الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فلا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين وهو عين الحماقة فإن العلم سبب النجاة والسعادة .

ومن يطلب مهربا من سبع ضار يفترسه لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل وضراوة سباع النار بالجهال بالله تعالى أشد من ضراوة كل سبع .

فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائنا من كان فلذلك قيل .


العلم حرب للفتى المتعالي كالسيل حرب للمكان العالي

فلا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع قال الله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلا للعلم فهما ثم لا تعينه القدرة على الفهم حتى يلقي السمع وهو شهيد حاضر القلب ليستقيل كل ما ألقي إليه بحسن الإصغاء والضراعة والشكر والفرح وقبول المنة .

فليكن المتعلم لمعلمه كأرض دمثة نالت مطرا غزيرا فتشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله .

التالي السابق


وإذا عرفت ذلك (فلا ينبغي للطالب) في طريق الحق (أن يتكبر على المعلم) بوجه من الوجوه بل يتملق له ويتواضع بمخالفته للنفس والهوى في ذلك (ومن) جملة (تكبره على المعلم أن يستنكف) أي: يتكبر ويأنف (عن الاستفادة) والأخذ (إلا عن المرموقين) أي: المنظور إليهم (من المشهورين) من أهل التدريس والجاه (وهو عين الحماقة) أي: فساد العقل نقله الأزهري (فإن العلم) من حيث هو هو (سبب النجاة) من عذاب الجهل والضلال (و) سبب (السعادة) الكبرى في الدنيا والأخرى (ومن يطلب مهربا) أي: هروبا (من سبع ضار) رام أن (يفرسه) وينشب فيه مخالبه (لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب) والخلاص منه (مشهور أو خامل) الذكر وذلك معلوم بالضرورة لكل أحد (وضرواة سباع النار) أي: ولعهم ولهجهم (بالجهال بالله -عز وجل- أشد) وأقوى (من ضراوة كل سبع) في كل وقت (والحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها) والجملة الأولى وقعت في حديث رواه الترمذي في أواخر باب العلم من جامعه من طريق إبراهيم بن الفضل عن سعيد المقري عن أبي هريرة رفعه: الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها، وقال إنه غريب وإبراهيم يضعف وعند البيهقي في المدخل من حديث سعيد بن أبي بردة قال: كان يقال الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها وقد تقدم شيء من ذلك في أول الكتاب وفي شرح المناوي على الجامع الصغير، قال النووي -رحمه الله تعالى- في الحكمة أقوال كثيرة مضطربة اقتصر كل من قائليها على بعض صفاتها وقد صفا لنا منها أنها عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله المصحوب بنفاذ [ ص: 314 ] البصيرة وتهذيب النفس والأخلاق وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل والحكيم من له ذلك. اهـ .

(ويتقلد المنة) أي: الشكر (لمن ساقها إليه) أي: أوصلها له (كائنا من كان) وقد روى العسكري من حديث عتبة بن عبد الرحمن عن شبيب بن بشير عن أنس رفعه: العلم ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها وعند القضاعي في آخر هذا الحديث حيثما وجد المؤمن ضالة فليجمعها إليه، ويروى عن ابن عمر رفعه: خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت ونحو هذا يروى عن قول علي -رضي الله عنه- قال العسكري: أراد -صلى الله عليه وسلم- أن الحكيم يطلب الحكمة أبدا وينشدها فهو بمنزلة المضل ناقة يطلبها، ثم أسند عن مبارك بن فضالة، قال خطب الحجاج فقال: إن الله أمرنا بطلب الآخرة وكفانا مؤنة الدنيا فليته كفانا مؤنة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا، فقال الحسن ضالة المؤمن عند فاسق فليأخذها، وعن يوسف بن أسباط قال كنت مع سفيان الثوري وحازم بن خزيمة يخطب فقال في خطبته: إن يوما أسكر الكبار وشيب الصغار ليوم عسير شره مستطير فقال سفيان حكمة من جوف خرب، ثم أخرج سريحة يعني لوحا فكتبها نقله السخاوي في المقاصد ومن كلام علي -رضي الله عنه- انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال: ومن أمثالهم المشهورة العق العسل ولا تسل (ولذلك قيل) فيما مضى:

(العلم حرب للفتى المتعالي كالسيل حرب للمكان العالي)

أي: إن العلم عدو المتكبر حرب عليه لا يجتمعان معا والمتعالي هو المفتخر المتكبر بما عنده كما أن السيل عدو المكان المرتفع، المحدودب فإنه لم يزل بأمواجه وهيجانه حتى يوطئه وذلك مشاهد (فلا ينال) العلم يا أخي (إلا بالتواضع) والتملق والانقياد للمعلم (وإلقاء السمع) ، وهذا شرط ثان بعد التواضع فإنه إذا انقاد وتملق له ولكنه لم يلق سمعه لما يقوله لم يستفد شيئا (قال الله تعالى) في كتابه العزيز ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) .

قال الراغب والسمين في تفسير قوله: لمن كان له قلب أي: عقل وفهم وقد يعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من العلم وعليه خرجت الآية، وإلقاء السمع هو الإصغاء بأذن قلبه، وهو شهيد أي: يشهد ما يسمعه بقلبه على حد من قيل فيهم أولئك ينادون من مكان بعيد . اهـ .

وقال ابن القيم: تأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم وكيف تفتح مراعاتها للعبد أبواب العلم، والهدى وكيف ينغلق باب العلم عنه من إهمالها وعدم مراعاتها، فإنه سبحانه ذكر أن آياته المسموعة والمرئية المشهورة إنما تكون تذكرة لمن كان له قلب فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات فهو يراها ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين: أحدهما: أن يحضره ويشهده لما يلقى إليه فإذا كان غائبا عنه مسافرا في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به فإذا أحضره وأشهده لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويصغي بكليته إلى ما يوعظ به، قال ابن عطية: القلب هنا عبارة عن العقل إذ هو محله، وقال بعض المتأولين في معنى "وهو شهيد": أي: شاهد مقبل على الأمر غير معرض عنه، وقال قتادة: هي إشارة إلى أهل الكتاب، كأنه قال لمن سمعها من أهل الكتاب فشهد بصحتها لعلمه بها فشهد على الأول من المشاهدة وعلى الثاني من الشهادة وهذا القول عن قتادة نقله ابن عطية، وأشار له الزجاج والزمخشري ولم يختلفوا في أن المراد بالقلب القلب الواعي، وأن المراد بإلقاء السمع إصغاؤه وإقباله، على الذكر وإنما اختلفوا في الشهيد على أربعة أقوال: أحدها أنه من المشاهدة وهي الحضور وهذا أصح الأقوال، ولا يليق بالآية غيره، والثاني: أنه من الشهادة وفيه على هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شاهد على صحته بما معه من الإيمان الثاني: أنه شاهد من الشهداء على الناس يوم القيامة الثالث: أنه شهادة من الله عنده على صحة نبوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما علمه من الكتب المنزلة .

والصواب: القول الأول فإن قوله: وهو شهيد، جملة حالية، والواو فيها واو الحال، أي: ألقى السمع في هذه الحال وهذا يقتضي أن يكون حال إلقائه السمع شهيدا [ ص: 315 ] وهذا هو المشاهدة والحضور ولو كان المراد به الشهادة في الآخرة أو في الدنيا لما كان لتقييدها بإلقاء السمع معنى إذ يصير الكلام إن في ذلك لآية لمن كان له قلب أو ألقى السمع حال كونه شاهدا بما معه في التوراة أو حال كونه شهيدا يوم القيامة ولا ريب أن هذا ليس هو المراد بالآية وأيضا فالآية عامة في كل من له قلب وألقى السمع فكيف يدعي تخصيصها بمؤمني أهل الكتاب الذين عندهم شهادة في كتبهم على صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأيضا فالسورة مكية والخطاب فيها لا يجوز أن يختص بأهل الكتاب ولا سيما مثل هذا الخطاب الذي علق فيه حصول مضمون الآية ومقصودها بالقلب الواعي وإلقاء السمع فكيف يقال: هي في أهل الكتاب فإن قيل المختص بهم قوله وهو شهيد فهذا أفسد وأفسد؛ لأن قوله وهو شهيد يرجع الضمير فيه إلى جملة من تقدم وهو من له قلب أو ألقى، فكيف يدعي عوده إلى شيء غايته أن يكون بعض المذكور أولا ولا دلالة في اللفظ عليه فهذا في غاية الفساد، وأيضا فإن المشهود به محذوف ولا دلالة في اللفظ عليه فلو كان المراد وهو شاهد بكذا لذكر المشهود به إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه وهذا بخلاف ما إذا جعل من الشهود وهو الحضور فإنه لا يقتضي مفعولا مشهودا به فيتم الكلام بذكره وحده، وأيضا فإن الآية تضمنت تقسيما وترديدا بين قسمين: أحدهما: من كان له قلب، والثاني: من ألقى السمع، وحضر بقلبه ولم يغب فهو حاضر القلب شاهده لا غائب وهذا والله أعلم سر الإتيان بأو دون الواو. اهـ .

وإلى هذا أشار المصنف حيث قال (ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلا للعلم) باستعداده الأزلي ومحلا له (فهيما) بحسن إدراكه وتصوره قادرا عليه (ثم لا تغنيه القدرة على الفهم) أي: لا يكفيه مجرد استعداده وإدراكه لما يلقى إليه (حتى يلقي السمع) بحسن إصغائه مع التدبر (وهو شهيد) أي: (حاضر القلب) غير غائبه (يستقبل) بثواقب أذهانه الصافية (كل ما ألقي إليه) من المعلم (بحسن الإصغاء) أي: الاستماع (والضراعة) أي: التواضع (والشكر) في مقابلة هذه النعمة بل النعم، فإن الطالب إذا تفكر في نفسه بأن الله تعالى أراد به خيرا حيث وفقه من الأزل لطلب ما ينجيه من عذابه ويوصله إليه ثم يتفكر بأنه أنعم عليه بالعقل والفهم وتوجه القلب إلى تعليم ذلك فيجدها كلها نعما جليلة مطوية في مضمرها نعم أخرى (و) إذا انصبغ بهذا المعنى ظهرت عليه أمارات (الفرح) والسرور اللذين هما صقيلا الفهم فإن الطالب إذا فهم بين يدي معلمه ما يقوله ظهر السرور في وجهه وهذه علامة وقوعه على القلب وقبوله له من حيث الفهم، ويحكي أن جالينوس كان يقرر يوما في مسألة مشكلة والطلبة به محدقون فقال لهم فهمتم قالوا: نعم، قال: لا لو فهمتم لظهر السرور على وجوهكم (وقبول المنة) من المعلم باب كبير للمتعلم وهو في معنى الضراعة للمعلم فإنه إن لم يقبل منة أستاذه بقي على جهله (فليكن المتعلم لمعلمه) أي: بين يديه كالريشة الملقاة في الفلاة تقلبها الرياح كيف شاءت أو الحشيشة اليابسة في الماء الجاري تجري بها الأمواج حيث أرادت أو الميت بين يدي الغاسل يحركه كيف شاء (أو كأرض ميتة) أي: جدبة (نالت مطرا غزيرا فشربته بجميع أجزائها) وعروقها (وأذعنت) أي: انقادت (بالكلية لقبوله) ، وهذا يستدعي إلى فراغ ذهنه عما يخالفه على حد قولهم:

فصادف قلبا خاليا فتمكن

حتى يتم التشبيه بما ذكره الشيخ، ونص الذريعة .

الثالث: أن لا يتكبر على معلمه ولا على العلم:

فالعلم حرب للمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي

ولهذا قيل: العلم لا يعطيك بعضه إلخ، وهذه الجملة بتمامها قد ذكرها المصنف في التي قبلها، ثم قال الراغب: ومتى لم يكن المتعلم من معلمه كأرض رمثة نالت مطرا غزيرا فتتلقاه بالقبول لم ينتفع به فحقه أن يتفرغ له كما قال تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، أي: لمن له بنفسه علم يستغني به أو تذلل لاستماع الحق واقتباسه من عند المعلم، وقال بعض العلماء في قوله عليه السلام: اليد العليا خير من اليد السفلى: إشارة إلى فضل المعلم على المتعلم، وفي تبيين فضل المعلم حث المتعلم على الانقياد له. اهـ .




الخدمات العلمية