الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : " الدال على الخير كفاعله " وقال صلى الله عليه وسلم : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله عز وجل حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس ، ورجل آتاه الله مالا ، فسلطه على هلكته في الخير " وقال صلى الله عليه وسلم : " على خلفائي رحمة الله ، قيل : ومن خلفاؤك ؟ قال : الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله "

التالي السابق


(وقال صلى الله عليه وسلم: "الدال على الخير كفاعله") .

قال العراقي: أخرجه الترمذي من رواية شبيب بن بشر، عن أنس بلفظ: "إن الدال" وقال: حديث غريب، قال العراقي: ورجاله ثقات. اهـ .

قلت: وفي الحديث قصة، قال أنس: جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل يستحمله، فلم يجد ما يحمله، فدله على آخر، فحمله، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فذكره .

قال العراقي: ورواه أحمد في مسنده من رواية سليمان بن بريدة، عن أبيه بلفظ حديث أنس بإسناد ضعيف .

ورواه ابن عدي في الكامل في ترجمة سليمان الشاذكوني.

ورواه مسلم، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، من رواية ابن عمرو الشيباني، واسمه سعد بن إياس، عن أبي مسعود البدري، رفعه، ولفظه: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" وفي الباب عن سهل بن سعد وابن مسعود. اهـ .

قلت: وقد أخرجه كذلك الإمام أحمد وابن حبان، وفيه القصة التي تقدمت، وقال السخاوي في المقاصد: أخرجه العسكري، وابن جميع، ومن طريقه المنذري من حديث طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس رفعه: "كل معروف صدقة، والدال على الخير كفاعله، والله يحب إغاثة اللهفان".

ومثله، بل بطوله للدارقطني في المستجاد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به مرفوعا .

وللعسكري من حديث إسحاق الأزرق، عن أبي حنيفة، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه مرفوعا، لفظ الترجمة. وكذا هو عند البزار، عن أنس. ولابن عبد البر عن أبي الدرداء في قوله: الدال على الخير وفاعله شريكان" اهـ .

قلت: أخرجه أبو القاسم طلحة بن محمد بن جعفر العدل في مسند أبي حنيفة من طريق صالح بن أحمد بن حنبل، وأخرجه ابن خسرو في مسنده من طريق عبد الله بن أحمد، قالا: حدثنا أبي، حدثنا إسحاق بن يوسف، أنبأنا أبو فلان، كذا قال، أي: لم يسمه على عمد وسماه غيره، فقال: يعني أبا حنيفة، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه بلفظ الترجمة .

وفي بعض رواياته قال له: "اذهب فإن الدال" إلخ .

وأخرجه القضاعي أيضا من طريق إسحاق بن يوسف [ ص: 116 ] الأزرق، عن أبي حنيفة به .

وأخرج ابن خسرو في مسنده من رواية أبي حنيفة عن أنس بزيادة: "والله يحب إغاثة اللهفان" من طريق تدور على أحمد بن محمد بن الصلت، ورواه العيني في شرحه على معاني الآثار للطحاوي بسنده، وللحديث شاهد آخر مما أخرجه ابن عطاف في معجمه، وابن النجار عن علي مرفوعا: "دليل الخير كفاعله".

قال الراغب: والدلالة ما يتوصل به إلى معرفة الشيء، وقال الزمخشري: دللته على الطريق أهديته إليه، ومن المجاز: الدال على الخير كفاعله، ودله على الصراط المستقيم. اهـ. .

ويدخل في ذلك دخولا أوليا أولويا من يعلم الناس العلم الشرعي، ويتحملون عنه .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالا، وسلطه الله على هلكته في الحق، فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار") .

قال العراقي: رواه البخاري ومسلم والنسائي في الكبرى وابن ماجه من رواية قيس بن أبي حازم، قال: سمعت عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" وفي رواية البخاري: "الحكمة" اهـ .

قلت: أخرجاه من طريق الزهري، سمعت قيس بن أبي حازم، ومن هذا الطريق أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان، وأخرجه البخاري في الاعتصام فقال: "إلا في اثنين" بغير تاء، وفي رواية ابن ماجه: "رجل" بالنصب على لغة ربيعة، فإنهم يرسمون المنصوب بالنون بغير ألف، كما يقفون عليه كذلك .

وقال العراقي: في الباب عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد، ويزيد بن الأخنس.

قلت: بقي أن البخاري رواه في صحيحه في مواضع: في التوحيد، وفي الاغتباط بالحكمة، وفي الزكاة، وفي الأحكام، وفي الاعتصام، وفي فضائل القرآن .

ففي التوحيد: عن علي بن عبد الله، عن سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه مختصرا .

وساقه مسلم تاما عن زهير بن حرب، عن سفيان.

وأخرجه البخاري في فضائل القرآن تاما من طريق الزهري، عن سالم، وكذا الترمذي والنسائي في الكبرى وابن ماجه، ولفظهم: "لا حسد إلى في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" لفظ مسلم. وفي رواية له: "إلا على اثنين" وهكذا قال البخاري: "وقد آتاه الله الكتاب" وقال مسلم: "هذا الكتاب" والباقي سواء .

ومن طريق شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. ومن طريق الأعمش: سمعت ذكوان، عن أبي هريرة. وفي الزكاة عن محمد بن المثنى، عن يحيى القطان. وفي الأحكام، وفي الاعتصام، عن شهاب بن عباد، عن إبراهيم بن حميد الرؤاسي.

وأخرجه مسلم في الصلاة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه ومحمد بن بشر .

وأخرجه النسائي في العلم عن إسحاق بن إبراهيم بن جرير، ووكيع، عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، خمستهم عن إسماعيل بن أبي خالد، عنه به .

وأخرجه ابن ماجه في الزهد عن محمد بن عبد الله بن نمير به .

وأما حديث أبي سعيد الخدري: فقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف من رواية الأعمش، عن أبي صالح عنه، ولفظه: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي به فلان، فعملت مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل".

وأخرجه كذلك أبو يعلى في مسنده، والضياء في المختارة، وأخرج أبو نصر في الصلاة عن عبد الله بن عمرو، رفعه: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقرؤه في الليل والنهار، ورجل أعطاه الله مالا فأنفقه في سبيل الله".

وأخرجه أبو نعيم في الحلية، عن أبي نعيم بلفظ: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فصرفه في سبيل الخير، ورجل آتاه الله علما فعلمه وعمل به".

شرح الحديث:

"لا" لنفي الجنس، و"حسد" اسمه مبني معه على الفتح، وخبره محذوف، أي: لا حسد جائز، أو صالح، أو نحو ذلك، والحسد تمني الرجل أن تتحول إليه نعمة الآخر، أو فضيلته، ويسلبهما، وهو مذموم، والغبطة أن يتمنى مثل ما له من غير أن يفتقر، وهو مباح إن كان من أمر الدنيا، ومحمود إن كان من أمور الطاعات .

[ ص: 117 ] والأول محرم إجماعا، قاله النووي .

وأراد بالحسد هنا الغبطة مجازا من إطلاق اسم المسبب على السبب .

وقوله: "إلا في اثنين" أي: في شيئين أو خصلتين، وفيه قول بأنه تخصيص لإباحة نوع من الحسد، وإخراج له من جملة ما خطر منه، فالمعنى: لا حسد محمود إلا في هذا، أو استثناء منقطع بمعنى لكن .

وقوله: "رجل" بالرفع، أي: خصلة رجل، فلما حذف المضاف اكتسى المضاف إليه إعرابه، والنصب على إضمار أعني، وهي رواية ابن ماجه، وفيه وجه آخر تقدم بيانه، وبالجر على أنه بدل من اثنين، وأما على رواية اثنتين بالتاء فهو بدل أيضا على تقدير حذف المضاف، أي: خصلة رجل .

وقوله: "رجل" لا مفهوم له، وإلا فالأنثى تشترك معه .

قوله: "فسلط" بالبناء للمفعول، هي رواية أبي ذر، وعند الباقين: "فسلطه" وعبر بالتسليط لدلالته على قهر النفس المجبولة على الشح، وفي هذه الجملة مبالغتان:

إحداهما: التسليط؛ لأنه يدل على قهر النفس، والأخرى لفظ الهلكة، والهلكة محركة الهلاك، فإنه يدل على أنه لا يبقى من المال شيء .

ولما أوهم اللفظان التبذير وهو صرف المال فيما لا يعني ذكر قوله "في الحق" دفعا لما يتوهم من ذلك .

والحكمة المراد منها القرآن، وفيه إشارة إلى الكمال .

وقوله: "يقضي بها" إشارة إلى الكمال العملي، وبها التكميل. والله أعلم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "على خلفائي رحمة الله، قيل: ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله") .

قال العراقي: رواه ابن عبد البر في العلم، والهروي في ذم الكلام، من رواية عمرو بن أبي كثير، وقال الهروي: عمرو بن كثير، عن أبي العلاء، عن الحسن، زاد الهروي: ابن علي، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رحمة الله على خلفائي مرتين" ولم يكررها الهروي، فجعله الهروي متصلا، وقال ابن عبد البر: إنه من مرسلات الحسن، فجعله البصري، وهو الصواب، وعمرو لا أدري من هو، وقد تقدم الكلام عليه في آخر الحديث الثامن والثلاثين .

وفي الباب عن: علي بن أبي طالب، رواه الطبراني في الأوسط، وابن السني، وأبو نعيم في كتابيهما رياضة المتعلمين، وأبو نعيم أيضا في فضل العالم العفيف، والرامهرمزي في المحدث الفاضل، والهروي في ذم الكلام من رواية ابن عباس، قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم ارحم خلفائي، قلنا: يا رسول الله من خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي وسنتي ويعلمونها الناس".

وفي إسناده أبو الطاهر أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وهو كذاب، كما قاله الدارقطني.

وقد رواه ابن عساكر في أماليه من طريق آخر، وفيه عبد السلام بن عبيد، نسبه ابن حبان إلى سرقة الحديث، واحتج به أبو عوانة في صحيحه .

ولا يغتر برواية أبي المظفر هناد بن إبراهيم النسفي لهذا الحديث من طريق ابن داسة، عن أبي داود، عن عبيد بن هشام الحلبي؛ فإن هذا لم يروه أبو داود هنا، والنسفي كان راوية للموضوعات كما قال صاحب الميزان. انتهى .

قلت: أما حديث علي فقد أخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث، والضياء المقدسي في مناقب أصحاب الحديث، كلاهما من رواية أحمد بن عيسى العلوي، حدثنا ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، قال: سمعت عليا يقول: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فساقه .

وأخرجه الضياء من رواية أبي القاسم عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي، حدثني أبي، حدثني أبو الحسن علي بن موسى الرضى، عن آبائه، عن علي، بلفظ: "اللهم ارحم خلفائي" ثلاثا، والباقي سواء .

وأخرج الخطيب والضياء أيضا من رواية سعيد بن عباس بن الخليل، حدثنا عبد السلام بن عبيد، حدثنا ابن أبي فديك، فذكره .

وفي بعض طرق العلوي عند الخطيب عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال الخطيب: والأول أشبه بالصواب، وقال الطبراني في الأوسط بعدما أخرجه: تفرد به أحمد بن عيسى العلوي، وفي الميزان: هذا الحديث باطل، وأحمد كذاب، واستدل بهذا الحديث على جواز إطلاق لفظ الخلفاء على أصحاب الحديث، ومثل ذلك ما مر في حديث علي -رضي الله عنه-: "أولئك خلفاء الله في أرضه ودعاته إلى دينه" وفي قوله تعالى: ويجعلكم خلفاء الأرض وقال سهل التستري: من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فهم [ ص: 118 ] خلفاء الرسل في أممهم، ووارثوهم في علمهم، فمجالسهم مجالس خلافة النبوة، وهو أحد الوجهين في الإطلاق، ومنعه آخرون، وأولوا ما في الحديث والقرآن .

وأما إحياء السنة فقد أخرج الترمذي من رواية علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن أنس رفعه: "من أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة" وفي الحديث قصة .

وروى الدارمي من رواية مروان بن معاوية، عن كثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، رفعه، قال لبلال بن الحارث: "اعلم يا بلال من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء" وكثير بن عبد الله مختلف فيه. والله أعلم .




الخدمات العلمية