الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولم يجعل غير العالم من الناس لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله وليس ذلك بقوة شخصه فإن الجمل أقوى منه ، ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه ولا بأكله فإن الثور أوسع بطنا منه ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد منه بل لم يخلق إلا للعلم .

وقال بعض العلماء ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فاته من أدرك العلم .

وقال عليه الصلاة والسلام من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي خيرا منه فقد حقر ما عظم الله تعالى وقال فتح الموصلي رحمه الله أليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت ؟ قالوا : بلى قال : كذلك القلب إذا منع عنه الحكمة والعلم ثلاثة أيام يموت .

ولقد صدق فإن غذاء القلب العلم والحكمة وبهما حياته كما أن غذاء الجسد الطعام ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم ولكنه لا يشعر به إذ حب الدنيا .

وشغله بها أبطل إحساسه كما أن غلبة الخوف قد تبطل ألم الجراح في الحال وإن كان واقعا فإذا حط الموت عنه أعباء الدنيا أحس بهلاكه وتحسر تحسرا عظيما ثم لا ينفعه وذلك كإحساس الآمن خوفه ، والمفيق من سكره بما أصابه من الجراحات في حالة السكر أو الخوف ، فنعوذ بالله من يوم كشف الغطاء فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا وقال الحسن رحمه الله يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء .

التالي السابق


(ولم يجعل غير العالم من الناس) لما روي عن ابن مسعود مرفوعا: "الناس رجلان: عالم ومتعلم ولا خير فيما سواهما" (ولأن الخاصية التي بها يتميز الناس عن) سائر (البهائم هو العلم) والبيان خاصة (والإنسان إنسان بما هو شريف لأجله) أي: العلم (وليس ذلك) الشرف (بقوة شخصه) فيما يرى (فإن الجمل) الذي ضرب به المثل في عجيب خلقه (أقوى منه، ولا) شرفه (بعظمه) أي: كبر جثته (فإن الفيل أعظم منه) جثة (ولا شجاعته) وقوته (فإن الأسد) وفي نسخة: السبع (أشجع منه) ، وأقوى (ولا) شرفه (ليأكل) كثيرا (فإن الجمل أوسع منه بطنا) وأكثر أكلا، كذلك الفيل أيضا (ولا) شرفه (ليجامع) النساء (فإن أخس العصافير) وهي الدورية (أقوى على السفاد منه) وهي جماع الطيور خاصة .

(بل لم يخلق إلا للعلم) بالله ومعرفته وتوحيده؛ لقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فبهذه الخاصية يتميز عن غيره من البهائم، فإذا عدم العلم بقي معه القدر المشترك بينه وبين سائر الدواب، وهي الحيوانية المحضة، فلا يبقى فيه فضل عليهم، بل قد يبقى شرا منهم، كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون فهؤلاء هم الجهال الذين لم يحصل لهم حقيقة الإنسانية التي يتميز بها صاحبها عن سائر الحيوان .

(وقال بعض العلماء) وفي نسخة: الحكماء (ليت شعري) أي: علمي (أي شيء) وفي نسخة: خير (أدرك من فاته العلم) لأن العلم هو مصدر الخيور كلها، فمن فاته لم يدرك شيئا من الخير، وكأن المراد هنا بالعلم التفقه في الدين، وإليه يشير الحديث: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده" كما سبق .

(وقال) أبو محمد (فتح) بن سعيد (الموصلي) [ ص: 90 ] أحد الصوفية والزهاد، صاحب الجد والاجتهاد، من أقران بشر الحافي والسري السقطي، وكان كبير الشأن في الورع والمعاملات، وسأل رجل المعافى بن عمران: هل كان لفتح الموصلي كبير محل؟ فقال: كفاك بعلمه تركه للدنيا، ترجم له الشعراني، زاد المناوي أنه توفي سنة 130 .

(أليس المريض إذا منع الطعام والشراب) والدواء (يموت؟ قالوا: نعم) وعند ابن القيم، قالوا: بلى، وذلك; لأن حكمة الله تعالى اقتضت بملائمة الأدوية للأمراض بحسب طبائعها، فإذا منع منه ذلك الدواء الملائم لمرضه فإنه يكون سببا لازدياد المرض وإزهاق الروح، وأما الطعام والشراب فمن اللوازم للمريض وغيره، ولكن معاهدته بهما أكثر اقتضاء؛ فإن الصحيح ربما يصبر عنهما بالرياضة مثلا .

(قال: كذلك القلب) فإنه كالمريض، ودواؤه العلم والحكمة والمعارف الإلهية (إذا منع منه) ذلك الدواء الذي هو (الحكمة والعلم ثلاثة أيام) فإنه (يموت) والذي في طبقات الشعراني في ترجمته: وكان يقول: القلب إذا منع الذكر مات، كما أن الإنسان إذا منع من الطعام والشراب يموت، ولو على طول، ويزول عنه إحساسه .

(ولقد صدق) رحمه الله تعالى (فإن غذاء القلب) وشرابه ودواءه (العلم والحكمة) والمعارف الإلهية (وبها حياته) وتوقده وذكاؤه (كما أن غذاء الجسد) وتقويته (الطعام) والشراب (ومن فقد العلم) بالله والحكمة (فقلبه مريض) بأمراض الجهل (وموته لازم) لعدم وصول ما يلائمه (ولكن لا يشعر به) أي: لا يدرك موت قلبه (إذ شغل الدنيا وحبها) والميل إلا ملاهيها وملاذها قد (أبطل) عنه (إحساسه) بذلك، وإدراكه لهذا السر العظيم .

وأخرج أبو نعيم في الحلية بسنده إلى مالك بن دينار، قال: "إن العبد إذا سقم لم ينجح فيه لا طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة، وكذلك القلب إذا علقه حب الدنيا لم تنجح فيه الموعظة (كما أن غلبة الخوف) من شيء إذا انتهى إلى غاية (فقد تبطل إحساس ألم الجراح في الحال وإن كان واقعا) ومنهم من يشتغل بالحرب فيقع عضو من أعضائه فلا يدري منه، ويمضي في محاربته، ولا يحس به إذا رجع عن شغله، هذا مشاهد، وكذلك المحب والمفكر قد يبطل إحساسهم بألم الجراحات، فإذا صحوا وعادوا إلى حاله الاعتدال أدركوا آلامها، وكذلك العبد .

(فإذا حط الموت عنه أعباء الدنيا) أي: أحمالها الثقيلة وشواغلها (أحس) حينئذ (لهلاكه) وموت قلبه (وتحسر تحسرا لا ينفعه) إذ ذاك؛ ولذا يتمنى أن يعود إلى الدنيا (وذلك كإحساس الآمن من خوفه، والمفيق من سكره) فإنه ما دام في سكره لا يحس بشيء من الآلام فإذا أمن أو أفاق أحس (بما أصابه من الجراحات في حالة السكر أو الخوف، ونعوذ بالله من فضيحة يوم كشف الغطاء) إذ لا ينفع فيه الندم ولا التحسر، وفي ذلك قيل:


فحتام لا تصحو وقد قرب المدى وحتام لا ينجاب من قلبك السكر بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا
وتذكر قولي حين لا ينفع الذكر

فإذا كشف الغطاء، وبرح الخفاء، وبليت السرائر، وبدت الضمائر، وبعث ما في القبور، وحصل ما في الصدور - فحينئذ يكون الجهل ظلمة على الجاهلين، والعلم حسرة على البطالين .

(فإن) كما روي من قول علي -رضي الله عنه- ما حققه السخاوي في المقاصد (الناس نيام فإذا ما ماتوا انتبهوا) أي أحسوا بما كانوا فيه، وقد عزا الشيخ هذا القول إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر الكتاب، وتبعه على ذلك عبد الوهاب بن محمود المراغي مختصر الكتاب، ولم يعرج عليه العراقي، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .

(وقال) أبو سعيد (الحسن) بن يسار البصري مولى زويد بن ثابت، وقيل: مولى حمل بن قطبة، وأبوه يسار من سبي ميسان، أعتقته بنت النضر، ولد الحسن زمن عمر، وسمع عثمان، وشهد الدار ابن إحدى عشرة سنة، وروى عن عمران بن حصين، وأبي موسى، وابن عباس، وجندب، وعنه: ابن عون ويونس، كان كبير الشأن، رفيع الذكر، رأسا في العلم، مات في رجب سنة 110 .

(يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء) قد روي ذلك مرفوعا عن أبي الدرداء كما تقدم ذكره في الحديث العاشر، وأخرجه الشيرازي [ ص: 91 ] في الألقاب من حديث أنس مرفوعا، فلعل الحسن سمعه من أنس .

وقد اختلف في تفضيل مداد العلماء على دم الشهداء وعكسه، فذكر لكل قول وجوه من الترجيح والأدلة، ونفس هذا النزاع دليل على تفضيل العلم ومرتبته؛ فإن الحاكم في هذه المسألة هو العلم فيه، وإليه وعنده يقع التحاكم والتخاصم، والمفضل منهما من حكم له بالفضل، فإن قيل: فكيف يقبل حكمه لنفسه؟ قيل: وهذا أيضا دليل على تفضيله وعلو مرتبته وشرفه، فإن الحاكم إنما لم يسغ أن يحكم لنفسه لأجل مظنة التهمة، وأما العلم فلا يلحقه تهمة في حكمه لنفسه، فإذا حكم حكم بما تشهد العقول والنظر بصحته، وتتلقاه بالقبول، ويستحيل حكمه لتهمة، فإنه إذا حكم بها انعزل عن مرتبته، وانحط عن درجته، فهو الشاهد المزكي العدل، والحاكم الذي لا يجور ولا يعزل، فإن قيل: فماذا حكمه في هذه المسألة التي ذكرتموها، قيل: الذي يفصل النزاع ويعيد المسألة إلى مواقع الإجماع .




الخدمات العلمية