ثم دخلت سنة عشرين ومائتين ذكر ظفر عجيف بالزط
وفي هذه السنة دخل عجيف بالزط بغداذ ، بعد أن ضيق عليهم ، وقاتلهم ، وطلبوا منه الأمان ، فأمنهم ، فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين ، وكانت عدتهم مع النساء والصبيان سبعة وعشرين ألفا ، والمقاتلة منهم اثنا عشر ألفا ، فلما خرجوا إليه جعلهم في السفن ، وعبأهم في سفنهم على هيئتهم في الحرب معهم البوقات ، حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء من هذه السنة .
وخرج المعتصم إلى الشماسية في سفينة يقال لها الزو ، حتى يمر به الزط على تعبئتهم وهم ينفخون في البوقات ، وأعطى عجيف أصحابه كل رجل دينارين دينارين ، وأقام الزط في سفنهم ثلاثة أيام ، ثم نقلوا إلى الجانب الشرقي ، وسلموا إلى بشر بن السميدع ، فذهب بهم إلى خانقين ، ثم نقلوا إلى الثغر ، إلى عين زربة ، فأغارت الروم عليهم ، فاجتاحوهم ، فلم يفلت منهم أحد . ذكر مسير الأفشين لحرب بابك الخرمي
وفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال ، ووجهه لحرب بابك فسار إليه .
وكان ابتداء خروج بابك سنة إحدى ومائتين ، فكانت مدينته البذ ، وهزم من جيوش السلطان عدة ، وقتل من قواده جماعة ، فلما أفضى الأمر إلى المعتصم ، وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل ، وأمره أن يبني الحصون التي خربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل ، ويجعل فيها الرجال تحفظ الطرق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل ؛ فتوجه أبو سعيد لذلك ، وبنى الحصون .
ووجه بابك سرية في بعض غزاته ، فأغارت على بعض النواحي ورجعت منصرفة ، وبلغ ذلك أبا سعيد ؛ فجمع الناس ، وخرج في طلب السرية ، فاعترضها في بعض الطرق ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل أبو سعيد من أصحاب بابك جماعة ، وأسر جماعة ، واستنقذ ما كانوا أخذوه ، وسير الرؤوس والأسرى إلى المعتصم ، فكانت هذه أول هزيمة على أصحاب بابك .
ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث ، وذلك أن محمدا كان في قلعة له حصينة تسمى الشاهي ، كان ابن البعيث قد أخذها من ابن الرواد ، وهي من كورة أذربيجان ، وله حصن آخر من أذربيجان يسمى تبريز ، وكان مصالحا لبابك ، تنزل سراياه عنده ، فيضيفهم حتى أنسوا به .
ثم إن بابك وجه قائدا اسمه عصمة من أصبهبذيته في سرية ، فنزل بابن البعيث ، فأنزل له الضيافة على عادتها ، واستدعاه له في خاصته ووجوه أصحابه ، فصعد فغذاهم ، وسقاهم الخمر حتى سكروا ، ثم وثب على عصمة ، فاستوثق منه ، وقتل من كان معه من أصحابه ، وأمره أن يسمي رجلا رجلا من أصحابه ؛ فكان يدعو الرجل باسمه ، فيصعد ، فيضرب عنقه ، حتى علموا بذلك فهربوا . وسير عصمة إلى المعتصم ، فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك ، فأعلمه طرقه ووجوه القتال فيها ، ثم ترك عصمة محبوسا ، فبقي إلى أيام الواثق .
ثم إن الأفشين سار إلى بلاد بابك ، فنزل برزند ، وعسكر بها ، وضبط الطرق والحصون فيما بينه وبين أردبيل ، وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خش ، فحفر خندقا ، وأنزل الهيثم الغنوي برستاق أرشق ، فأصلح حصنه ، وحفر خندقه ، وأنزل علويه الأعور ، من قواد الأبناء ، في حصن النهر مما يلي أردبيل ، فكانت السابلة والقوافل تخرج من أردبيل ومعها من يحميها ، حتى تنزل بحصن النهر ، ثم يسيرها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنوي ، فيلقاه الهيثم بمن جاء إليه من ناحية في موضع معروف لا يتعداه أحدهم إذا وصل إليه ، فإذا لقيه أخذ ما ( معه ، وسلم إليه ما معه ، ثم يسير الهيثم بمن معه إلى أصحاب أبي سعيد ، فيلقونه بمنتصف الطريق ، ومعهم من خرج من العسكر ، فيتسلمون ما مع الهيثم ويسلمون إليه ما معهم ، وإذا سبق أحدهم إلى المنتصف لا يتعداه ، ويسير أبو سعيد بمن معه إلى عسكر الأفشين ( فيلقاه صاحب سيارة الأفشين ، فيتسلمهم منه ، ويسلم إليه من صحبه من العسكر ، فلم يزل الأمر على هذا .
وكانوا إذا ظفروا بأحد من الجواسيس حملوه إلى الأفشين ، فكان يحسن إليهم ، ويهب لهم ، ويسألهم عن الذي يعطيهم بابك ، فيضعفه لهم ، ويقول لهم : كونوا جواسيس لنا ، فكان ينتفع بهم . ذكر وقعة الأفشين مع بابك
وفيها كانت وقعة الأفشين مع بابك ، قتل من أصحاب بابك خلق كثير .
وكان سببها أن المعتصم وجه بغا الكبير إلى الأفشين ، ومعه مال للجند ، والنفقات ، فوصل أردبيل ، فبلغ بابك الخبر ، فتهيأ هو وأصحابه ليقطعوا عليه قبل وصوله إلى الأفشين ، فجاء جاسوس إلى الأفشين ، فأخبره بذلك ، فلما صح الخبر عند الأفشين كتب إلى بغا أن يظهر أنه يريد الرحيل ، ويحمل المال على الإبل ، ويسير نحوه ، حتى يبلغ حصن النهر ، فيحبس الذي معه ، حتى يجوز من صحبه من القافلة ، فإذا جازوا رجع بالمال إلى أردبيل .
ففعل بغا ذلك ، وسارت القافلة ، وجاءت جواسيس بابك إليه ، فأخبروه أن المال قد سار فبلغ النهر ، وركب الأفشين في اليوم الذي واعد فيه بغا ، عند العصر ، من برزند فوافى خش مع غروب الشمس ، فنزل خارج خندق أبي سعيد ، فلما أصبح ركب سرا ، ولم يضرب طبلا ، ولم ينشر علما ، وأمر الناس بالسكوت وجد في السير ، ورحلت القافلة التي كانت توجهت ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم ، وتعبأ بابك في أصحابه ، وسار على طريق النهر ، وهو يظن أن المال يصادفه ، فخرجت خيل بابك على القافلة ، ومعها صاحب النهر ، فقاتلهم صاحب النهر ، فقتلوه ، وقتلوا من كان معه من الجند ، وأخذوا جميع ما كان معهم ، وعلموا أن المال قد فاتهم ، وأخذوا علمه ولباس أصحابه ، فلبسوها وتنكروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضا ، ولا يعلمون بخروج الأفشين ، وجاؤوا كأنهم أصحاب النهر ، فلم يعرفوا الموضع الذي يقف فيه علم صاحب النهر ، فوقفوا في غيره .
وجاء الهيثم فوقف في موضعه ، وأنكر ما رأى ، فوجه ابن عم له ، فقال له : اذهب إلى هذا البغيض ، فقل له : لأي شيء وقوفك ، فجاء إليهم ، فأنكرهم ، فرجع إليه فأخبره ، فأنفذ جماعة غيره ، فأنكروهم أيضا ، وأخبروه أن بابك قد قتل علويه صاحب النهر ، وأصحابه ، وأخذ أعلامهم ولباسهم ، فرحل الهيثم راجعا ، ونجى القافلة التي كانت معه ، وبقي هو وأصحابه في أعقابهم حامية لهم حتى وصلت القافلة إلى الحصن ، وهو أرشق ، وسير رجلين من أصحابه إلى الأفشين وإلى أبي سعيد يعرفهما الخبر ، فخرجا يركضان ، ودخل الهيثم الحصن ، ( ونزل بابك عليه ، ووضع له كرسيا بحيال الحصن ) ، وأرسل إلى الهيثم أن خل الحصن وانصرف ، فأبى الهيثم ذلك ، فحاربه بابك وهو يشرب الخمر على عادته والحرب مشتبكة .
وسار الفارسان ، فلقيا الأفشين على أقل من فرسخ ، فقال لصاحب مقدمته : أرى فارسين يركضان ركضا شديدا ، ثم قال : اضربوا الطبل ، وانشروا الأعلام ، واركضوا نحوهما ، وصيحوا : لبيكما لبيكما ! ففعلوا ذلك ، وأجرى الناس خيلهم طلقا واحدا ، حتى لحقوا بابك وهو جالس ، فلم يطق أن يركب ، حتى وافته الخيل ، فاشتبكت الحرب ، فلم يفلت من رجالة بابك أحد ، وأفلت هو في نفر يسير من خيالته ، ودخل موقان وقد تقطع عنه أصحابه ، ورجع عنه الأفشين إلى برزند .
وأقام بابك بموقان ، وأرسل إلى البذ ، فجاءه عسكر ، فرحل بهم من موقان ، حتى دخل البذ ، ولم يزل الأفشين معسكرا ببرزند ، فلما كان في بعض الأيام مرت قافلة ، فخرج عليها أصبهبذ بابك ، فأخذها وقتل من فيها ، فقحط عسكر الأفشين لذلك ، فكتب الأفشين إلى صاحب مراغة بحمل الميرة وتعجيلها ، فوجه إليه قافلة عظيمة ، فيها قريب من ألف ثور ، سوى غيرها من الدواب ، تحمل الميرة ، ومعها جند يسيرون بها ، فخرج عليهم سرية لبابك ، فأخذوها عن آخرها ، وأصاب العسكر ضيق شديد ، فكتب الأفشين إلى صاحب شيروان يأمره أن يحمل إليه طعاما ، فحمل إليه طعاما كثيرا ، وأغاث الناس . وقدم بغا على الأفشين بما معه . ذكر بناء سامرا
وفي هذه السنة خرج المعتصم إلى سامرا لبنائها ، وكان سبب ذلك أنه قال : إني أتخوف هؤلاء الحربية أن يصيحوا صيحة فيقتلوا غلماني ، فأريد أن أكون فوقهم ، فإن رابني منهم شيء أتيتهم في البر والماء ، حتى آتي عليهم ، فخرج إليها ، فأعجبه مكانها .
وقيل كان سبب ذلك أن المعتصم كان قد أكثر من الغلمان الأتراك ، فكانوا لا يزالون يرون الواحد بعد الواحد قتيلا ، وذلك أنهم كانوا جفاة ، يركبون الدواب ، فيركضونها إلى الشوارع ، فيصدمون الرجل والمرأة والصبي ، فيأخذهم الأبناء عن دوابهم ، ويضربونهم ، وربما هلك أحدهم فتأذى بهم الناس .
خروج المعتصم إلى القاطول
ثم إن المعتصم ركب يوم عيد ، فقام إليه شيخ ، فقال له : يا أبا إسحاق ! فأراد الجند ضربه ، فمنعهم ، وقال : يا شيخ ( ما لك ، ما لك ؟ ) قال : لا جزاك الله عن الجوار خيرا ، جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك ، فأسكنتهم بيننا ، فأيتمت صبياننا ، وأرملت بهم نسواننا ، وقتلت رجالنا ، والمعتصم يسمع ذلك ، فدخل منزله ، ولم ير راكبا إلى مثل ذلك اليوم ، فخرج ، فصلى بالناس العيد ، ولم يدخل بغداد ، بل سار إلى ناحية القاطول ، ولم يرجع إلى بغداد .
قال مسرور الكبير : سألني المعتصم أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر ببغداذ قلت : بالقاطول ، وكان قد بنى هناك مدينة آثارها وسورها قائم ، وكان قد خاف من الجند ما خاف المعتصم ، فلما وثب أهل الشام بالشام وعصوا خرج إلى الرقة فأقام بها ، وبقيت مدينة القاطول لم تستم .
ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداذ ابنه الواثق .
وكان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحوف بمصر ، واستخدمهم ، وسماهم المغاربة ، وجمع خلقا من سمرقند ، وأشروسنة ، وفرغانة ، وسماهم الفراغنة ، فكانوا من أصحابه ، وبقوا بعده .
وكان ابتداء العمارة بسامرا سنة إحدى وعشرين ومائتين . ذكر قبض الفضل بن مروان
وكان من البردان ، وكان حسن الخط ، فاتصل بيحيى الجرمقاني كاتب المعتصم ، قبل خلافته ، فكان يكتب بين يديه ، فلما هلك الجرمقاني صار موضعه ، وسار مع المعتصم إلى الشام ، ومصر ، فأخذ من الأموال الكثير ، فلما صار المعتصم خليفة كان اسمها له ، وكان معناها للفضل ، واستولى على الدواوين كلها ، وكنز الأموال . الفضل بن مروان
وكان المعتصم يأمره بإعطاء المغني والنديم ، فلا ينفذ الفضل ذلك ، فثقل على المعتصم ، وكان له مضحك اسمه إبراهيم ، يعرف بالهفتي ، فأمر له المعتصم بمال ، وتقدم إلى الفضل بإعطائه ، فلم يعطه شيئا ، فبينا الهفتي يوما عند المعتصم ، يمشي معه في بستان له ، وكان الهفتي يصحبه قبل الخلافة ، ويقول له فيما يداعبه : والله لا تفلح أبدا ، وكان مربوعا بدينا ، وكان المعتصم خفيف اللحم ؛ فكان يسبقه ، ويلتفت إليه ويقول : ما لك لا تسرع المشي ؟ فلما أكثر عليه من ذلك ، قال الهفتي مداعبا له : كنت أراني أماشي خليفة ، ولم [ أكن ] أراني أماشي فيجا ، والله لا أفلحت أبدا ! فضحك المعتصم وقال : وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة ؟ فقال : أتظن أنك أفلحت ؟ لا والله ، ما لك من الخلافة إلا اسمها ، ما يتجاوز أمرك أذنيك ، إنما الخليفة الفضل ، فقال : وأي أمر لي لم ينفذ ؟ فقال الهفتي : أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين ، فما أعطيت حبة ، فحقدها على الفضل .
فقيل : أول ما أحدثه في أمره جعل زماما في نفقات الخاصة ، وفي الخراج ، وجميع الأعمال ، ثم نكبه وأهل بيته في صفر ، وأمرهم بعمل حسابهم ، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات ، فنفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل تعرف بالسن ، وصار محمد وزيرا كاتبا .
وكان الفضل شرس الأخلاق ، ضيق العطن ، كريه اللقاء ، بخيلا ، مستطيلا ، فلما نكب شمت به الناس ، حتى قال بعضهم فيه :
ليبك على الفضل بن مروان نفسه فليس له باك من الناس يعرف لقد صحب الدنيا منوعا لخيرها
وفارقها وهو الظلوم المعنف إلى النار فليذهب ، ومن كان مثله
على أي شيء فاتنا منه نأسف ؟
( في هذه السنة سير عبد الرحمن ملك الأندلس جيشا إلى طليطلة ، فقاتلوها ، فلم يظفروا بها ) .
وحج بالناس صالح بن العباس بن محمد . طاعون البصرة
وكان لرجل سبع بنين فماتوا في يوم واحد فعزي ، فقال: سلم سلم . وكان بالبصرة في هذه السنة طاعون ، مات فيه خلق كثير ،