الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3372 [ ص: 141 ] باب في غزوة ذي قرد

                                                                                                                              وقال النووي : (باب غزوة ذي قرد وغيرها) . حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 174 - 186 ج 12 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [ عن إياس بن سلمة حدثني أبي قال قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها قال فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية فإما دعا وإما بصق فيها قال: فجاشت فسقينا واستقينا قال: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة قال: فبايعته أول الناس ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط من الناس قال: "بايع يا سلمة" قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس قال وأيضا قال ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلا يعني ليس معه سلاح قال فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال "ألا تبايعني يا سلمة" قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس قال وأيضا قال فبايعته الثالثة ثم قال لي: "يا سلمة أين حجفتك أو - درقتك - التي أعطيتك" قال قلت يا رسول الله لقيني عمي عامر عزلا فأعطيته إياها قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبا، هو أحب إلي [ ص: 142 ] من نفسي" ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا قال: وكنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحسه وأخدمه وآكل من طعامه وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض. أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهلمكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى. وعلقوا سلاحهم واضطجعوا. فبينما هم كذلك، إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين قتل ابن زنيم قال فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدي قال ثم قلت والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه قال ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له: مكرز يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه" فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم الآية كلها.

                                                                                                                              [ ص: 143 ] قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة فنزلنا منزلا بيننا وبين بني لحيان جبل وهم المشركون فاستغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رقي هذا الجبل الليلة كأنه طليعة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال سلمة فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثا ثم قدمنا المدينة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقه أجمع وقتل راعيه قال فقلت يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه قال ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثا يا صباحاه ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز. أقول:


                                                                                                                              أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

                                                                                                                              .

                                                                                                                              فألحق رجلا منهم فأصك سهما في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه قال قلت خذها.


                                                                                                                              وأنا ابن الأكوع     واليوم يوم الرضع

                                                                                                                              .

                                                                                                                              قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته فعقرت به حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة قال فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بيني وبينه.

                                                                                                                              [ ص: 144 ] ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا يستخفون ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى أتوا متضايقا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضحون يعني يتغدون وجلست على رأس قرن قال الفزاري ما هذا الذي أرى قالوا لقينا من هذا، البرح. والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا قال فليقم إليه نفر منكم أربعة قال فصعد إلي منهم أربعة في الجبل قال فلما أمكنوني من الكلام قال قلت هل تعرفوني قالوا لا ومن أنت قال قلت أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته ولا يطلبني رجل منكم فيدركني قال أحدهم أنا أظن قال فرجعوا فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخللون الشجر قال فإذا أولهم الأخرم الأسدي على إثره أبو قتادة الأنصاري وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي قال فأخذت بعنان الأخرم قال فولوا مدبرين قلت يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة قال فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن قال .فعقر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه ولحق أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن [ ص: 145 ] فطعنه فقتله. فوالذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا غبارهم شيئا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش قال فنظروا إلي أعدو وراءهم فخليتهم عنه يعني أجليتهم عنه فما ذاقوا منه قطرة قال ويخرجون فيشتدون في ثنية قال: فأعدو فألحق رجلا منهم فأصكه بسهم في نغض كتفه قال قلت: خذها


                                                                                                                              وأنا ابن الأكوع     واليوم يوم الرضع

                                                                                                                              قال: يا ثكلته أمه أكوعه بكرة؟ قال قلت نعم يا عدو نفسه أكوعك بكرة قال وأردوا فرسين على ثنية قال فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي حلأتهم عنه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين وكل رمح وبردة.

                                                                                                                              وإذا بلال نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها قال قلت يا رسول الله خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه في ضوء النار فقال: "يا سلمة! أتراك كنت فاعلا؟" قلت: نعم. والذي أكرمك! فقال: "إنهم الآن ليقرون في أرض غطفان" قال: [ ص: 146 ] فجاء رجل من غطفان فقال نحر لهم فلان جزورا فلما كشفوا جلدها رأوا غبارا فقالوا أتاكم القوم فخرجوا هاربين فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة قال ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لي جميعا ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة قال فبينما نحن نسير قال وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا قال فجعل يقول ألا مسابق إلى المدينة هل من مسابق فجعل يعيد ذلك قال فلما سمعت كلامه قلت أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا؟ قال لا إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله بأبي وأمي ذرني فلأسابق الرجل قال إن شئت قال قلت اذهب إليك وثنيت رجلي فطفرت فعدوت قال فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي ثم عدوت في إثره فربطت عليه شرفا أو شرفين ثم إني رفعت حتى ألحقه قال فأصكه بين كتفيه قال قلت قد سبقت والله قال أنا أظن قال فسبقته إلى المدينة قال فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم: [ ص: 147 ]

                                                                                                                              تالله لولا الله ما اهتدينا     ولا تصدقنا ولا صلينا
                                                                                                                              ونحن عن فضلك ما استغنينا     فثبت الأقدام إن لاقينا
                                                                                                                              وأنزلن سكينة علينا

                                                                                                                              .

                                                                                                                              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا؟" قال: أنا عامر قال: "غفر لك ربك" قال وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد قال فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له يا نبي الله لولا ما متعتنا بعامر قال فلما قدمنا خيبر قال خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول:


                                                                                                                              قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب
                                                                                                                              إذا الحروب أقبلت تلهب

                                                                                                                              قال وبرز له عمي عامر فقال:


                                                                                                                              قد علمت خيبر أني عامر     شاكي السلاح بطل مغامر

                                                                                                                              .

                                                                                                                              قال فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر وذهب عامر يسفل له فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه.

                                                                                                                              قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون بطل عمل عامر قتل نفسه قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر .

                                                                                                                              [ ص: 148 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال ذلك؟" قال قلت ناس من أصحابك قال كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد فقال لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله قال فأتيت عليا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية وخرج مرحب فقال


                                                                                                                              قد علمت خيبر أني مرحب     شاكي السلاح بطل مجرب
                                                                                                                              إذا الحروب أقبلت تلهب

                                                                                                                              فقال علي:


                                                                                                                              أنا الذي سمتني أمي حيدره     كليث غابات كريه المنظره
                                                                                                                              أوفيهم بالصاع كيل السندره

                                                                                                                              قال فضرب رأس مرحب فقتله ثم كان الفتح على يديه
                                                                                                                              .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن إياس بن سلمة ، قال : حدثني أبي ، قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ، ونحن أربع عشرة مائة) هذا هو الأشهر . وفي رواية : "ثلاث عشرة مائة وفي رواية : " خمس عشرة مائة ".

                                                                                                                              [ ص: 149 ] (وعليها خمسون شاة لا ترويها . قال : فقعد رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم على جبا الركية) "الجبا " بفتح الجيم وتخفيف الباء الموحدة مقصور : وهي ما حول البئر . وأما "الركي " : فهو البئر .

                                                                                                                              والمشهور في اللغة : "ركي" بغير هاء . ووقع هنا "الركية " بالهاء .

                                                                                                                              وهي لغة حكاها الأصمعي وغيره .

                                                                                                                              (فإما دعا . وإما بسق فيها) . هكذا هو في النسخ : " بسق " بالسين . وهي صحيحة . يقال : بزق ، وبصق ، وبسق . ثلاث لغات ، بمعنى . والسين قليلة الاستعمال .

                                                                                                                              (قال : فجاشت) أي : ارتفعت وفاضت . يقال : " جاش الشيء يجيش جيشانا " : إذا ارتفع .

                                                                                                                              وفي هذا : معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقد سبق مرارا كثيرة : التنبيه على نظائرها .

                                                                                                                              (فسقينا واستقينا . قال : ثم إن رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم دعانا للبيعة ، في أصل الشجرة . قال : فبايعته أول الناس . ثم بايع وبايع . حتى إذا كان في وسط من الناس ، قال : " بايع . يا سلمة ! " قال : قلت : قد بايعتك . يا رسول الله ! في أول الناس . قال : " وأيضا " . قال : ورآني رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم [ ص: 150 ] عزلا) بفتح العين مع كسر الزاي ، وبضمهما . وقد فسره في الكتاب : بالذي لا سلاح معه . ويقال له أيضا : " أعزل " وهو أشهر استعمالا (يعني : ليس معه سلاح . قال : فأعطاني رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم حجفة ، أو درقة) هما شبيهتان بالترس .

                                                                                                                              (ثم بايع . حتى إذا كان في آخر الناس ، قال : " ألا تبايعني ؟ يا سلمة ! " قال : قلت : قد بايعتك . يا رسول الله ! في أول الناس ، وفي أوسط الناس . قال : " وأيضا " . قال : فبايعته الثالثة . ثم قال لي : " يا سلمة ! أين حجفتك - أو درقتك - التي أعطيتك ؟ " قال : قلت : يا رسول الله ! لقيني عمي " عامر "، عزلا ، فأعطيته إياها . قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم . وقال : " إنك كالذي قال الأول : اللهم ! أبغني حبيبا) . أي : أعطني (هو أحب إلي من نفسي. ثم إن المشركين راسلونا الصلح) هكذا هو في أكثر النسخ . من المراسلة . وفي بعضها : "راسونا " بضم السين المهملة المشددة . وحكى عياض فتحها أيضا . وهما بمعنى " راسلونا " مأخوذ من قولهم : " رس الحديث يرسه " إذا ابتدأه .

                                                                                                                              وقيل : من " رس بينهم) أي : أصلح.

                                                                                                                              وقيل : معناه : " فاتحونا " . من قولهم : بلغني رس من الخبر . أي أوله .

                                                                                                                              ووقع في بعض النسخ : " واسونا " بالواو . أي : اتفقنا نحن وهم على الصلح . والواو فيه ، بدل من الهمزة . وهو من الأسوة .

                                                                                                                              (حتى مشى بعضنا في بعض . واصطلحنا . قال : وكنت تبيعا لطلحة [ ص: 151 ] ابن عبيد الله) أي : خادما أتبعه (أسقي فرسه ، وأحسه) أي : أحك ظهره بالمحسة ، لأزيل عنه الغبار ونحوه (وأخدمه ، وآكل من طعامه . وتركت أهلي ومالي ، مهاجرا إلى الله تعالى ورسوله ، صلى الله عليه) وآله (وسلم . قال : فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة ، واختلط بعضنا ببعض ، أتيت شجرة فكسحت شوكها) . أي : كنست ما تحتها من الشوك (فاضطجعت في أصلها . قال : فأتاني أربعة من المشركين ، من أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم ، فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى . وعلقوا سلاحهم واضطجعوا . فبينما هم كذلك ، إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين! قتل ابن زنيم. بضم الزاي وفتح النون . (قال : فاخترطت) أي : سللت (سيفي ، ثم شددت على أولئك الأربعة ، وهم رقود ، فأخذت سلاحهم ، فجعلته ضغثا في يدي) . " الضغث ": الحزمة .

                                                                                                                              (قال : ثم قلت : والذي كرم وجه محمد !) صلى الله عليه وآله وسلم) (لا يرفع أحد منكم رأسه ، إلا ضربت الذي فيه عيناه . قال : ثم جئت بهم ، أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم ، قال : وجاء عمي عامر برجل من العبلات) بفتح العين والموحدة . قال الجوهري في الصحاح : " العبلات " : من قريش . وهم أمية الصغرى .

                                                                                                                              [ ص: 152 ] والنسبة إليهم " عبلي " ترده إلى الواحد . قال : لأن اسم أمهم " عبلة " . قال عياض : أمية الأصغر ، وأخواه ; نوفل ، وعبد الله بن عبد شمس بن عبد مناف : نسبو إلى أم لهم من بني تميم ، اسمها : " عبلة بنت عبيد " .

                                                                                                                              يقال له : " مكرز ") بكسر الميم ، ثم كاف ، ثم راء مكسورة ، ثم زاي .

                                                                                                                              (يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ، على فرس مجفف) . بفتح الجيم وفتح الفاء الأولى المشددة . أي : عليه " تجفاف " بكسر التاء . وهو ثوب كالجل ، يلبسه الفرس ليقيه من السلاح . وجمعه : " تجافيف " .

                                                                                                                              (في سبعين من المشركين . فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ، فقال . دعوهم يكن لهم بدء الفجور) بفتح الباء وإسكان الدال ، وبالهمز . أي : ابتداؤه (وثناه) بكسر الثاء . وقع في أكثر النسخ هكذا . وفي بعضها : " ثنياه " بضم الثاء وبياء بعد النون . ورواهما جميعا القاضي . وذكر الثاني : عن رواية " ابن ماهان " ، والأول : عن غيره . قال : وهو الصواب . أي : عودة ثانية .

                                                                                                                              (فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم . وأنزل الله عز وجل: وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ، الآية كلها . قال . ثم خرجنا [ ص: 153 ] راجعين إلى المدينة ، فنزلنا منزلا ، بيننا وبين بني لحيان) بكسر اللام وفتحها . لغتان . (جبل. وهم المشركون) هذه اللفظة ، ضبطوها بوجهين ذكرهما عياض وغيره ; أحدهما : " وهم المشركون "، بضم الهاء على الابتداء والخبر .

                                                                                                                              والثاني : بفتح الهاء وتشديد الميم . أي : هموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وخافوا غائلتهم . يقال : همني الأمر ، وأهمني .

                                                                                                                              وقيل : " همني "، أذابني . " وأهمني " : أغمني . (فاستغفر رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم لمن رقي هذا الجبل) بكسر القاف . وكذا قوله بعده : " فرقيت ". كلاهما بكسرها . (الليلة . كأنه طليعة للنبي صلى الله عليه) وآله (وسلم وأصحابه . قال سلمة : فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثا . ثم قدمنا المدينة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم بظهره مع رباح ، غلام رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم وأنا معه . وخرجت معه بفرس طلحة أنديه مع الظهر) .

                                                                                                                              قال النووي : هكذا ضبطناه ; بهمزة مضمومة ، ثم نون مفتوحة ، ثم دال مكسورة مشددة . ولم يذكر عياض في الشرح ، عن أحد من رواة مسلم : غير هذا . ونقله في " المشارق " عن جماهير الرواة . قال : [ ص: 154 ] ورواه بعضهم عن أبي الحذاء ، في مسلم : " أبديه "، بالباء الموحدة بدل النون . وكذا قاله ابن قتيبة أي : أخرجه إلى البادية ، وأبرزه إلى موضع الكلإ . وكل شيء أظهرته ، فقد أبديته . والصواب : رواية الجمهور بالنون . وهي رواية جميع المحدثين ، وقول الأصمعي ، وأبي عبيد في غريبه ، والأزهري ، وجماهير أهل اللغة والغريب . ومعناه : أن يورد الماشية الماء فتسقى قليلا ، ثم ترسل في المرعى . ثم ترد الماء ، فترد قليلا . ثم ترد إلى المرعى .

                                                                                                                              قال الأزهري : أنكر ابن قتيبة على أبي عبيد والأصمعي : كونهما جعلاه بالنون . وزعم أن الصواب بالباء . قال الأزهري : أخطأ ابن قتيبة . والصواب : قول الأصمعي .

                                                                                                                              (فلما أصبحنا ، إذا عبد الرحمن الفزاري ، قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم فاستاقه أجمع ، وقتل راعيه .

                                                                                                                              قال : فقلت : يا رباح ! خذ هذا الفرس ، فأبلغه طلحة بن عبيد الله . وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم : أن المشركين قد أغاروا على سرحه . قال : ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة ، فناديت ثلاثا يا صباحاه ! ثم خرجت في آثار القوم ، أرميهم بالنبل ، وأرتجز أقول :


                                                                                                                              أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

                                                                                                                              .

                                                                                                                              [ ص: 155 ] فألحق رجلا منهم ، فأصك) أي : أضرب (سهما في رحله ، حتى خلص نصل السهم إلى كتفه) . هكذا هو في معظم الأصول المعتمدة : " رحله " بالحاء . "و كتفه " بالتاء بعدها فاء . وكذا نقله صاحب المشارق والمطالع . وكذا هو في أكثر الروايات . وهو الأظهر .

                                                                                                                              وفي بعضها : "رجله " بالجيم . " وكعبه " بالعين ثم الموحدة . قالوا : والصحيح : الأول ، لقوله في الرواية الأخرى : " فأصكه بسهم في نغض كتفه " . قال عياض في الشرح : هذه رواية شيوخنا . وهو أشبه بالمعنى ، لأنه يمكن أن يصيب أعلى مؤخرة الرحل ، فيصيب حينئذ " إذا أنفذه " كتفه .

                                                                                                                              (قال : قلت : خذها .


                                                                                                                              وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع

                                                                                                                              .

                                                                                                                              قال : فوالله ! ما زلت أرميهم) أي بالنبل . قال عياض : ورواه بعضهم هنا " أرديهم " بالدال . (وأعقر بهم) أي : أعقر خيلهم . (فإذا رجع إلي فارس ، أتيت شجرة فجلست في أصلها ، ثم رميت فعقرت به . حتى إذا تضايق الجبل ، فدخلوا في تضايقه ، علوت الجبل . فجعلت أرديهم بالحجارة) أي : أرميهم بالحجارة التي تسقطهم وتنزلهم (قال : فما زلت كذلك أتبعهم ، حتى ما خلق الله تعالى من بعير ، من ظهر [ ص: 156 ] رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ، إلا خلفته وراء ظهري ، وخلوا بيني وبينه . ثم أتبعهم) أرميهم ، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة ، وثلاثين رمحا ، يستخفون . ولا يطرحون شيئا ، إلا جعلت عليه آراما من الحجارة) بهمزة ممدودة ، ثم راء مفتوحة . وهي الأعلام . وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة ، يهتدى بها . واحدها : "إرم " كعنب وأعناب .

                                                                                                                              (يعرفها رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم وأصحابه . حتى أتوا متضايقا من ثنية ، فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري . فجلسوا يتضحون . " يعني : يتغدون ". وجلست على رأس قرن) بفتح القاف وإسكان الراء . وهو كل جبل صغير ، منقطع عن الجبل الكبير .

                                                                                                                              (قال الفزاري : ما هذا الذي أرى ؟ قالوا : لقينا من هذا . البرح) بفتح الباء وإسكان الراء . أي : شدة .

                                                                                                                              (والله ! ما فارقنا منذ غلس ، يرمينا ، حتى انتزع كل شيء في أيدينا . قال : فليقم إليه نفر منكم ، أربعة . قال : فصعد إلي منهم أربعة في الجبل . فلما أمكنوني من الكلام ، قال : قلت : هل تعرفونني) ؟ قالوا : لا. ومن أنت ؟ قال : قلت : أنا سلمة بن الأكوع. والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وآله وسلم) . لا أطلب رجلا [ ص: 157 ] منكم ، إلا أدركته . ولا يطلبني رجل منكم فيدركني . قال أحدهم : أنا أظن . قال : فرجعوا . فما برحت مكاني ، حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ، يتخللون الشجر) أي : يدخلون من خلالها . أي : بينها .

                                                                                                                              قال : فإذا أولهم : الأخرم الأسدي ، وعلى إثره أبو قتادة الأنصاري . وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي) رضي الله عنهم

                                                                                                                              (قال : فأخذت بعنان الأخرم . قال : فولوا مدبرين . قلت : يا أخرم) ! احذرهم لا يقتطعوك ، حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم وأصحابه . قال : يا سلمة ! إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر ، وتعلم أن الجنة حق والنار حق ، فلا تحل بيني وبين الشهادة . قال : فخليته . فالتقى هو وعبد الرحمن . قال : فعقر بعبد الرحمن فرسه . وطعنه عبد الرحمن فقتله ، وتحول على فرسه . ولحق أبو قتادة ، فارس رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم بعبد الرحمن ، فطعنه فقتله . فوا الذي كرم وجه محمد صلى الله عليه) وآله وسلم، لتبعتهم أعدو على رجلي ، حتى ما أرى ورائي ، من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله (وسلم ولا غبارهم شيئا . حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء ، يقال له : ذا قرد) . كذا هو في أكثر النسخ المعتمدة : "ذا " بألف. وفي بعضها : " ذو قرد " . قال النووي :

                                                                                                                              [ ص: 158 ] وهو الوجه . (ليشربوا منه وهم عطاش . قال : فنظروا إلي ، أعدو وراءهم . فحليتهم عنه) بحاء مهملة ، ولام مشددة غير مهموزة . أي : طردتهم عنه . وقد فسره في الحديث بقوله : (يعني : أجليتهم عنه) بالجيم .

                                                                                                                              قال عياض : كذا روايتنا فيه هنا ، غير مهموز . قال : وأصله الهمز ، فسهله . وقد جاء مهموزا بعد هذا ، في هذا الحديث .

                                                                                                                              (فما ذاقوا منه قطرة . قال : ويخرجون ، فيشتدون في ثنية . قال : فأعدو فألحق رجلا منهم ، فأصكه بسهم في نغض كتفه) . بضم النون وسكون الغين المعجمة ، ثم ضاد معجمة . وهو العظم الرقيق على طرف الكتف. سمي بذلك : لكثرة تحركه . وهو الناغض أيضا . (قال قلت : خذها .


                                                                                                                              وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع.

                                                                                                                              .

                                                                                                                              قال : يا ثكلته) أي فقدته (أمه ! أكوعه بكرة ؟ قال : قلت : نعم) .

                                                                                                                              " وأكوعه " برفع العين . أي : أنت الأكوع ، الذي كنت بكرة هذا النهار ؟ ولهذا قال : نعم .

                                                                                                                              " وبكرة " منصوب غير منون . قال أهل العربية : يقال : " أتيته بكرة " بالتنوين . إذا أردت أنك لقيته باكرا ، في يوم غير معين . قالوا : وإن أردت "بكرة يوم بعينه " ، قلت : " أتيته بكرة" غير مصروف [ ص: 159 ] لأنها من الظروف الغير المتمكنة (يا عدو نفسه ! أكوعك بكرة .

                                                                                                                              قال : وأردوا فرسين على ثنية) . قال عياض : رواية الجمهور : بالدال المهملة . ورواه بعضهم : بالمعجمة . قال : وكلاهما متقارب المعنى . فبالمعجمة ، معناه : خلفوهما " والرذي ": الضعيف من كل شيء .

                                                                                                                              وبالمهملة ، معناه : أهلكوهما وأتعبوهما ، حتى أسقطوهما وتركوهما .

                                                                                                                              ومنه : " المتردية ". وأردت الفرس الفارس : أسقطته .

                                                                                                                              (قال : فجئت بهما ، أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم . قال : ولحقني عامر بسطيحة) أي : إناء من جلود ، سطح بعضها على بعض . (فيها مذقة) بفتح الميم وإسكان الذال المعجمة : قليل (من لبن) ممزوج بماء (وسطيحة فيها ماء . فتوضأت وشربت . ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو على الماء الذي حلأتهم عنه) كذا هو في أكثر النسخ : بالحاء والهمز . وفي بعضها : "حليتهم عنه " بلام مشددة ، غير مهموز وقد سبق بيانه قريبا .

                                                                                                                              (فإذا رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم ، قد أخذ تلك الإبل ، وكل شيء استنقذته من المشركين ، وكل رمح وبردة . وإذا بلال نحر ناقة من الإبل التي استنقذت من القوم) كذا في بعض النسخ ، وهو أوجه ، لأن الإبل مؤنثة . وكذا أسماء الجموع من غير الآدميين .

                                                                                                                              [ ص: 160 ] وفي أكثرها : " الذي ". وهو صحيح أيضا . فحينئذ أعاد الضمير فيما يأتي ، من قوله " كبدها ، وسنامها " : إلى الغنيمة . لا إلى لفظ الإبل.

                                                                                                                              (وإذا هو يشوي لرسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم ، من كبدها وسنامها . قال : قلت : يا رسول الله ! خلني ، فأنتخب من القوم مائة رجل ، فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته . قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم ، حتى بدت نواجذه في ضوء النار) أي : أنيابه . وقيل : أضراسه . والصحيح : الأول . (فقال : " يا سلمة ! أتراك كنت فاعلا ؟ " قلت : نعم . والذي أكرمك ! فقال : " إنهم الآن ليقرون في أرض " غطفان " قال : فجاء رجل من غطفان . فقال : نحر لهم فلان جزورا . فلما كشفوا جلدها رأوا غبارا . فقالوا : أتاكم القوم ، فخرجوا هاربين . فلما أصبحنا ، قال رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم : " كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة . وخير رجالتنا سلمة ")) .

                                                                                                                              فيه : استحباب الثناء على الشجعان ، وسائر أهل الفضائل . لا سيما عند صنيعهم الجميل . لما فيه من الترغيب لهم ولغيرهم ، في الإكثار من ذلك الجميل . قال النووي : وهذا كله ، في حق من يأمن الفتنة عليه بإعجاب ونحوه .

                                                                                                                              (قال : ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم سهمين :

                                                                                                                              سهم الفارس ، وسهم الراجل . فجمعهما لي جميعا) .

                                                                                                                              [ ص: 161 ] هذا محمول على أن الزائد على سهم الراجل كان نفلا . وهو حقيق باستحقاق النفل " رضي الله عنه "، لبديع صنعه في هذه الغزوة .

                                                                                                                              (ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وراءه ، على العضباء . راجعين إلى المدينة . قال : فبينما نحن نسير . قال : وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا) يعني : عدوا على الرجلين . (قال : فجعل يقول : ألا مسابق إلى المدينة ؟ هل من مسابق إلى المدينة ؟ فجعل يعيد ذلك . قال : فلما سمعت كلامه ، قلت . أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا ؟ قال : لا . إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم . قال : قلت : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ! ذرني فلأسابق الرجل) . قال : " إن شئت " . قال : قلت : اذهب إليك . وثنيت رجلي فطفرت) أي : وثبت وقفزت (فعدوت . قال : فربطت عليه شرفا وشرفين) ، أستبقي نفسي) . معنى ربطت : حبست نفسي عن الجري الشديد . " والشرف " : ما ارتفع من الأرض . " ونفسي " بفتح الفاء . أي : لئلا يقطعني البهر .

                                                                                                                              وفي هذا : دليل لجواز المسابقة على الأقدام . قال النووي : وهو جائز بلا خلاف . إذا تسابقا بلا عوض . فإن تسابقا على عوض ، ففي صحتها خلاف ، الأصح عند الشافعية : لا تصح .

                                                                                                                              [ ص: 162 ] (ثم عدوت في إثره . فربطت عليه شرفا ، أو شرفين . قال . ثم إني رفعت حتى ألحقه . قال : فأصكه بين كتفيه . قال : قلت : قد سبقت . والله ! قال : أنا أظن . قال : فسبقته إلى المدينة . قال : فوالله ! ما لبثنا إلا ثلاث ليال ، حتى خرجنا إلى خيبر ، مع رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم . قال : فجعل عمي "عامر" يرتجز بالقوم) هكذا هنا : " عمي" . وفي حديث أبي الطاهر ، عن ابن وهب ; أنه قال : "أخي" . فلعله كان أخاه من الرضاعة . وكان عمه من النسب . قاله النووي . ويحتمل : أخوته في الإسلام أيضا .


                                                                                                                              تالله ! لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
                                                                                                                              ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبت الأقدام إن لاقينا
                                                                                                                              وأنزلن سكينة علينا

                                                                                                                              .

                                                                                                                              فقال رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم . " من هذا ؟ " قال : أنا عامر . قال : " غفر لك ربك " . قال : وما استغفر رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم لإنسان يخصه ، إلا استشهد . قال : فنادى عمر بن الخطاب ، وهو على جمل له : يا نبي الله ! لولا متعتنا بعامر. قال : فلما قدمنا خيبر . قال : خرج ملكهم " مرحب " ، يخطر بسيفه) بكسر [ ص: 163 ] الطاء . أي : يرفعه مرة ، ويضعه أخرى . ومثله : " خطر البعير بذنبه يخطر ، بالكسر . أي رفعه مرة ، ووضعه مرة . (ويقول :


                                                                                                                              قد علمت خيبر أني مرحب شاك السلاح بطل مجرب

                                                                                                                              .

                                                                                                                              أي : تام السلاح . يقال : " رجل شاكي السلاح". وشاك السلاح .

                                                                                                                              وشاك في السلاح : من الشوكة . وهي القوة . والشوكة أيضا : السلاح ومنه قوله تعالى : وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم .

                                                                                                                              " ومجرب " ، بفتح الراء . معناه : مجرب بالشجاعة وقهر الفرسان .

                                                                                                                              " والبطل " : الشجاع . يقال : بطل الرجل بضم الطاء . يبطل بطالة وبطولة . أي : صار شجاعا .

                                                                                                                              (إذا الحروب أقبلت تلهب .

                                                                                                                              قال : وبرز له عمي " عامر " ، فقال :


                                                                                                                              قد علمت خيبر أني عامر شاك السلاح بطل مغامر

                                                                                                                              .

                                                                                                                              بالغين المعجمة . أي : يركب غمرات الحرب وشدائدها ، ويلقي نفسه فيها .

                                                                                                                              (قال : فاختلفا ضربتين . فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر . وذهب عامر يسفل له) بفتح الياء وإسكان السين وضم الفاء . أي : يضربه من أسفله (فرجع سيفه على نفسه ، فقطع أكحله ، فكانت [ ص: 164 ] فيها نفسه . قال سلمة : فخرجت ، فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولون : بطل عمل عامر . قتل نفسه . قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنا أبكي . فقلت : يا رسول الله ! بطل عمل عامر ؟ قال : رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم : " من قال ذلك ؟ " قال : قلت : ناس من أصحابك . قال : "كذب من قال ذلك . بل له أجره مرتين ". ثم أرسلني إلى علي رضي الله عنه) (وهو أرمد) .

                                                                                                                              قال أهل اللغة : يقال : " رمد الإنسان "، بكسر الميم . " يرمد " بفتحها .

                                                                                                                              " رمدا " فهو رمد وأرمد : إذا هاجت عينه .

                                                                                                                              (فقال : لأعطين الراية رجلا يحب الله تعالى (ورسوله) ، صلى الله عليه وآله وسلم ، (ويحبه الله ورسوله . قال : فأتيت عليا ، فجئت به أقوده ، وهو أرمد . حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وآله (وسلم ، فبسق في عينيه فبرأ . وأعطاه الراية . وخرج مرحب فقال :


                                                                                                                              قد علمت خيبر أني مرحب شاك السلاح بطل مجرب
                                                                                                                              إذا الحروب أقبلت تلهب .



                                                                                                                              فقال علي رضي الله عنه:


                                                                                                                              أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره

                                                                                                                              .

                                                                                                                              " حيدره " اسم للأسد . وكان علي رضي الله عنه ، قد سمي " أسدا "، [ ص: 165 ] في أول ولادته . وكان مرحب قد رأى في المنام : أن أسدا يقتله . فذكره علي كرم الله وجهه ذلك ، ليخيفه ويضعف نفسه . قالوا : وكانت أم علي سمته أول ولادته : " أسدا " باسم جده لأمه " أسد بن هشام بن عبد مناف " . وكان أبو طالب غائبا . فلما قدم سماه : " عليا " .

                                                                                                                              وسمي الأسد " حيدرة " : لغلظه . والحادر الغليظ القوي .

                                                                                                                              ومراده : أنا الأسد ، على جرأته وإقدامه وقوته . ومن هنا يقال له :

                                                                                                                              " أسد الله الغالب ".

                                                                                                                              (أوفيهم بالصاع كيل السندره) .

                                                                                                                              معناه : أقتل الأعداء ، قتلا واسعا ذريعا .

                                                                                                                              " والسندرة " : مكيال واسع . وقيل : هي العجلة . أي : أقتلهم عاجلا.

                                                                                                                              وقيل : مأخوذ من " السندرة " . وهي شجرة الصنوبر . يعمل منها النبل والقسي .

                                                                                                                              (قال : فضرب رأس مرحب فقتله . ثم كان الفتح على يديه) .

                                                                                                                              قال النووي : هذا هو الأصح ; أن عليا هو قاتل مرحب . قلت : وفاتح خيبر أيضا .

                                                                                                                              وقيل : إن قاتله : محمد بن مسلمة . قال " ابن عبد البر " في كتابه الدرر ، في مختصر السير : قال محمد بن إسحاق : إن محمد [ ص: 166 ] ابن مسلمة هو قاتله . قال: وقال غيره : إنما كان قاتله عليا . قال ابن عبد البر : هذا هو الصحيح عندنا . ثم روى ذلك بإسناده ، عن سلمة وبريدة . قال ابن الأثير : الصحيح الذي عليه أكثر أهل الحديث ، وأهل السير : أن عليا هو قاتله . والله أعلم .

                                                                                                                              وفي هذا الحديث : أنواع من العلم ، سوى ما سبق التنبيه عليه ;

                                                                                                                              منها : أربع معجزات لرسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ;

                                                                                                                              إحداها : تكثير ماء الحديبية .

                                                                                                                              والثانية : إبراء عين علي ، رضي الله عنه .

                                                                                                                              والثالثة : الإخبار بأنه يفتح الله على يديه . وقد جاء التصريح به في رواية غير مسلم هذه.

                                                                                                                              والرابعة : إخباره ، صلى الله عليه وآله وسلم : بأنهم يقرون في غطفان .

                                                                                                                              وكان كذلك .

                                                                                                                              ومنها : جواز الصلح مع العدو .

                                                                                                                              ومنها : بعث الطلائع ، وجواز المسابقة على الأرجل بلا عوض . وفضيلة الشجاعة والقوة .

                                                                                                                              ومنها : مناقب سلمة بن الأكوع. وأبي قتادة . والأحزم الأسعدي .

                                                                                                                              [ ص: 167 ] ومنها : جواز الثناء على من فعل جميلا . واستحباب ذلك ، إذا ترتب عليه مصلحة .

                                                                                                                              ومنها : جواز عقر خيل العدو في القتال . واستحباب الرجز في الحرب. وجواز قول الرامي والطاعن والضارب : خذها . وأنا ابن فلان . أو أنا فلان .

                                                                                                                              ومنها : جواز الأكل من الغنيمة . واستحباب التنفيل ، لمن صنع صنعا جميلا في الحرب . وجواز الإرداف على الدابة المطيقة . وجواز المبارزة بغير إذن الإمام ، كما بارز عامر.

                                                                                                                              ومنها : ما كانت الصحابة عليه ، من حب الشهادة والحرص عليها .

                                                                                                                              ومنها : إلقاء النفس في غمرات القتال . وقد اتفقوا على جواز التغرير بالنفس في الجهاد ، في المبارزة ونحوها .

                                                                                                                              ومنها : أن من مات في حرب الكفار بسبب القتال ، يكون شهيدا . سواء مات بسلاحهم) ، أو رمته دابة أو غيرها ، أو عاد عليه سلاحه ، كما جرى لعامر .

                                                                                                                              ومنها : تفقد الإمام الجيش . ومن رآه بلا سلاح ، أعطاه سلاحا .

                                                                                                                              إلى غير ذلك من الفوائد ، التي تظهر بأدنى تأمل .




                                                                                                                              الخدمات العلمية