الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب


            ثم دخلت سنة عشرين ومائتين ذكر ظفر عجيف بالزط  

            وفي هذه السنة دخل عجيف بالزط بغداذ ، بعد أن ضيق عليهم ، وقاتلهم ، وطلبوا منه الأمان ، فأمنهم ، فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين ، وكانت عدتهم مع النساء والصبيان سبعة وعشرين ألفا ، والمقاتلة منهم اثنا عشر ألفا ، فلما خرجوا إليه جعلهم في السفن ، وعبأهم في سفنهم على هيئتهم في الحرب معهم البوقات ، حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء من هذه السنة .

            وخرج المعتصم إلى الشماسية في سفينة يقال لها الزو ، حتى يمر به الزط على تعبئتهم وهم ينفخون في البوقات ، وأعطى عجيف أصحابه كل رجل دينارين دينارين ، وأقام الزط في سفنهم ثلاثة أيام ، ثم نقلوا إلى الجانب الشرقي ، وسلموا إلى بشر بن السميدع ، فذهب بهم إلى خانقين ، ثم نقلوا إلى الثغر ، إلى عين زربة ، فأغارت الروم عليهم ، فاجتاحوهم ، فلم يفلت منهم أحد . ذكر مسير الأفشين لحرب بابك الخرمي  

            وفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال ، ووجهه لحرب بابك فسار إليه .

            وكان ابتداء خروج بابك سنة إحدى ومائتين ، فكانت مدينته البذ ، وهزم من جيوش السلطان عدة ، وقتل من قواده جماعة ، فلما أفضى الأمر إلى المعتصم ، وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل ، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل ، ويجعل فيها الرجال تحفظ الطرق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل ؛ فتوجه أبو سعيد لذلك ، وبنى الحصون .

            ووجه بابك سرية في بعض غزاته ، فأغارت على بعض النواحي ورجعت منصرفة ، وبلغ ذلك أبا سعيد ؛ فجمع الناس ، وخرج في طلب السرية ، فاعترضها في بعض الطرق ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل أبو سعيد من أصحاب بابك جماعة ، وأسر جماعة ، واستنقذ ما كانوا أخذوه ، وسير الرؤوس والأسرى إلى المعتصم ، فكانت هذه أول هزيمة على أصحاب بابك .

            ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث ، وذلك أن محمدا كان في قلعة له حصينة تسمى الشاهي ، كان ابن البعيث قد أخذها من ابن الرواد ، وهي من كورة أذربيجان ، وله حصن آخر من أذربيجان يسمى تبريز ، وكان مصالحا لبابك ، تنزل سراياه عنده ، فيضيفهم حتى أنسوا به .

            ثم إن بابك وجه قائدا اسمه عصمة من أصبهبذيته في سرية ، فنزل بابن البعيث ، فأنزل له الضيافة على عادتها ، واستدعاه له في خاصته ووجوه أصحابه ، فصعد فغذاهم ، وسقاهم الخمر حتى سكروا ، ثم وثب على عصمة ، فاستوثق منه ، وقتل من كان معه من أصحابه ، وأمره أن يسمي رجلا رجلا من أصحابه ؛ فكان يدعو الرجل باسمه ، فيصعد ، فيضرب عنقه ، حتى علموا بذلك فهربوا . وسير عصمة إلى المعتصم ، فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك ، فأعلمه طرقه ووجوه القتال فيها ، ثم ترك عصمة محبوسا ، فبقي إلى أيام الواثق .

            ثم إن الأفشين سار إلى بلاد بابك ، فنزل برزند ، وعسكر بها ، وضبط الطرق والحصون فيما بينه وبين أردبيل ، وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خش ، فحفر خندقا ، وأنزل الهيثم الغنوي برستاق أرشق ، فأصلح حصنه ، وحفر خندقه ، وأنزل علويه الأعور ، من قواد الأبناء ، في حصن النهر مما يلي أردبيل ، فكانت السابلة والقوافل تخرج من أردبيل ومعها من يحميها ، حتى تنزل بحصن النهر ، ثم يسيرها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنوي ، فيلقاه الهيثم بمن جاء إليه من ناحية في موضع معروف لا يتعداه أحدهم إذا وصل إليه ، فإذا لقيه أخذ ما ( معه ، وسلم إليه ما معه ، ثم يسير الهيثم بمن معه إلى أصحاب أبي سعيد ، فيلقونه بمنتصف الطريق ، ومعهم من خرج من العسكر ، فيتسلمون ما مع الهيثم ويسلمون إليه ما معهم ، وإذا سبق أحدهم إلى المنتصف لا يتعداه ، ويسير أبو سعيد بمن معه إلى عسكر الأفشين ( فيلقاه صاحب سيارة الأفشين ، فيتسلمهم منه ، ويسلم إليه من صحبه من العسكر ، فلم يزل الأمر على هذا .

            وكانوا إذا ظفروا بأحد من الجواسيس حملوه إلى الأفشين ، فكان يحسن إليهم ، ويهب لهم ، ويسألهم عن الذي يعطيهم بابك ، فيضعفه لهم ، ويقول لهم : كونوا جواسيس لنا ، فكان ينتفع بهم . ذكر وقعة الأفشين مع بابك  

            وفيها كانت وقعة الأفشين مع بابك ، قتل من أصحاب بابك خلق كثير .

            وكان سببها أن المعتصم وجه بغا الكبير إلى الأفشين ، ومعه مال للجند ، والنفقات ، فوصل أردبيل ، فبلغ بابك الخبر ، فتهيأ هو وأصحابه ليقطعوا عليه قبل وصوله إلى الأفشين ، فجاء جاسوس إلى الأفشين ، فأخبره بذلك ، فلما صح الخبر عند الأفشين كتب إلى بغا أن يظهر أنه يريد الرحيل ، ويحمل المال على الإبل ، ويسير نحوه ، حتى يبلغ حصن النهر ، فيحبس الذي معه ، حتى يجوز من صحبه من القافلة ، فإذا جازوا رجع بالمال إلى أردبيل .

            ففعل بغا ذلك ، وسارت القافلة ، وجاءت جواسيس بابك إليه ، فأخبروه أن المال قد سار فبلغ النهر ، وركب الأفشين في اليوم الذي واعد فيه بغا ، عند العصر ، من برزند فوافى خش مع غروب الشمس ، فنزل خارج خندق أبي سعيد ، فلما أصبح ركب سرا ، ولم يضرب طبلا ، ولم ينشر علما ، وأمر الناس بالسكوت وجد في السير ، ورحلت القافلة التي كانت توجهت ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم ، وتعبأ بابك في أصحابه ، وسار على طريق النهر ، وهو يظن أن المال يصادفه ، فخرجت خيل بابك على القافلة ، ومعها صاحب النهر ، فقاتلهم صاحب النهر ، فقتلوه ، وقتلوا من كان معه من الجند ، وأخذوا جميع ما كان معهم ، وعلموا أن المال قد فاتهم ، وأخذوا علمه ولباس أصحابه ، فلبسوها وتنكروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضا ، ولا يعلمون بخروج الأفشين ، وجاؤوا كأنهم أصحاب النهر ، فلم يعرفوا الموضع الذي يقف فيه علم صاحب النهر ، فوقفوا في غيره .

            وجاء الهيثم فوقف في موضعه ، وأنكر ما رأى ، فوجه ابن عم له ، فقال له : اذهب إلى هذا البغيض ، فقل له : لأي شيء وقوفك ، فجاء إليهم ، فأنكرهم ، فرجع إليه فأخبره ، فأنفذ جماعة غيره ، فأنكروهم أيضا ، وأخبروه أن بابك قد قتل علويه صاحب النهر ، وأصحابه ، وأخذ أعلامهم ولباسهم ، فرحل الهيثم راجعا ، ونجى القافلة التي كانت معه ، وبقي هو وأصحابه في أعقابهم حامية لهم حتى وصلت القافلة إلى الحصن ، وهو أرشق ، وسير رجلين من أصحابه إلى الأفشين وإلى أبي سعيد يعرفهما الخبر ، فخرجا يركضان ، ودخل الهيثم الحصن ، ( ونزل بابك عليه ، ووضع له كرسيا بحيال الحصن ) ، وأرسل إلى الهيثم أن خل الحصن وانصرف ، فأبى الهيثم ذلك ، فحاربه بابك وهو يشرب الخمر على عادته والحرب مشتبكة .

            وسار الفارسان ، فلقيا الأفشين على أقل من فرسخ ، فقال لصاحب مقدمته : أرى فارسين يركضان ركضا شديدا ، ثم قال : اضربوا الطبل ، وانشروا الأعلام ، واركضوا نحوهما ، وصيحوا : لبيكما لبيكما ! ففعلوا ذلك ، وأجرى الناس خيلهم طلقا واحدا ، حتى لحقوا بابك وهو جالس ، فلم يطق أن يركب ، حتى وافته الخيل ، فاشتبكت الحرب ، فلم يفلت من رجالة بابك أحد ، وأفلت هو في نفر يسير من خيالته ، ودخل موقان وقد تقطع عنه أصحابه ، ورجع عنه الأفشين إلى برزند .

            وأقام بابك بموقان ، وأرسل إلى البذ ، فجاءه عسكر ، فرحل بهم من موقان ، حتى دخل البذ ، ولم يزل الأفشين معسكرا ببرزند ، فلما كان في بعض الأيام مرت قافلة ، فخرج عليها أصبهبذ بابك ، فأخذها وقتل من فيها ، فقحط عسكر الأفشين لذلك ، فكتب الأفشين إلى صاحب مراغة بحمل الميرة وتعجيلها ، فوجه إليه قافلة عظيمة ، فيها قريب من ألف ثور ، سوى غيرها من الدواب ، تحمل الميرة ، ومعها جند يسيرون بها ، فخرج عليهم سرية لبابك ، فأخذوها عن آخرها ، وأصاب العسكر ضيق شديد ، فكتب الأفشين إلى صاحب شيروان يأمره أن يحمل إليه طعاما ، فحمل إليه طعاما كثيرا ، وأغاث الناس . وقدم بغا على الأفشين بما معه . ذكر بناء سامرا  

            وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى سامرا لبنائها ، وكان سبب ذلك أنه قال : إني أتخوف هؤلاء الحربية أن يصيحوا صيحة فيقتلوا غلماني ، فأريد أن أكون فوقهم ، فإن رابني منهم شيء أتيتهم في البر والماء ، حتى آتي عليهم ، فخرج إليها ، فأعجبه مكانها .

            وقيل كان سبب ذلك أن المعتصم كان قد أكثر من الغلمان الأتراك ، فكانوا لا يزالون يرون الواحد بعد الواحد قتيلا ، وذلك أنهم كانوا جفاة ، يركبون الدواب ، فيركضونها إلى الشوارع ، فيصدمون الرجل والمرأة والصبي ، فيأخذهم الأبناء عن دوابهم ، ويضربونهم ، وربما هلك أحدهم فتأذى بهم الناس .

            خروج المعتصم إلى القاطول

            ثم إن المعتصم ركب يوم عيد ، فقام إليه شيخ ، فقال له : يا أبا إسحاق ! فأراد الجند ضربه ، فمنعهم ، وقال : يا شيخ ( ما لك ، ما لك ؟ ) قال : لا جزاك الله عن الجوار خيرا ، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك ، فأسكنتهم بيننا ، فأيتمت صبياننا ، وأرملت بهم نسواننا ، وقتلت رجالنا ، والمعتصم يسمع ذلك ، فدخل منزله ، ولم ير راكبا إلى مثل ذلك اليوم ، فخرج ، فصلى بالناس العيد ، ولم يدخل بغداد ، بل سار إلى ناحية القاطول ، ولم يرجع إلى بغداد .

            قال مسرور الكبير : سألني المعتصم أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر ببغداذ قلت : بالقاطول ، وكان قد بنى هناك مدينة آثارها وسورها قائم ، وكان قد خاف من الجند ما خاف المعتصم ، فلما وثب أهل الشام بالشام وعصوا خرج إلى الرقة فأقام بها ، وبقيت مدينة القاطول لم تستم .

            ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداذ ابنه الواثق .

            وكان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحوف بمصر ، واستخدمهم ، وسماهم المغاربة ، وجمع خلقا من سمرقند ، وأشروسنة ، وفرغانة ، وسماهم الفراغنة ، فكانوا من أصحابه ، وبقوا بعده .

            وكان ابتداء العمارة بسامرا سنة إحدى وعشرين ومائتين . ذكر قبض الفضل بن مروان

            وكان الفضل بن مروان  من البردان ، وكان حسن الخط ، فاتصل بيحيى الجرمقاني كاتب المعتصم ، قبل خلافته ، فكان يكتب بين يديه ، فلما هلك الجرمقاني صار موضعه ، وسار مع المعتصم إلى الشام ، ومصر ، فأخذ من الأموال الكثير ، فلما صار المعتصم خليفة كان اسمها له ، وكان معناها للفضل ، واستولى على الدواوين كلها ، وكنز الأموال .

            وكان المعتصم يأمره بإعطاء المغني والنديم ، فلا ينفذ الفضل ذلك ، فثقل على المعتصم ، وكان له مضحك اسمه إبراهيم ، يعرف بالهفتي ، فأمر له المعتصم بمال ، وتقدم إلى الفضل بإعطائه ، فلم يعطه شيئا ، فبينا الهفتي يوما عند المعتصم ، يمشي معه في بستان له ، وكان الهفتي يصحبه قبل الخلافة ، ويقول له فيما يداعبه : والله لا تفلح أبدا ، وكان مربوعا بدينا ، وكان المعتصم خفيف اللحم ؛ فكان يسبقه ، ويلتفت إليه ويقول : ما لك لا تسرع المشي ؟ فلما أكثر عليه من ذلك ، قال الهفتي مداعبا له : كنت أراني أماشي خليفة ، ولم [ أكن ] أراني أماشي فيجا ، والله لا أفلحت أبدا ! فضحك المعتصم وقال : وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة ؟ فقال : أتظن أنك أفلحت ؟ لا والله ، ما لك من الخلافة إلا اسمها ، ما يتجاوز أمرك أذنيك ، إنما الخليفة الفضل ، فقال : وأي أمر لي لم ينفذ ؟ فقال الهفتي : أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين ، فما أعطيت حبة ، فحقدها على الفضل .

            فقيل : أول ما أحدثه في أمره جعل زماما في نفقات الخاصة ، وفي الخراج ، وجميع الأعمال ، ثم نكبه وأهل بيته في صفر ، وأمرهم بعمل حسابهم ، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات ، فنفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل تعرف بالسن ، وصار محمد وزيرا كاتبا .

            وكان الفضل شرس الأخلاق ، ضيق العطن ، كريه اللقاء ، بخيلا ، مستطيلا ، فلما نكب شمت به الناس ، حتى قال بعضهم فيه :


            ليبك على الفضل بن مروان نفسه فليس له باك من الناس يعرف     لقد صحب الدنيا منوعا لخيرها
            وفارقها وهو الظلوم المعنف     إلى النار فليذهب ، ومن كان مثله
            على أي شيء فاتنا منه نأسف ؟

            ذكر عدة حوادث  

            ( في هذه السنة سير عبد الرحمن ملك الأندلس جيشا إلى طليطلة ، فقاتلوها ، فلم يظفروا بها ) .

            وحج بالناس صالح بن العباس بن محمد . طاعون البصرة

            وكان بالبصرة في هذه السنة طاعون ، مات فيه خلق كثير ،  وكان لرجل سبع بنين فماتوا في يوم واحد فعزي ، فقال: سلم سلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية