الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              82 [ ص: 289 ] باب: الدين النصيحة

                                                                                                                              وقال النووي في الجزء الأول: ( باب بيان أن الدين النصيحة) .

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص36-37 ج2 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [ ( عن تميم الداري ) رضي الله عنه; ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" ) ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              قال النووي : هذا حديث عظيم الشأن. وعليه مدار الإسلام، كما سنذكره من شرحه. وأما ما قاله جماعات من العلماء: أنه أحد أرباع الإسلام. أي: أحد الأحاديث الأربعة، التي تجمع أمور الإسلام، فليس كما قالوه. بل المدار على هذا وحده. وهذا الحديث من أفراد مسلم . وليس لتميم الداري في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء. ولا له في مسلم عنه: غير هذا الحديث. وفي نسبته اختلاف: وأنه "داري"، أو "ديري".

                                                                                                                              وأما شرح الحديث; فقال أبو سليمان الخطابي : "النصيحة" كلمة جامعة. معناها: حيازة الحظ للمنصوح له. قال: ويقال: هو من [ ص: 290 ] وجيز الأسماء، ومختصر الكلام. وليس في كلام العرب: كلمة مفردة يستوفي بها العبارة، عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في "الفلاح" ليس في كلام العرب، كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه. قال: وقيل: "النصيحة" مأخوذة من ( نصح الرجل ثوبه) : إذا خاطه. فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه، من صلاح المنصوح له: ما يشده من خلل الثوب. قال: وقيل: إنها مأخوذة من ( نصحت العسل) : إذا صفيته من الشمع. شبهوا تخليص القول من الغش، بتخليص العسل من الخلط.

                                                                                                                              قال: ومعنى الحديث: عماد الدين وقوامه: النصيحة. كقوله: " الحج عرفة " أي: عماده ومعظمه: "عرفة".

                                                                                                                              وأما تفسير النصيحة وأنواعها، فقد ذكر الخطابي وغيره من العلماء فيها: كلاما نفيسا، أنا أضم بعضه إلى بعض مختصرا;

                                                                                                                              قالوا: "أما النصيحة لله تعالى"، فمعناها مصروف إلى: الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه "سبحانه وتعالى" من جميع النقائص. والقيام بطاعته واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض فيه، وموالاة من أطاعه ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمته وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف [ ص: 291 ] المذكورة والحث عليها، والتلطف في جميع الناس، أو من أمكن منهم، عليها.

                                                                                                                              قال الخطابي : وحقيقة هذه الإضافة، راجعة إلى العبد في نصحه نفسه. فالله تعالى غني عن نصح الناصح.

                                                                                                                              "وأما النصيحة لكتابه سبحانه"; فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه، وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها، وإقامة حروفه في التلاوة، والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه، وناسخه ومنسوخه. ونشر علومه، والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته.

                                                                                                                              "وأما النصيحة لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم": فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيا وميتا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته، ونشر شريعته ونفي التهمة عنها، واستثارة علومها، والتفقه في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها، وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك [ ص: 292 ] عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك.

                                                                                                                              "وأما النصيحة لأئمة المسلمين": فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم. قال الخطابي : ومن النصيحة لهم: الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح. وهذا كله على أن المراد بأئمة المسلمين: "الخلفاء، وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين، من أصحاب الولايات"، وهذا هو المشهور. وحكاه أيضا الخطابي، ثم قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة، الذين هم علماء الدين. وأن من نصيحتهم: قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم.

                                                                                                                              "وأما نصيحة عامة المسلمين، وهم من عدا ولاة الأمر": فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم; وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم [ ص: 293 ] ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم: بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط هممهم إلى الطاعات. وقد كان في السلف "رضي الله عنهم": من تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه. والله أعلم.

                                                                                                                              قال النووي : هذا آخر ما تلخص في تفسير النصيحة. وقال "ابن بطال" في هذا الحديث: إن النصيحة تسمى دينا وإسلاما. وإن الدين يقع على العمل كما يقع على القول .

                                                                                                                              قال: والنصيحة فرض; يجزي فيه من قام به، ويسقط عن الباقين.

                                                                                                                              قال: والنصيحة لازمة، على قدر الطاقة، إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه. فإن خشي على نفسه أذى، فهو في سعة. والله أعلم. انتهى.

                                                                                                                              قلت: وما أحق هذا الحديث بإفراز التأليف! فقد جمع من خير الدنيا والدين كل شيء. ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة من الصالحات، [ ص: 294 ] إلا وقد حواه. وكلام أهل العلم في معناه طويل جدا. وذكره كله يستدعي مؤلفا مستقلا. وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ.




                                                                                                                              الخدمات العلمية