الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وجب عليه الرجم ، هل يحفر له أو لا يحفر له ؟  فقال بعضهم : لا يحفر له مطلقا ، وقال بعضهم : يحفر لمن زنى مطلقا ، وقيل :   [ ص: 400 ] يحفر للمرأة إن كان الزنا ثابتا بالبينة دون الإقرار ، واحتج من قال : بأن المرجوم لا يحفر له بما ثبت في صحيح مسلم  وغيره ، عن أبي  سعيد الخدري  في قصة رجم ماعز  ، ولفظ مسلم  في صحيحه في المراد من الحديث ، قال : فما أوثقناه ، ولا حفرنا له . . . الحديث ، وفيه التصريح من أبي سعيد  في هذا الحديث الصحيح : أنهم لم يحفروا له ، وقال النووي  في شرح مسلم  في الكلام على قول أبي سعيد    : 
فما أوثقناه ، ولا حفرنا له ما نصه : وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم  ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم ، وذكر بعده في حديث الغامدية  ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها . أما قوله : فما أوثقناه فهكذا الحكم عند الفقهاء ، وأما الحفر للمرجوم والمرجومة  ففيه مذاهب للعلماء . 
قال مالك  ، وأبو حنيفة  ، وأحمد    - رضي الله عنهم - في المشهور عنهم : لا يحفر لواحد منهما . 
وقال قتادة  ،  وأبو ثور  ، وأبو يوسف  ، وأبو حنيفة  في رواية : يحفر لهما . 
وقال بعض المالكية : يحفر لمن يرجم بالبينة لا من يرجم بالإقرار . 
وأما أصحابنا فقالوا : لا يحفر للرجل سواء ثبت زناه بالبينة أم بالإقرار . 
وأما المرأة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا : 
أحدها : يستحب الحفر لها إلى صدرها ، ليكون أستر لها . 
والثاني : لا يستحب ولا يكره ، بل هو إلى خيرة الإمام . 
والثالث : وهو الأصح إن ثبت زناها بالبينة استحب ، وإن ثبت بالإقرار فلا ، ليمكنها الهرب إن رجعت . فمن قال بالحفر لهما احتج بأنه حفر للغامدية  ، وكذا لماعز  في رواية ، ويجيب هؤلاء عن الرواية الأخرى في ماعز  أنه لم يحفر له ، أن المراد حفيرة عظيمة أو غير ذلك من تخصيص الحفيرة . 
وأما من قال : لا يحفر فاحتج برواية من روى : فما أوثقناه ، ولا حفرنا له ، وهذا المذهب ضعيف ; لأنه منابذ لحديث الغامدية  ولرواية الحفر لماعز    . 
وأما من قال بالتخيير فظاهر ، وأما من فرق بين الرجل والمرأة ، فيحمل رواية الحفر لماعز  على أنه لبيان الجواز ، وهذا تأويل ضعيف ، ومما احتج به من ترك الحفر حديث   [ ص: 401 ] اليهوديين المذكور بعد هذا ، وقوله جعل يجنأ عليها ، ولو حفر لهما لم يجنأ عليها ، واحتجوا أيضا بقوله في حديث ماعز    : فلما أذلقته الحجارة هرب ، وهذا ظاهر في أنه لم تكن حفرة والله أعلم ، انتهى كلام النووي  ، وقد ذكر فيه أقوال أهل العلم في المسألة ، وبين حججهم ، وناقشها ، وقد ذكر في كلامه ، أن المشهور عن أبي حنيفة  عدم الحفر للرجل والمرأة ، والظاهر أن المشهور عند الحنفية الحفر للمرأة دون الرجل ، وأنه لو ترك الحفر لهما معا فلا بأس ، قال صاحب كنز الدقائق في الفقه الحنفي : ويحفر لها في الرجم لا له ، وقال شارحه في تبيين الحقائق : ولا بأس بترك الحفر لهما ; لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك اهـ ، وقال  ابن قدامة  في " المغني " في الفقه الحنبلي : وإن كان الزاني رجلا أقيم قائما ، ولم يوثق بشيء ولم يحفر له ، سواء ثبت الزنا ببينة أو إقرار لا نعلم فيه خلافا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر لماعز    . 
قال أبو سعيد    : لما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز  ، خرجنا به إلى البقيع  فوالله ما حفرنا له ، ولا أوثقناه ، ولكنه قام لنا ، رواه أبو داود    ; ولأن الحفر له ، ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه ، فوجب ألا تثبت ، وإن كان امرأة فظاهر كلام أحمد  أنها لا يحفر لها أيضا ، وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف ، وذكر في المحرر أنه إن ثبت الحد بالإقرار لم يحفر لها ، وإن ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر . 
قال أبو الخطاب    : وهذا أصح عندي ، وهو قول أصحاب  الشافعي  لما روى أبو بكر  ، وبريدة    : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة ، رواه أبو داود  ، ولأنه أستر لها ، ولا حاجة لتمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة ، فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالإقرار ، فإنها تترك على حال ، لو أرادت الهرب تمكنت منه ; لأن رجوعها عن إقرارها مقبول ، ولنا أن أكثر الأحاديث على ترك الحفر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر للجهنية ولا لماعز  ، ولا لليهوديين ، والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ، ولا يقولون به ، فإن التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها بإقرارها ، ولا خلاف بيننا فيها ، فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فإن ثياب المرأة تشد عليها كيلا تنكشف ، وقد روى أبو داود  بإسناده عن  عمران بن حصين  ، قال : فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشدت عليها ثيابها ، ولأن ذلك أستر لها ، اهـ من " المغني " .
 [ ص: 402 ] وقد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم وأدلتهم في مسألة الحفر للمرجوم من الرجال والنساء . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أقوى الأقوال المذكورة دليلا بحسب صناعة أصول الفقه ، وعلم الحديث : أن المرجوم يحفر له مطلقا ذكرا كان أو أنثى  ، ثبت زناه ببينة أو بإقرار ، ووجه ذلك أن قول أبي سعيد  في صحيح مسلم    : فما أوثقناه ولا حفرنا له ، يقدم عليه ما رواه مسلم  في صحيحه من حديث بريدة  ، بلفظ : فلما كان الرابعة حفر له حفرة ، ثم أمر به فرجم ، اهـ ، وهو نص صحيح صريح في أن ماعزا  حفر له . 
وظاهر الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحافر له ، أي بأمره بذلك فبريدة  مثبت للحفر ، وأبو سعيد  ناف له ، والمقرر في الأصول وعلم الحديث : أن المثبت مقدم على النافي ، وتعتضد رواية بريدة  هذه بالحفر لماعز  بروايته أيضا في صحيح مسلم  بنفس الإسناد : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحفر للغامدية  إلى صدرها ، وهذا نص صحيح صريح في الحفر للذكر والأنثى معا ، أما الأنثى فلم يرد ما يعارض هذه الرواية الصحيحة بالحفر لها إلى صدرها ، وأما الرجل فرواية الحفر له الثابتة في صحيح مسلم  مقدمة على الرواية الأخرى في صحيح مسلم  بعدم الحفر ; لأن المثبت مقدم على النافي . 
وقول  ابن قدامة  في " المغني " : والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ظاهر السقوط ; لأنه حديث صحيح وليس بمنسوخ ، فلا وجه لترك العمل به مع ثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم - كما ترى ، وبالرواية الصحيحة التي في صحيح مسلم  من حديث بريدة    : أنه - صلى الله عليه وسلم - حفر للغامدية  ، وزناها ثبت بإقرارها ، لا ببينة تعلم أن الذين نفوا الحفر لمن ثبت زناها بإقرارها مخالفون لصريح النص الصحيح بلا مستند كما ترى ، والعلم عند الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					