الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله سبحانه وملائكته وأهل سماواته وأرضه حتى النملة في جحرها حتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير " وقال صلى الله عليه وسلم : " ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه " وقال صلى الله عليه وسلم : " كلمة من الخير يسمعها المؤمن فيعلمها ويعمل بها خير له من عبادة سنة " وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه ، والثاني يعلمون الناس ، فقال : أما هؤلاء فيسألون الله تعالى فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وأما هؤلاء فيعلمون الناس ، وإنما بعثت معلما ، ثم عدل إليهم ، وجلس معهم وقال صلى الله عليه وسلم : " مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضا ، فكانت منها بقعة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها بقعة أمسكت الماء ، فنفع الله عز وجل بها الناس ، فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ " فالأول ذكره مثلا للمنتفع بعلمه ، والثاني ذكره مثلا للنافع ، والثالث للمحروم منهما .

وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : علم ينتفع به " الحديث

التالي السابق


(وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضه حتى النملة في حجرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير") .

قال العراقي: أخرجه الترمذي من رواية القاسم، عن أبي أمامة، رفعه، فذكره، ولم يقل: "في البحر" وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وهو بعض الحديث التاسع عشر، وقد تقدم، وقد فصله الطبراني منه [ ص: 111 ] فجعلهما حديثين، وقال فيه: "وحتى الحوت في البحر" كما ذكره المصنف، إلا أنه لم يقل: "وأهل السماوات والأرض" ويروى عن أبي هريرة أيضا، وقد تقدم في الحديث التاسع عشر .

قلت: وحديث أبي هريرة أخرجه الطبراني في الكبير أيضا، والضياء في المختارة، وسياقه كسياق حديث أبي أمامة .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه") .

قال العراقي: رواه ابن عبد البر مع اختلاف مرسلا من حديث محمد بن المنكدر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أفضل الفوائد حديث حسن يسمعه الرجل فيحدث به أخاه" وهو مرسل، حسن الإسناد، قال ابن عيينة: لم يدرك أحدا أجدر من أن يقبل الناس منه إذا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ابن المنكدر.

وروى أبو نعيم من رواية إسماعيل بن عياش، عن عمارة بن غزية، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أهدى مسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة تزيده هدى أو ترده عن ردى" ورويناه من طريق أبي يعلى الموصلي من هذا الوجه، وهو منقطع؛ فإن عبيد الله بن أبي جعفر المصري لم يسمع من عبد الله بن عمرو شيئا، إنما روى عن التابعين. اهـ .

قلت: وأخرجه البيهقي في الشعب، وتعقبه بأن في إسناده إرسالا بين عبيد الله وعبد الله، وأورده الديلمي في الفردوس بهذا اللفظ، والضياء في المختارة، ولفظه: "ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية" وفيه: "يزيده الله بها هدى أو يرده بها عن ردى".

وقال الذهبي في الديوان: عبيد الله بن أبي جعفر قال أحمد: ليس بالقوي، قال المناوي: وفي إسناده أيضا إسماعيل بن عياش، قالوا: ليس بالقوي، وعمارة بن غزية ضعفه ابن حزم، لكنه خولف .

وفي معنى الحديث قيل: كلمة لك من أخيك خير لك من مال؛ لأن الحكمة تنجيك والمال يطغيك .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كلمة من الخير يسمعها المؤمن فيعمل بها ويعلمها خير له من عبادة سنة صيام نهارها وقيام ليلها") وفي بعض النسخ: "كلمة من الحكمة" وسقطت الجملة الأخيرة من أكثر النسخ .

قال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من رواية محمد بن محمد بن علي بن الأشعث، حدثنا شريح بن عبد الكريم التميمي، حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن محمد بن أبي عائشة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه، فذكره دون قوله: "فيعمل بها ويعلمها" .

وابن الأشعث هذا من الشيعة، رماه ابن عدي والدارقطني بالوضع .

ورواه ابن المبارك في الزهد والرقائق مرسلا، فقال: أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وعبد الرحمن بن زيد ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. اهـ .

قلت: وروى الديلمي أيضا عن أبي هريرة: "كلمة يسمعها الرجل خير له من عبادة سنة، والجلوس ساعة عند مذاكرة العلم خير من عتق رقبة".

(وخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فرأى مجلسين أحدهما يدعون الله) وفي بعض النسخ: إلى الله (ويرغبون إليه، والثاني يعلمون الناس، فقال: أما هؤلاء فيسألون الله إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيعلمون الناس، وإنما بعثت معلما، ثم عدل إليهم، وجلس معهم) هكذا أورده صاحب القوت بلا إسناد، إلا أن فيه: "والآخر يتفقهون في الدين ويعلمون الناس فوقف بينهما" .

وقال العراقي: رواه ابن ماجه من رواية داود بن الزبرقان، عن بكر بن خنيس، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من بعض حجره فدخل المسجد فإذا هو بحلقتين، أحدهما كذا يقرؤون القرآن، ويذكرون الله، والآخر كذا يتعلمون ويعلمون، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: كل على خير، هؤلاء يقرؤون القرآن ويدعون الله، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون ويعلمون، وإنما بعثت معلما، وجلس معهم".

ومداره على عبد الرحمن بن زياد، وقد وثقه يحيى بن سعيد، وقال البخاري: مقارب الحديث، وضعفه جماعة، وابن الزبرقان وبكر بن خنيس ضعيفان، وقد تابع بكر بن خنيس عليه زهير بن معاوية، وعبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، إلا [ ص: 112 ] أنهم قالوا عنه عن عبد الرحمن بن رافع، بدل عبد الله بن يزيد، وقولهم أولى بالصواب من رواية بكر بن خنيس.

فأما رواية زهير فأخرجها الطبراني، ولفظه: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد فرأى مجلسين، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمون، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلا المجلسين على خير، أحدهما أفضل من الآخر، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل، وإنما بعثت معلما، وهؤلاء أفضل، فأتاهم حتى جلس إليهم".

وأما رواية عبد الله بن وهب فرواها ابن السني في رياضة المتعلمين، وابن عبد البر في العلم بنحو لفظ الطبراني .

وأما رواية ابن المبارك فرواها أبو نعيم في رياضة المتعلمين نحوه، وعبد الرحمن بن رافع هذا قال البخاري: في حديثه مناكير، وذكره ابن حبان في الثقات، إلا أنه قال: لا يحتج بخبره إذا كان من رواية ابن أنعم عنه. اهـ .

وقال صاحب القوت بعدما أورد الحديث: ويحكى عن بعض السلف قال: "دخلت المسجد ذات يوم فإذا بحلقتين إحداهما يقصون ويدعون، والأخرى يتكلمون في العلم وفقه الأعمال، قال: فملت إلى حلقة الدعاء، فجلست إليهم، فحملتني عيناي فنمت، فهتف بي هاتف: جلست إلى هؤلاء وتركت مجلس العلم، أما لو جلست إليهم لوجدت جبريل عليه السلام عندهم" .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكانت منها بقعة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها بقعة أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، شربوا منها وسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ") .

هكذا في النسخ، وفي نسخة بعد قوله: "فأنبتت الكلأ والعشب": "وتصيب أرضا أخرى إنما هي أجادب، أمسكت الماء ولم تنبت الكلأ، فحمل الناس عنها الماء إلى غيرها، فزرعوا عليها، وسقوا وأسقوا، وكانت منها بقعة لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ".

ونسخة العراقي بعد قوله: "والعشب الكثير": "وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ".

(فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) .

قال العراقي: رواه البخاري ومسلم من رواية يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- واللفظ للبخاري، إلا أنه قال: "من الهدى والعلم" وقال في الرواية المشهورة: "نقية" بدل "بقعة" ولم يقل في الثانية "بقعة" وقال: "وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان" وذكر بقية الحديث. اهـ .

قلت: أخرجه البخاري في أول صحيحه، ومسلم في فضائله صلى الله عليه وسلم، والنسائي في العلم، والرامهرمزي والعسكري في الأمثال، كلهم من رواية أبي أسامة حماد بن أسامة، عن بريد، ولفظ البخاري: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

شرح هذا الحديث:

قوله: "مثل" هو بالتحريك، قوله: "من الهدى والعلم" بالجر، عطف على الهدى، من عطف المدلول على الدليل؛ لأن الهدى هو الدلالة الموصلة للمقصود، والعلم هو المدلول، وهو صفة توجب تميزا لا يحتمل النقيض، والمراد به هنا الأدلة الشرعية، قاله القسطلاني.

ولا يخفى أن جعل العلم مرادا به الأدلة الشرعية فيه مسامحة لظهور أن الأدلة ليست مدلولا للدلالة، وعليه فالمراد: مدلول الأدلة الشرعية كوجوب الصلاة مثلا، فتدبر .

قوله: "نقية" من النقاء بالنون والقاف، أي: طيبة، قوله: "قبلت الماء" بكسر الموحدة من القبول .

وقال إسحاق بن راهويه: "قيلت الماء" بالتحتية المشددة، والمعنى: شربت القيل، وهو شرب نصف النهار، وجزم الأصيلي بأنه تصحيف، وذكر العشب بعد الكلأ من باب ذكر الخاص بعد العام؛ إذ الكلأ النبات يابسا ورطبا والعشب [ ص: 113 ] الرطب منه .

وفي رواية الحميدي والخطابي "ثغبة" بالمثلثة مفتوحة، وغين معجمة ساكنة، وهو مستنقع الماء في الجبال والأودية، ورده عياض، وحكم بتصحيفه وقلبه للتمثيل، قال: لأنه إنما جعل هذا المثل لما ينبت، والثغاب لا ينبت .

وفي كتاب مسلم: "طائفة طيبة قبلت الماء" .

قوله: "أجادب" جمع جدب، محركة على غير قياس، وصوبه الأصيلي، وقيل بالذال المعجمة، وهكذا ضبطه المازري، ووهمه عياض، وفي رواية أبي ذر "إخاذات" بالكسر، جمع إخاذة، وهي الأرض التي تمسك الماء كالغدير، وعند الإسماعيلي "أحارب" بحاء مهملة وراء وآخره موحدة، وفي المصابيح: ويروى "أجارد" أي: جرداء بارية لا يسترها النبات .

قوله: "ورعوا" وفي رواية: "وزرعوا" .

قوله: "وأصاب منها طائفة أخرى" وللأصيلي وكريمة: "وأصابت" ووقع كذلك عند النسائي.

(فالأول ذكره مثلا للمنتفع بعلمه، والثاني للنافع، والثالث للمحروم منهما) أي: الأول هو العالم العامل المعلم، وهو كالأرض الطيبة، شربت فانتفعت في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها .

الثاني: الجامع للعلم، المستغرق زمانه، المعلم غيره، لكنه لم يعمل بنوافله، أو لم يتفقه فيما جمع، فهو كالأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به .

وقوله في الحديث: "ومثل من لم يرفع بذلك رأسا" هو كناية عن تكبره، وعدم التفاته، وهو من دخل في الدين ولم يسمع العلم، أو سمعه ولم يعمل به، ولم يعلمه، فهو كالأرض السبخة التي لا تقبل الماء، أو تفسده على غيرها .

وأشار بقوله: "ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" إلى من لم يدخل في الدين أصلا، بل بلغه فكفر به، هو كالأرض الصماء الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا تنتفع به، وهذا هو المشار إليه بالقول الثالث في كلام المصنف .

وقال الدماميني في المصابيح: وتشبيه الهدى والعلم بالغيث الكريم المذكور تشبيه مفرد بمركب؛ إذ الهدى مفرد وكذا العلم، والمشبه به غيث كثير أصاب أرضا، منها ما قبلت الماء فأنبتت، ومنها ما أمسكت خاصة، ومنها ما لم تنبت ولم تمسك، مركب من عدة أمور كما تراه .

وشبه من انتفع بالعلم ونفع به بأرض قبلت الماء، وأنبتت، وهو تمثيل؛ لأن وجه الشبه فيه هو الهيئة الحاصلة من قبول المحل لما يرد عليه من الخير، مع ظهور أماراته وانتشارها على وجه عام الثمرة، متعدي النفع .

ولا يخفى أن هذه الهيئة منتزعة من أمور متعددة، ويجوز أن يشبه انتفاعه بقبول الأرض الماء ونفعه المتعدي بإنباتها الكلأ، والأول أدخل وأجزل، ثم قال:

قد وقع في الحديث أنه شبه من انتفع بالعلم في خاصة نفسه ولم ينفع به أحدا بأرض أمسكت الماء، ولم تنبت شيئا، أو شبه انتفاعه المجرد بإمساك الأرض للماء مع عدم إنباتها، وشبه من عدم فضيلتي النفع والانتفاع جميعا بأرض لم تمسك ماء أصلا، وشبه فوات ذلك له بعدم إمساكها الماء .

وهذه الحالات الثلاث مستوفية لأقسام الناس، ففيه من البديع التقسيم .

فإن قلت: ليس في الحديث تعرض للقسم الثاني فإنه قال: "فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم" وهذا القسم الأول، ثم قال: "ومثل من لم يرفع رأسا" إلخ، هذا هو القسم الثالث، فأين الثاني؟

فالجواب: ذكر من الأقسام أعلاها وأدناها، وطوى ذكر ما بينهما لفهمه من أقسام المشبه به المذكورة أولا، أو أن قوله: "ونفعه" معطوف على الموصول الأول، أي: فذلك مثل من فقه في دين الله ومثل من نفعه، فتكون الأقسام الثلاثة مذكورة، فمن فقه في دين الله هو الثاني، ومن نفعه الله من ذلك فعلم وعلم هو الأول، ومن لم يرفع بذلك رأسا هو الثالث، ففيه لف ونشر غير مرتب، هذا كلام الدماميني .

وقال ابن القيم: شبه صلى الله عليه وسلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث؛ لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد، فإنها بالعلم والمطر، وشبه القلوب بالأراضي التي يقع علها المطر؛ لأنها المحل الذي يمسك الماء، فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فتثمر وتزكو وتظهر بركته وثمرته، ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط أحكامه، واستخراج حكمه وفوائده .

أحدها: أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه، واستنبطوا وجوه الأحكام والحكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هو الفهم فيه، والمعرفة والاستنباط، فهو بمنزلة [ ص: 114 ] إنبات الكلأ والعشب بالماء، فهذا مثل الحفاظ الفقهاء أهل الرواية والدراية .

القسم الثاني: أهل الحفظ الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه، ولم يرزقوا تفقها في معانيه ولا استنباطا واستخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه، فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه ويراعي حروفه وإعرابه، ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله تعالى، والناس متفاوتون في الفهم عن الله تعالى ورسوله أعظم تفاوت، فرب شخص يفهم من الناس حكما أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فانتفعوا به، هذا يشرب منه، وهذا يسقي، وهذا يزرع .

فهؤلاء القسمان هم السعداء، والأولون أرفع درجة وأعلى قدرا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

القسم الثالث: الذين لا نصيب لهم منه لا حفظا ولا فهما، ولا رواية ولا دراية، بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت، ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء، والقسمان الأولان اشتركا في العلم والتعليم، كل بحسب ما قبله، ووصل إليه، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها، وهذا يفهم معانيه وأحكامه وعلومه، والقسم الثالث: لا علم ولا تعليم، فهم الذين لم يرفعوا بهدى الله رأسا ولم يقبلوه، وهؤلاء شر من الأنعام، وهم وقود النار .

فقد اشتمل هذا الحديث الشريف على التنبيه على شرف العلم، وعظم موقعه، وشقاء من ليس بأهله، وذكر أقسام بني آدم بالنسبة فيه إلى شقيهم وسعيدهم، وتقسيم سعيدهم إلى سابق مقرب وصاحب يمين مقتصد .

وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلم فهم بمنزلة الأرض التي فقدت الغيث .

قال الإمام أحمد: الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب; لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له") .

قال العراقي: رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح، والنسائي من رواية العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- رفعه: "إذا مات الإنسان" وفيه تقديم صدقة جارية، والباقي سواء. اهـ .

قلت: خرجه مسلم في الوصايا، والبخاري في الأدب المفرد، ورواه الدارمي عن موسى بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، ولفظه: "انقطع من عمله" وباقي سياقه كسياق المصنف إلا أنه قال: "تجري له" بدل "جارية" .

قال العراقي: وفي الباب عن جابر وأبي قتادة وأبي أمامة وأنس، فحديث أنس رواه أبو نعيم في رياضة المتعلمين من رواية القاسم بن عبد الله عن محمد بن المنكدر، عن جابر، رفعه: "ثلاثة يدركون الميت: رجل علم سنة هدى وعمل بها" الحديث .

وحديث أبي قتادة رواه ابن ماجه من رواية زيد بن أبي أنيسة، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، رفعه: "خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة تجري يبلغه أجرها، وعمل يعمل به من بعده" وإسناده جيد، وزاد بين الزيدين في رواية فليح بن سليمان. اهـ .

قلت: وأخرجه أيضا هكذا ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان، والطبراني في الكبير، والضياء في المختارة، ولفظهم: "خير ما يخلف الإنسان بعده".

قال العراقي: وحديث أبي أمامة رواه أحمد من رواية ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عمن حدثه، عن أبي أمامة، رفعه: "أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: مرابط في سبيل الله، ومن علم علما فأجره يجري عليه ما عمل به" الحديث .

قلت: تمامه: "ومن تصدق بصدقة فأجرها يجري ما وجدت، ورجل ترك ولدا صالحا، فهو يدعو له".

وقد أخرجه الطبراني في الكبير، والبزار في مسنده، وأعله الهيثمي وغيره بابن لهيعة، ورجل لم يسم، ولكن صححه المنذري.

قال العراقي: وحديث أنس رواه أبو نعيم في الحلية من رواية محمد بن عبيد الله العزرمي، عن قتادة، عن أنس، رفعه: "سبع يجري أجرها للعبد بعد موته، وهو في قبره: من علم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته".

قال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث قتادة، تفرد به أبو نعيم راويه عن العزرمي، والعزرمي ضعيف. اهـ .

قلت: وكذلك رواه البزار في مسنده، وسمويه في فوائده، والديلمي في [ ص: 115 ] الفردوس، والبيهقي، وقال كالمنذري: إسناده ضعيف، وتبعهما الذهبي في كتاب الموت، والهيثمي، وقد خالفهم السيوطي فرمز لصحته، وفيه نظر، ولا تعارض بين الحديث الذي ساقه المصنف وبين حديث أبي أمامة: "أربعة" إلخ؛ لأن أعمال الثلاث متجددة وعمل المرابط ينمو له، وفرق بين إيجاد المعدوم وتكثير الموجود، وكذا لا مخالفة بينه وبين حديث أنس هذا؛ فقد قال فيه: "إلا من صدقة جارية" وهي تجمع ما ذكر من الزيادة، أشار له البيهقي.

وروى الإمام أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم قال: "ثلاثة يؤجر فيهن الميت بعد موته: ولد يدعو له بعد موته، فهو مؤجر بدعائه، ورجل علم علما يعمل به ويعلمه الناس، فهو يؤجر على ما عمل وعلم، ورجل ترك أرضا صدقة" هكذا أورده محمد بن الحسن في الآثار .

قال ابن قطلوبغا في أماليه: وهذا في حكم المرفوع. اهـ .

قلت: والمراد بالولد الفرع المسلم هبه ذكرا كان أو أنثى، أو ولد ولد كذلك، وإن سفل، وجاء تقييده في الحديث الأول بالصالح .

وقوله: "يدعو له" أي بالرحمة والمغفرة، فإن دعاءه أرجى للإجابة، وأسرع قبولا من دعاء الأجنبي .

وقال الحافظ صلاح الدين العلائي في مقدمة الأربعين له: لا تعارض بين هذا الحديث وبين ما روي: "من استن خيرا فاستن به فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء" الحديث بطوله; لأنه إما أن يجعل حديث: "من استن" عاما في كل الأمور، وحديث: "إذا مات الإنسان" أخص منه، فيحمل العام على الخاص، ويقتصر على هذه الثلاثة أشياء، أو يكون قوله: "إذا مات" إلخ منبها بها على ما عداها مما هو في معناها من كل ما يدوم النفع به للغير، فلا تعارض بينهما، بل يبقى قوله: "من استن" معمولا بعمومه .

والظاهر -والله أعلم- أن هذا أظهر الاحتمالين، بدليل قوله: "من استن" إلخ، فقد أخبر بتجدد الأوزار لهذا الميت لما يعمل بعده من السيئات التي سنها، نعوذ بالله من ذلك، وهو زائد على الثلاث التي في الحديث الآخر; لأن تلك من أعمال البر، وهذه الجملة الثانية لا معارض لها .

وعلى كل تقدير فالعلم وتعليم الخير من جملة الأعمال الصالحة، يبقى للمرء أجرها بعد موته بحسب تجدد العاملين به .




الخدمات العلمية