الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            خلافة المهتدي بالله أبي عبد الله محمد بن الواثق هارون بن المعتصم  

            وأمه رومية ، وكانت تسمى قرب كان أسمر رقيقا أجلى ، رحب الوجه ، حسن اللحية ، أشهل العينين ، عظيم البطن ، عريض المنكبين ، قصيرا ، طويل اللحية ، أشيب . ولد في خلافة جده سنة بضع عشرة ومائتين . وكانت بيعته يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب من سنة خمس وخمسين ومائتين بعد خلع المعتز نفسه بين يديه وإشهاده على نفسه بأنه عاجز عن القيام بأمر الخلافة ، وأنه قد رغب إلى من يقوم بأعبائها محمد بن الواثق بالله . ثم مد يده فبايعه قبل الناس كلهم ، ثم بايعه الخاصة ثم كانت بيعة العامة وكتب على المعتز كتاب أشهد عليه فيه بالخلع والعجز والمبايعة للمهتدي .

            ودعي للمهتدي يوم الجمعة أول يوم من شعبان ولم يدع له ببغداد حتى قتل المعتز يوم السبت ليومين من شعبان .

            وكان المهتدي من أحسن الخلفاء مذهبا ، وأجملهم طريقة ، وأظهرهم ورعا ، وأكثرهم عبادة ، وأسند الحديث .



            فعن المهتدي بالله بسنده عن ابن عباس قال: قال العباس: يا رسول الله ، ما لنا في هذا الأمر شيء ؟ قال: "لي النبوة ولكم الخلافة ، بكم يفتح هذا الأمر ، وبكم يختم" .

            قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: "من أحبك نالته شفاعتي ومن أبغضك فلا نالته شفاعتي" . طرف من سيرته وأحواله

            طرف من سيرته [وأحواله  

            فعن المعافى بن زكريا قال: حدثني بعض الشيوخ -ممن شاهد جماعة من العلماء وخالط كثيرا من الرؤساء- أن هاشم بن القاسم الهاشمي قال: كنت جالسا بحضرة المهتدي عشية من العشايا ، فلما كادت الشمس تغرب وثبت لأنصرف ، وذلك في شهر رمضان ، فقال لي: اجلس . فجلست فأذن المؤذن ، وأقام [فتقدم] وصلى المهتدي بنا ، ثم ركع وركعنا .

            ودعا بالطعام ، فأحضر طبق خلاف ، عليه رغيف من الخبز النقي ، وفيه آنية في بعضها ملح ، وفي بعضها خل ، وفي بعضها زيت ، فدعاني إلى الأكل فابتدأت آكل معذرا ، ظانا أنه سيؤتى بطعام له نيقة ، وفيه سعة . فنظر إلي وقال: ألم تكن صائما؟ قلت: بلى . قال: أفلست عازما على صوم غد؟ قلت: كيف لا وهو شهر رمضان؟ فقال: كل واستوف غداءك ، فليس ها هنا من الطعام غير ما ترى .

            فعجبت من قوله ، ثم قلت: [والله لأخاطبنه في هذا المعنى ، فقلت:] ولم يا أمير المؤمنين ، وقد أسبغ الله نعمته ، وبسط قدرته ورزقه؟ فقال: [إن] الأمر لعلى ما وصفت ، والحمد لله ، ولكني فكرت في أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز ،  وكان من التقلل والتقشف على ما بلغك ، فغرت على بني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله ، فأخذت نفسي بما رأيت .

            وعن إبراهيم بن محمد بن عرفة ، وذكر المهتدي فقال: حدثني بعض الهاشميين أنه وجد له سفط فيه جبة صوف ، وكساء ، وبرنس كان يلبسه بالليل ويصلي فيه ، ويقول: أما يستحي بنو العباس أن لا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز؟!

            أخبرنا محمد بن أحمد أنه كان قد اطرح الملاهي ، [وحرم] الغناء والشرب ، وحسم أصحاب السلطان عن الظلم ،  وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين والخراج ، فحبس نفسه في الحسبانات لا يخل بالجلوس يوم الاثنين والخميس [والكتاب بين يديه] .

            وعن أبو بشر الدولابي قال: أخبرني أبو موسى العباسي قال: لم يزل المهتدي صائما منذ جلس للخلافة إلى أن قتل .

            وعن محمد بن أحمد القراريطي قال: قال لي عمي عبد الله بن إبراهيم الإسكافي قال: حضرت مجلس المهتدي بالله ، وقد جلس للمظالم ، فاستعداه رجل على ابن له ، فأمر بإحضاره ، فأحضر وأقامه إلى جنب الرجل ، فسأله عما ادعاه عليه فأقر به ، فأمره بالخروج إليه من حقه ، فكتب له بذلك كتابا ، فلما فرغ قال له الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قال الشاعر:


            حكمتموه فقضى بينكم أبلج مثل القمر الزاهر     لا يقبل الرشوة في حكمه
            ولا يبالي غبن الخاسر

            فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فجزاك الله خيرا ، وأما أنا فما جلست هذا المجلس حتى قرأت في المصحف ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [21: 47]



            فما رأيت باكيا أكثر من بكائه ذلك اليوم [تعظيم المهتدي للإمام أحمد   ]

            وقال جعفر بن عبد الواحد : (ذاكرت المهتدي بشيء ، فقلت له : كان أحمد بن حنبل يقول به ، ولكنه كان يخالف - أشير إلى من مضى من آبائه - فقال : رحم الله أحمد بن حنبل والله لو جاز لي أن أتبرأ من أبي . . . لتبرأت منه ، ثم قال لي : تكلم بالحق وقل به فإن الرجل ليتكلم بالحق فينبل في عيني ) . واستقرت الخلافة للمهتدي بالله وكان - ولله الحمد - خليفة صالحا . قال يوما للأمراء : إني ليست لي أم لها من الغلات ما يقاوم عشرة آلاف ألف دينار ، ولست أريد إلا القوت فقط ، ولا أريد فضلا على ذلك إلا لإخوتي فإنهم قد مستهم الحاجة .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية