الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومما أنكروا عليه تقريره قول الجنيد: إذا كان الأولاد عقوبة شهوة الحلال فما ظنكم بعقوبة شهوة الحرام؟!

قال ابن القيم: هذا غلط من الجنيد، ومن أقره على ذلك؛ فإن الجماع سنة أو مباح، وكلاهما لا عقوبة على فاعله جريا على قواعد الشريعة .

والجواب: إن مراد الجنيد العقوبة التي تحصل بلازم ذلك لا بعينه، قال الله تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنة وقال تعالى: إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ولا يحذر الله تعالى إلا ما فيه رائحة الإثم، ومن مصطلح القوم أن يؤاخذوا المريد على فعل المباح [ ص: 35 ] ويعاقبوه عليه من حيث كونه يوقف عن الترقي ولكل مقام رجال .

ومما أنكروه عليه أيضا تقريره قول أبي حمزة البغدادي: إني لأستحيي من الله أن أدخل البادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل؛ لئلا يكون شبعي زادا تزودت به .

قال المنكر: ومن العجب اعتذاره عن أبي حمزة بقوله: كلام أبي حمزة صحيح، لكن محتاج إلى شرطين:

أحدهما: أن تكون للإنسان قدرة من نفسه، بحيث يمكنه الصبر عن الطعام أسبوعا ونحوه .

الثاني: أن يمكنه التقوت بالحشيش، ولا تخلو البادية من أن يلقاه الذي معه طعام بعد أسبوع، أو ينتهي إلى محلة أو حشيش يجد به ما يقوته .

قال ابن القيم: أقبح ما في هذا القول صدوره من فقيه؛ فإنه قد لا يلقى أحدا، وقد يضل، وقد يمرض، فلا يصح له الحشيش، وقد يلقاه من لا يطعمه، وقد يموت، فلا يدفنه أحد .

والجواب: أما كلام أبي حمزة فهو في نهاية الإخلاص، وكذلك ما شرطه الغزالي هو صحيح يتمشى على قواعد الفقه، وأما ما ذكره ابن القيم فلا ينهض حجة واضحة على أبي حمزة والغزالي; لأنه لو حمل أيضا الزاد يجوز أن يقع له ما يقع لمن لم يحمله من الأحوال التي ذكرها، لكن لا يخفى أن حمل الزاد سنة، ومن فعل السنة كان تحت نظر الله تعالى بالإمداد واللطف; لأنه فعل ما كلفه، بخلاف من لم يحمل زادا فإنه موكول إلى نفسه، ولو كان ممن صحت تجربته للحق تعالى فإن الحق جل وعلا لا تقييد عليه، يفعل ما يشاء، إلا إن قيد على نفسه بشيء فللعبد طلبه منه عبودية .

وقد قال رجل للحسن البصري: إني أريد أن أجلس في مسجد وأترك السبب لاعتقادي أن الله لا يضيعني، فقال له الحسن البصري: إن كنت على يقين السيد إبراهيم الخليل -عليه السلام- فافعل، وإلا فالزم الحرفة. والله أعلم .

ومما أنكروه عليه أيضا: تقريره ما حكاه عن بعضهم أنه بات عند السباع في برية ليمتحن توكله على الله تعالى هل صح أم لا؟!

قال المنكر: كيف يجوز للغزالي أن يسكت على ما فعله هذا الرجل مع تعرضه لأسباب الهلاك ببياته عند السباع، لا سيما إن كانت جيعانة، وقد قال تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة .

والجواب: إن ذلك في حق أرباب الأحوال الذي يغلب حالهم حال السبع، ويركبونه ويعركون أذنه، وينقاد لهم، بل يخاف هو منهم، وهذا مقام يبلغه المريد أوائل دخوله في الطريق، فيمسح الله من قلبه الخوف من شيء من المخلوقات جملة واحدة، وقد وقع ذلك لجملة من الأولياء .

وفوق هذا المقام مقام أرفع من هذا، وهو الخوف من كل شيء يؤذي، والتباعد عنه، ولو علمنا أن الحق تعالى قدر علينا ما يؤذينا فنتحفظ من الأذى حسب طاقتنا، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء، ويثاب على ذلك الحذر، لا سيما إن كان مشهد أحدنا أن نفسنا وديعة عند الله تعالى، وقد أمرنا بمدافعة الأقدار عنها. والله أعلم .

ومما أنكروه عليه أيضا: تقرير ما حكاه عن أبي الحسن الدينوري أنه حج اثنتي عشرة حجة وهو حاف مكشوف الرأس .

قال ابن القيم: هذا من أعظم الجهل؛ لما في ذلك من الأذى للرأس والرجلين، ولا تسلم الأرض من الشوك والوعر، وكان هؤلاء الصوفية ابتكروا من عند أنفسهم شريعة سموها بالتصوف، وتركوا شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- بجانب، فنعوذ بالله من تلبيس إبليس؛ فإن مثل هذه الحكايات تفسد عقائد العوام، ويظنون أن فعله من الصواب .

والجواب: لا ينبغي المبادرة بالإنكار على من أتلف جسمه في مرضاة الله تعالى وتعظيم حرماته، وربما كان من خرج للحج حافيا مكشوف الرأس وقع في ذنب عظيم عنده، وظن أن الحق تعالى قد سخط عليه بسببه، فخرج بتلك الهيئة يطلب التنصل من ذنوبه على وجه الذل والانكسار، وقد وقع لسفيان الثوري أنه حج من البصرة حافيا فتلقاه الفضيل بن عياض وابن أدهم، وابن عيينة، من خارج مكة فقالوا له: يا أبا عبد الله، أما كان من الرفق بذاتك أن تركب ولو حمارا؟ فقال: أما يرضى العبد الآبق من سيده أن يأتي إلى مصالحته إلا راكبا، فبكى الفضيل والجماعة، فانظر ذلك، واقتد به. والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية