ومنها أن يكون أكثر بحثه عن علم الأعمال وعما يفسدها ويشوش القلوب ويهيج الوسواس ويثير الشر فإن أصل الدين التوقي من الشر ولذلك قيل: عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر ، من الناس يقع فيه ولأن الأعمال الفعلية قريبة وأقصاها بل أعلاها المواظبة على ذكر الله تعالى بالقلب واللسان وإنما الشأن في معرفة ما يفسدها ويشوشها وهذا مما تكثر شعبه ، ويطول تفريعه وكل ذلك مما يغلب مسيس الحاجة إليه وتعم ، به البلوى في سلوك طريق الآخرة وأما علماء الدنيا فإنهم يتبعون غرائب التفريعات في الحكومات والأقضية ويتعبون في وضع صور تنقضي الدهور ولا تقع أبدا وإن وقعت فإنما تقع لغيرهم لا لهم وإذا وقعت كان في القائمين بها كثرة ويتركون ما يلازمهم ويتكرر عليهم آناء الليل وأطراف النهار في خواطرهم ووساوسهم وأعمالهم .
وما أبعد عن السعادة من باع مهم نفسه اللازم بمهم غيره النادر إيثارا للتقرب والقبول من الخلق على التقرب من الله سبحانه وشرها في أن يسميه البطالون من أبناء الدنيا فاضلا محققا عالما بالدقائق وجزاؤه من الله أن لا ينتفع في الدنيا بقبول الخلق بل يتكدر عليه صفوه بنوائب الزمان ثم يرد القيامة مفلسا متحسرا على ما يشاهده من ربح العاملين وفوز المقربين وذلك هو الخسران المبين .
ولقد كان الحسن البصري رحمه الله أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأقربهم هديا من الصحابة رضي الله عنهم اتفقت الكلمة في حقه على ذلك وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب وفساد الأعمال ووساوس النفوس والصفات ، الخفية الغامضة من شهوات النفس وقد قيل له : يا أبا سعيد ، إنك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك فمن أين أخذته قال ؟ : من حذيفة بن اليمان وقيل لحذيفة نراك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك من الصحابة فمن أين ؟ أخذته قال ؟ : خصني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان الناس يسألونه عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن أقع فيه وعلمت أن الخير لا يسبقني علمه وقال مرة : فعلمت أن من لا يعرف الشر لا يعرف الخير .
وفي لفظ آخر كانوا : يقولون : يا رسول الله ، ما لمن عمل كذا وكذا ؟ يسألونه عن فضائل الأعمال ، وكنت أقول : يا رسول الله ، ما يفسد كذا وكذا ؟ فلما رآني أسأله عن آفات الأعمال خصني بهذا العلم .
وكان حذيفة رضي الله عنه أيضا قد خص بعلم المنافقين ، وأفرد بمعرفة علم النفاق ، وأسبابه ودقائق الفتن فكان عمر وعثمان وأكابر الصحابة ، رضي الله عنهم ، يسألونه عن الفتن العامة والخاصة وكان يسأل عن المنافقين فيخبر بعدد من بقي منهم ، ولا يخبر بأسمائهم وكان عمر رضي الله عنه يسأل عن نفسه هل يعلم فيه شيئا من النفاق فبرأه من ذلك وكان عمر رضي الله عنه إذا دعي إلى جنازة ، ليصلي عليها نظر فإن حضر حذيفة ، صلى عليها وإلا ترك وكان يسمى صاحب السر .


