وأيضا فإن المحالات التي أفضى إليها دليلهم غير المحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب، وذلك أن المحال الذي أفضى إليه دليلهم هو أن يكون العالم: إما لا موجودا ولا معدوما، وإما أن يكون موجودا ومعدوما، وإما أن يكون الإله عاجزا مغلوبا. وهذه مستحيلات دائمة الاستحالة أكثر من واحد. والمحال الذي أفضى إليه دليل الكتاب ليس مستحيلا على الدوام، وإنما علقت الاستحالة فيه في وقت مخصوص، وهو أن يوجد العالم فاسدا في وقت الوجود،
nindex.php?page=treesubj&link=29705_28658فكأنه قال: nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22 (لو كان فيهما آلهة إلا الله) لوجد العالم فاسدا في الآن، ثم استثنى أنه غير فاسد، فوجب ألا يكون هناك إله إلا واحد.
قلت: الفساد المذكور في الآية لم يوقت بوقت مخصوص، والفساد ليس هو امتناع الوجود الذي يقدر عند تمانع الفاعلين، إذا أراد أحدهما شيئا وأراد الآخر نقيضه، ولا هو أيضا امتناع الفعل الذي يقدر عن كون المفعول الواحد لفاعلين، فإن هذا كله يقتضي عدم الوجود.
[ ص: 372 ]
وأما الفساد فهو ضد الصلاح، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=11وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون [سورة البقرة: 11].
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=142وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [سورة الأعراف: 142].
وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=56ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها [سورة الأعراف: 56].
وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد [سورة البقرة: 205].
وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=32من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [سورة المائدة: 32].
وقالت الملائكة:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء [سورة البقرة: 30].
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا [سورة المائدة: 33].
وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون [سورة المؤمنون: 71].
وجماع الصلاح للآدميين هو طاعة الله ورسوله، وهو فعل ما ينفعهم وترك ما يضرهم، والفساد بالعكس.
فصلاح الشيء هو حصول كماله الذي به تحصل سعادته. وفساده بالعكس، والخلق صلاحهم وسعادتهم
[ ص: 373 ] في أن يكون الله هو معبودهم، الذي تنتهي إليه محبتهم وإرادتهم، ويكون ذلك غاية الغايات، ونهاية النهايات.
ولهذا كان
nindex.php?page=treesubj&link=28675كل عمل يعمل لغير الله لا ينفع صاحبه بل قد يضره، وكانت أعمال الذين كفروا:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=18كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء [سورة إبراهيم: 18].
قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=56وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [سورة الذاريات: 56].
فعبادته هي الغاية التي فيها صلاحهم، فإن الإنسان حارث همام. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
nindex.php?page=hadith&LINKID=676222«أصدق الأسماء الحارث وهمام» والحارث هو الكاسب، والهمام هو الذي يكثر الهم، الذي هو أول الإرادة، فالإنسان متحرك بالإرادة، وكل مريد لا بد له من مراد. والذي يجب أن يكون هو المراد المقصود بالحركات هو الله، فصلاح النفوس وسعادتها وكمالها في ذلك، وهكذا العالم العلوي أيضا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُحَالَاتِ الَّتِي أَفْضَى إِلَيْهَا دَلِيلُهُمْ غَيْرُ الْمُحَالِ الَّذِي أَفْضَى إِلَيْهِ دَلِيلُ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَالَ الَّذِي أَفْضَى إِلَيْهِ دَلِيلُهُمْ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ: إِمَّا لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَمَعْدُومًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ عَاجِزًا مَغْلُوبًا. وَهَذِهِ مُسْتَحِيلَاتٌ دَائِمَةُ الِاسْتِحَالَةِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. وَالْمُحَالُ الَّذِي أَفْضَى إِلَيْهِ دَلِيلُ الْكِتَابِ لَيْسَ مُسْتَحِيلًا عَلَى الدَّوَامِ، وَإِنَّمَا عُلِّقَتِ الِاسْتِحَالَةُ فِيهِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْعَالَمُ فَاسِدًا فِي وَقْتِ الْوُجُودِ،
nindex.php?page=treesubj&link=29705_28658فَكَأَنَّهُ قَالَ: nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22 (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ) لَوُجِدَ الْعَالَمُ فَاسِدًا فِي الْآنَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى أَنَّهُ غَيْرُ فَاسِدٍ، فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ إِلَهٌ إِلَّا وَاحِدٌ.
قُلْتُ: الْفَسَادُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لَمْ يُوَقَّتْ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ، وَالْفَسَادُ لَيْسَ هُوَ امْتِنَاعُ الْوُجُودِ الَّذِي يُقَدَّرُ عِنْدَ تَمَانُعِ الْفَاعِلَيْنِ، إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا وَأَرَادَ الْآخَرُ نَقِيضَهُ، وَلَا هُوَ أَيْضًا امْتِنَاعُ الْفِعْلِ الَّذِي يُقَدَّرُ عَنْ كَوْنِ الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ لِفَاعِلَيْنِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْوُجُودِ.
[ ص: 372 ]
وَأَمَّا الْفَسَادُ فَهُوَ ضِدُّ الصَّلَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=11وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 11].
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=142وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سُورَةَ الْأَعْرَافِ: 142].
وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=56وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [سُورَةَ الْأَعْرَافِ: 56].
وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 205].
وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=32مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مِنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 32].
وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 30].
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=33إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 33].
وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=71وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [سُورَةَ الْمُؤْمِنُونَ: 71].
وَجُمَّاعُ الصَّلَاحِ لِلْآدَمِيِّينَ هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ فِعْلُ مَا يَنْفَعُهُمْ وَتَرْكُ مَا يَضُرُّهُمْ، وَالْفَسَادُ بِالْعَكْسِ.
فَصَلَاحُ الشَّيْءِ هُوَ حُصُولُ كَمَالِهِ الَّذِي بِهِ تَحْصُلُ سَعَادَتُهُ. وَفَسَادُهُ بِالْعَكْسِ، وَالْخَلْقُ صَلَاحُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ
[ ص: 373 ] فِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ هُوَ مَعْبُودُهُمُ، الَّذِي تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَحَبَّتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ غَايَةَ الْغَايَاتِ، وَنِهَايَةَ النِّهَايَاتِ.
وَلِهَذَا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=28675كُلُّ عَمَلٍ يُعْمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ بَلْ قَدْ يَضُرُّهُ، وَكَانَتْ أَعْمَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا:
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=18كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ [سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ: 18].
قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=56وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [سُورَةَ الذَّارِيَاتِ: 56].
فَعِبَادَتُهُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي فِيهَا صَلَاحُهُمْ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ حَارِثٌ هَمَّامٌ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=676222«أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ الْحَارِثُ وَهَمَّامٌ» وَالْحَارِثُ هُوَ الْكَاسِبُ، وَالْهَمَّامُ هُوَ الَّذِي يُكْثِرُ الْهَمَّ، الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْإِرَادَةِ، فَالْإِنْسَانُ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ، وَكُلُّ مُرِيدٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَادٍ. وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ الْمَقْصُودُ بِالْحَرَكَاتِ هُوَ اللَّهُ، فَصَلَاحُ النُّفُوسِ وَسَعَادَتُهَا وَكَمَالُهَا فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ أَيْضًا.