( انظر كيف يفترون على الله الكذب     ) هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . ولما خاطبه أولا بقوله : ( ألم تر    ) أي   [ ص: 271 ] ألا تعجب لهؤلاء الذين يزكون أنفسهم ؟ خاطبه ثانيا بالنظر في كيفية افترائهم الكذب على الله ، وأتى بصيغة يفترون الدالة على الملابسة والديمومة ، ولم يخص الكذب في تزكيتهم أنفسهم ، بل عمم في ذلك وفي غيره . وأي ذنب أعظم ممن يفتري على الله الكذب ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا    ) فمن أظلم ممن كذب على الله . 
وكيف : سؤال عن حال ، وانتصابه على الحال والعامل فيه يفترون والجملة في موضع نصب بانظر ; لأن انظر معلقة . وقال ابن عطية    : وكيف يصح أن يكون في موضع نصب بـ يفترون ؟ ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله : يفترون انتهى . أما قوله : يصح أن يكون في موضع نصب بـ يفترون ، فصحيح على ما قررناه ؛ وأما قوله : ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله يفترون ، فهذا لم يذهب إليه أحد ؛ لأن كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها ؛ وإنما قوله : كيف يفترون على الله الكذب في التركيب نظير كيف يضرب زيد عمرا ، ولو كانت مما يجوز الابتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب ; لأنه ذكر أن الخبر هي الجملة من قوله : يفترون ، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ ، وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى ؛ فلا يحتاج إلى رابط . فهذا الذي قال فيه ويصح ، هو فاسد على كل تقدير . 
( وكفى به إثما مبينا    ) تقدم الكلام في نظيره ، وكفى به . والضمير في به ، عائد على الافتراء ، وهو الذي أنكر عليهم . وقيل على الكذب . وقال  الزمخشري    : وكفى بزعمهم ; لأنه قال : " كيف يفترون على الله الكذب " في زعمهم أنهم عند الله أزكياء ، وكفى بزعمهم هذا إثما مبينا من بين سائر آثامهم انتهى . فجعل افتراءهم الكذب مخصوصا بالتزكية ، وذكرنا نحن أنه في هذا وفي غيره ، وانتصاب إثما على التمييز ، ومعنى مبينا ; أي بينا واضحا لكل أحد . 
وقال ابن عطية    : وكفى به خبر في ضمنه تعجب وتعجيب من الأمر ، ولذلك دخلت الباء ; لتدل على معنى الأمر بالتعجب أن يكتفي لهم بهذا الكذب إثما ، ولا يطلب لهم غيره ; إذ هو موبق ومهلك انتهى . وفي ما ذكر من أن الباء دخلت ; لتدل على معنى الأمر بالتعجب نظر ، وقد أمعنا الكلام في قوله . 
وكفى بالله وليا  فيطالع هناك . ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت     ) أجمعوا أنها في اليهود . وسبب نزولها أن كعب بن الأشرف  ، وحيي بن أخطب  وجماعة معهما ، وردوا مكة  يحالفون قريشا  على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنتم أهل كتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ، ففعلوا . وقال أبو سفيان    : أنحن أهدى سبيلا أم محمد  ؟ فقال كعب    : ماذا يقول محمد  ؟ قالوا : يأمر بعبادة الله وحده ، وينهى عن الشرك . قال : وما دينكم ؟ قالوا : نحن ولاة البيت نسقي الحاج ، ونقري الضيف ، ونفك العاني ، وذكروا أفعالهم . فقال : أنتم أهدى سبيلا . وفي بعض ألفاظ هذا السبب خلاف ، قاله  ابن عباس    . وقال عكرمة    : خرج كعب  في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة  بعد وقعة أحد  ، والكتاب هنا التوراة على قول الجمهور ، ويحتمل أن يكون التوراة والإنجيل . 
والجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش  ؛ قاله عكرمة  وغيره . أو الجبت هنا حيي  والطاغوت كعب  ؛ قاله  ابن عباس  أيضا . أو الجبت السحر والطاغوت الشيطان ، قاله مجاهد   والشعبي    . وروي عن عمر    : والجبت الساحر والطاغوت الشيطان ، قاله  زيد بن أسلم    . أو الجبت الساحر والطاغوت الكاهن ، قاله رفيع  ،  وابن جبير    . أو الجبت الكاهن والطاغوت الشيطان ، قاله ابن جبير  أيضا . أو الجبت الكاهن والطاغوت الساحر ؛ قاله  ابن سيرين    . أو الجبت الشيطان والطاغوت   [ ص: 272 ] الكاهن ؛ قاله قتادة    . أو الجبت كعب  والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان . أو الجبت الأصنام ، وكل ما عبد من دون الله والطاغوت الشيطان قاله  الزمخشري    . أو الجبت والطاغوت كل معبود من دون الله من حجر ، أو صورة ، أو شيطان قاله  الزجاج  ، وابن قتيبة    . 
وأورد بعض المفسرين الخلاف مفرقا فقال : الجبت السحر قاله عمر  ، ومجاهد   والشعبي    . أو الأصنام رواه عطية  عن  ابن عباس  ، وبه قال الضحاك   والفراء  ، أو كعب بن الأشرف    . رواه الضحاك  ، عن  ابن عباس    . وليث  ، عن مجاهد    . أو الكاهن ، روي عن  ابن عباس  ، وبه قال مكحول  ،  وابن سيرين    . أو الشيطان قاله ابن جبير  في رواية ، وقتادة  والسدي    . أو الساحر قاله أبو العالية  ، وابن زيد    . وروى أبو بشر  عن ابن جبير  قال : الجبت الساحر بلسان الحبشة  ، وأما الطاغوت فالشيطان قاله عمر  ، ومجاهد  في رواية  الشعبي  ، وابن زيد    . أو المترجمون بين يدي الأصنام رواه  العوفي  عن  ابن عباس  ، أو كعب    . رواه  ابن أبي طلحة  ، عن  ابن عباس  ، وبه قال الضحاك   والفراء    . أو الكاهن قاله عكرمة  أو الساحر ، روي عن  ابن عباس  ،  وابن سيرين  ، ومكحول  ، أو كل ما عبد من دون الله قاله مالك    . وقال قوم : الجبت والطاغوت مترادفان على معنى واحد والجمهور ، وأقوال المفسرين على خلاف ذلك ؛ وأنهما اثنان . وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام على المغيبات جبتا ; لكون علم الغيب يختص بالله تعالى . خرج أبو داود  في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : الطرق والطيرة والعيافة من الجبت الطرق الزجر والعيافة الخط . فإن الجبت والطاغوت الأصنام أو ما عبد من دون الله ؛ فالإيمان بهما التصديق بأنهما آلهة يشركونهما في العبادة مع الله ؛ وإن كان حييا  وكعبا  ، أو جماعة من اليهود ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو الشيطان ؛ فالإيمان بهم عبارة عن طاعتهم وموافقتهم على ما هم عليه ، ويكون من باب إطلاق ثمرة الإيمان ؛ وهي الطاعة على الإيمان . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					