وأما قوله: "لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم، المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أذهانهم" إلى آخر كلامه.
فيقال: لا ريب أن فيما غاب عن المشاهدة أمورا من الغيب، بعضها يمكن التعريف به مطلقا، وبعضها لا يمكن التعريف به إلا بعد شروط واستعداد، وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا إلا على وجه مجمل، وبعضها لا يمكن التعريف به في الدنيا بحال، وبعضها لا يمكن مخلوقا أن يعلمه.
ولهذا قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=17فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [سورة السجدة: 17].
وفي الحديث الصحيح
nindex.php?page=hadith&LINKID=654407عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فما لا يخطر بالقلوب إذا عرفت به لم تعرفه إلا إذا كان له نظير، وإلا لم يمكن التعريف على وجهه.
[ ص: 74 ]
وفي الدعاء المشهور:
nindex.php?page=hadith&LINKID=684373اللهم إني أسألك بكل اسم [هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، فإذا كان
nindex.php?page=treesubj&link=29447من أسمائه ما استأثر بعلمه، لم يعلمه غيره، ذلك وما خص به بعض عباده لم يعلمه غيره.
وفي الحديث الصحيح
nindex.php?page=hadith&LINKID=657759أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثنيت على نفسك.
وفي حديث الشفاعة:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656861ينفتح على محامد أحمده بها لا أحسنها الآن. [ ص: 75 ]
فإذا كان أعلم الخلق بالله لا يحصي ثناء عليه، فكيف غيره؟! وإذا كان يفتح عليه في الآخرة بمحامد لم يعرفها في الدنيا، فكيف حال غيره؟
ونذكر في هذا
nindex.php?page=treesubj&link=31932قصة موسى والخضر عليهما السلام ونقر العصفور من البحر.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه - فيما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري - حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم.
[ ص: 76 ] وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل رجل عن تفسير آية، فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بها لكفرت بها، وكفرك بها تكذيبك بها، فتبين أنه ليس كل أحد يليق بمعرفة جميع العلوم.
ولهذا قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها إلى قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17يضرب الله الأمثال [سورة الرعد: 17]، فإن هذا مثل ضربه الله فشبه فيه ما ينزله من السماء من العلم والإيمان بالمطر، وشبه القلوب بالأودية، والأودية منها صغار وكبار، فكل واد يسيل بقدره.
فهذا ونحوه حق، ولكن حقائق الأمور التي يدعيها هؤلاء الملاحدة، هي في الحقيقة نفي وتعطيل تنكرها القلوب العارفة الذكية، أعظم مما تنكرها قلوب العامة، وكلما قوي عقل الرجل وعلمه زاد معرفة بفسادها، ولهذا لا يستجيب لهم الرجل إلا بقدر نقص عقله ودينه.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَوْ كَلَّفَ اللَّهُ رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ أَنْ يُلْقِيَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأُمُورِ إِلَى الْجُمْهُورِ مِنَ الْعَامَّةِ الْغَلِيظَةِ طِبَاعُهُمُ، الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَحْسُوسَاتِ الصِّرْفَةِ أَذْهَانُهُمْ" إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ فِيمَا غَابَ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ أُمُورًا مِنَ الْغَيْبِ، بَعْضُهَا يُمْكِنُ التَّعْرِيفُ بِهِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهَا لَا يُمْكِنُ التَّعْرِيفُ بِهِ إِلَّا بَعْدَ شُرُوطٍ وَاسْتِعْدَادٍ، وَبَعْضُهَا لَا يُمْكِنُ التَّعْرِيفُ بِهِ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مُجْمَلٍ، وَبَعْضُهَا لَا يُمْكِنُ التَّعْرِيفُ بِهِ فِي الدُّنْيَا بِحَالٍ، وَبَعْضُهَا لَا يُمْكِنُ مَخْلُوقًا أَنْ يَعْلَمَهُ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=17فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [سُورَةُ السَّجْدَةِ: 17].
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=654407عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَمَا لَا يَخْطُرُ بِالْقُلُوبِ إِذَا عَرَفْتَ بِهِ لَمْ تَعْرِفْهُ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ نَظِيرٌ، وَإِلَّا لَمْ يُمْكِنِ التَّعْرِيفُ عَلَى وَجْهِهِ.
[ ص: 74 ]
وَفِي الدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=684373اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكُ بِكُلِّ اسْمٍ [هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمَتْهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، فَإِذَا كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=29447مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ، لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، ذَلِكَ وَمَا خَصَّ بِهِ بَعْضَ عِبَادِهِ لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=657759أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ، كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.
وَفِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=656861يَنْفَتِحُ عَلَى مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ. [ ص: 75 ]
فَإِذَا كَانَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاللَّهِ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، فَكَيْفَ غَيْرُهُ؟! وَإِذَا كَانَ يُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ بِمَحَامِدَ لَمْ يَعْرِفْهَا فِي الدُّنْيَا، فَكَيْفَ حَالُ غَيْرِهِ؟
وَنَذْكُرُ فِي هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=31932قِصَّةَ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَنَقْرَ الْعُصْفُورِ مِنَ الْبَحْرِ.
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيمَا ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ - حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا مِنْ رَجُلٍ يُحَدِّثُ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ.
[ ص: 76 ] وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَأَلَ رَجُلٌ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ، فَقَالَ: مَا يُؤَمِّنُكَ أَنِّي لَوْ أَخْبَرْتُكَ بِهَا لَكَفَرْتَ بِهَا، وَكُفْرُكُ بِهَا تَكْذِيبُكَ بِهَا، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَلِيقُ بِمَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْعُلُومِ.
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا إِلَى قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ [سُورَةُ الرَّعْدِ: 17]، فَإِنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ فَشَبَّهَ فِيهِ مَا يُنَزِّلُهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ بِالْمَطَرِ، وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَوْدِيَةِ، وَالْأَوْدِيَةُ مِنْهَا صِغَارٌ وَكِبَارٌ، فَكُلُّ وَادٍ يَسِيلُ بِقَدَرِهِ.
فَهَذَا وَنَحْوُهُ حَقٌّ، وَلَكِنَّ حَقَائِقَ الْأُمُورِ الَّتِي يَدَّعِيهَا هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ، هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْيٌ وَتَعْطِيلٌ تُنْكِرُهَا الْقُلُوبُ الْعَارِفَةُ الذَّكِيَّةُ، أَعْظَمُ مِمَّا تُنْكِرُهَا قُلُوبُ الْعَامَّةِ، وَكُلَّمَا قَوِيَ عَقْلُ الرَّجُلِ وَعِلْمُهُ زَادَ مَعْرِفَةً بِفَسَادِهَا، وَلِهَذَا لَا يَسْتَجِيبُ لَهُمُ الرَّجُلُ إِلَّا بِقَدْرِ نَقْصِ عَقْلِهِ وَدِينِهِ.