب    )   [ ص: 193 ]   ( السماوات والأرض    ) والمراد من هذا الغيب أنه تعالى كان عالما بأحوال آدم  عليه السلام قبل أن يخلقه وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها  ، وذلك يدل على بطلان مذهب هشام بن الحكم  في أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها ، فإن قيل الإيمان هو العلم ، فقوله تعالى : ( يؤمنون بالغيب    ) [البقرة : 3] يدل على أن العبد يعلم الغيب فكيف قال ههنا : ( إني أعلم غيب السماوات والأرض    ) ؟ والإشعار بأن علم الغيب ليس إلا لي وأن كل من سواي فهم خالون عن علم الغيب ، وجوابه ما تقدم في قوله : ( الذين يؤمنون بالغيب    ) [البقرة : 3] أما قوله : ( وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون     ) ففيه وجوه : 
أحدها : ما روى  الشعبي  عن  ابن عباس   وابن مسعود  رضي الله عنهم أن قوله : ( وأعلم ما تبدون    ) أراد به قولهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها    ) وقوله : ( وما كنتم تكتمون    ) أراد به ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وأن لا يسجد : وثانيها : ( إني أعلم ما لا تعلمون    ) من الأمور الغائبة والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ولكني لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أن المصلحة في خلقها . 
وثالثها : أنه تعالى لما خلق آدم  رأت الملائكة خلقا عجيبا ، فقالوا : ليكن ما شاء ، فلن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموا ، ويجوز أن يكون هذا القول سرا أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان . 
ورابعها : وهو قول الحكماء أن الأقسام خمسة لأن الشيء إما أن يكون خيرا محضا ، أو شرا محضا أو ممتزجا وعلى تقدير الامتزاج فإما أن يعتدل الأمر ، أو يكون الخير غالبا أو يكون الشر غالبا ، أما الخير المحض فالحكمة تقتضي إيجاده ، وأما الذي يكون فيه الخير غالبا فالحكمة تقتضي إيجاده ؛ لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا الفساد والقتل وهو شر قليل بالنسبة إلى ما يحصل منهم من الخيرات فقوله : ( إني أعلم غيب السماوات والأرض    ) فأعرف أن خيرهم غالب على هذه الشرور فاقتضت الحكمة إيجادهم وتكوينهم . 
( المسألة السادسة ) : اعلم أن في هذه الآية خوفا عظيما وفرحا عظيما ، أما الخوف فلأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال الضمائر  فيجب أن يجتهد المرء في تصفية باطنه وأن لا يكون بحيث يترك المعصية لاطلاع الخلائق عليها ، ولا يتركها عند اطلاع الخالق عليها ، والأخبار مؤكدة لذلك . 
أحدها : روى  عدي بن حاتم  أنه عليه الصلاة والسلام قال : " يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها  لا نصيب لهم فيها ، فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك ، وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا . 
فنودوا ذاك أردت لكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم ، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم بالمحبة مخبتين تراءون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم ، هبتم الناس ولم تهابوني ، أجللتم الناس ولم تجلوني تركتم المعاصي للناس ولم تتركوها لأجلي ، كنت أهون الناظرين عليكم فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من النعيم   " . 
وثانيها : قال  سليمان بن علي  لحميد الطويل    : عظني ، فقال : إن كنت إذا عصيت الله خاليا ظننت أنه يراك فلقد اجترأت على أمر عظيم ، وإن كنت ظننت أنه لا يراك فلقد كفرت   . 
وثالثها : قال  حاتم الأصم    : طهر نفسك في ثلاثة أحوال    : إذا كنت عاملا بالجوارح فاذكر نظر الله إليك ، وإذا كنت قائلا فاذكر سمع الله إليك ، وإذا كنت ساكتا عاملا بالضمير فاذكر علم الله بك إذ هو يقول :   [ ص: 194 ]   ( إنني معكما أسمع وأرى    ) [طه : 46] . 
ورابعها : اعلم أنه لا اطلاع لأحد على أسرار حكمة الله تعالى  ، فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل فاستحقروا البشر ، ووقع نظرهم على طاعة إبليس فاستعظموه ، أما علام الغيوب فإنه كان عالما بأنهم وإن أتوا بالفساد والقتل لكنهم سيأتون بعده بقولهم : ( ربنا ظلمنا أنفسنا    ) [الأعراف : 23] وأن إبليس وإن أتى بالطاعات لكنه سيأتي بعدها بقوله : ( أنا خير منه    ) ، ومن شأن العقل أن لا يعتمد على ما يراه وأن يكون أبدا في الخوف والوجل ، فقوله تعالى : ( إني أعلم غيب السماوات    ) معناه أنا الذي أعرف الظاهر والباطن والواقع والمتوقع ، وأعلم أنه ما ترونه عابدا مطيعا سيكفر ، ويبعد عن حضرتي ، ومن ترونه فاسقا بعيدا سيقرب من خدمتي ، فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الجهل ، ولا يتيسر لهم أن يخرقوا أستار العجز فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ، ثم إنه سبحانه حقق من علم الغيب وعجز الملائكة أن أظهر من البشر كمال العبودية ، ومن أشد ساكني السماوات عبادة كمال الكفر ؛ لئلا يغتر أحد بعمله ويفوضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق ويزيلوا الاعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					