الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف الزانية ، ونكاح العفيفة الزاني ، فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند مالك وأصحابه ، ومن وافقهم ، واحتج أهل هذا القول بأدلة :

                                                                                                                                                                                                                                      منها عموم قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة ، وعموم قوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 \ 32 ] ، وهو شامل بعمومه الزانية أيضا والعفيفة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم على ذلك : حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، قال " : غربها " ، قال : أخاف أن تتبعها نفسي ؟ قال " : فاستمتع بها " ، قال ابن حجر في " بلوغ المرام " في هذا الحديث بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا : رواه أبو داود ، والترمذي ، والبزار ورجاله ثقات ، وأخرجه النسائي من وجه آخر ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ قال " : طلقها " ، قال : لا أصبر عنها ، قال " : فأمسكها " ، اهـ ، من " بلوغ المرام " ، وفيه تصريح ابن حجر بأن رجاله ثقات ، وبه تعلم أن ذكر ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات فيه نظر ، وقد ذكره في الموضوعات مرسلا عن أبي الزبير ، قال : أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي . . . الحديث ، ورواه أيضا مرسلا عن عبيد بن عمير ، وحسان بن عطية كلاهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : وقد حمله أبو بكر الخلال على الفجور ، ولا يجوز هذا ; وإنما يحمل على تفريطها في المال لو صح الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أحمد بن حنبل : هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس له أصل ، انتهى [ ص: 419 ] من موضوعات ابن الجوزي ، وكثرة اختلاف العلماء في تصحيح الحديث المذكور وتضعيفه معروفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ولا ريب أن العرب تكني بمثل هذه العبارة ، عن عدم العفة عن الزنى ، يعني بالعبارة المذكورة قول الرجل : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، اهـ ، وما قاله الشوكاني وغيره هو الظاهر ; لأن لفظ : لا ترد يد لامس أظهر في عدم الامتناع ممن أراد منها ما لا يحل كما لا يخفى ، فحمله على تفريطها في المال غير ظاهر ; لأن إطلاق لفظ اللامس على أخذ المال ليس بظاهر ، كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الحديث المذكور في المرأة التي ظهر عدم عفتها ، وهي تحت زوج ، وكلامنا الآن في ابتداء النكاح لا في الدوام عليه ، وبين المسألتين فرق ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها ، وهي قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية [ 24 \ 3 ] من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه ، قالوا : والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدة التنفير منه ; لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالى : وحرم ذلك على المؤمنين راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه ، كعكسه ، وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : هو قولهم : إن المراد بالنكاح في الآية التزويج ، إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية الآية ، منسوخة بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 \ 32 ] ، وممن ذهب إلى نسخها بها : سعيد بن المسيب ، والشافعي ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية ، ما نصه : هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية ، أو مشركة ، أي : لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة [ ص: 420 ] لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان ، أي : عاص بزناه ، أو مشرك لا يعتقد تحريمه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قال : ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك ، وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد روي عنه من غير وجه أيضا ، وقد روي عن مجاهد وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد نحو ذلك ، انتهى محل الغرض منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      فتراه صدر بأن المراد بالنكاح في الآية : الجماع ، لا التزويج ، وذكر صحته عن ابن عباس الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - الله أن يعلمه تأويل القرآن ، وعزاه لمن ذكر معه من أجلاء المفسرين ، وابن عباس - رضي الله عنهما - من أعلم الصحابة بتفسير القرآن العظيم ، ولا شك في علمه باللغة العربية .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدل على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح ، فدعوى أن هذا التفسير لا يصح في العربية ، وأنه قبيح ، يرده قول البحر ابن عباس ، كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : وقد روي عن ابن عباس وأصحابه ، أن النكاح في هذه الآية : الوطء .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن إنكار الزجاج لهذا القول في هذه الآية ، أعني القول بأن النكاح فيها الجماع ، وقوله : إن النكاح لا يعرف في القرآن ، إلا بمعنى التزويج ، مردود من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن القرآن جاء فيه النكاح بمعنى الوطء ، وذلك في قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسر قوله : حتى تنكح زوجا غيره بأن معنى نكاحها له مجامعته لها ، حيث قال " : لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، ومراده بذوق العسيلة : الجماع ، كما هو معلوم .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، يطلقون النكاح على الوطء .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 421 ] وقد يكون العقد ، اهـ ، وإنما سموا عقد التزويج نكاحا ; لأنه سبب النكاح أي الوطء ، وإطلاق المسبب وإرادة سببه معروف في القرآن ، وفي كلام العرب ، وهو مما يسميه القائلون بالمجاز ، المجاز المرسل ، كما هو معلوم عندهم في محله ، ومن إطلاق العرب النكاح على الوطء ، قول الفرزدق :

                                                                                                                                                                                                                                      وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق



                                                                                                                                                                                                                                      لأن الإنكاح في البيت ليس المراد به عقد التزويج ، إذ لا يعقد على المسبيات ، وإنما المراد به الوطء بملك اليمين والسبي مع الكفر ، ومنه قوله أيضا :

                                                                                                                                                                                                                                      وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن     لها خاطب إلا السنان وعامله



                                                                                                                                                                                                                                      فالمراد بالنكاح في هذا البيت هو الوطء بملك اليمين لا العقد ; كما صرح بذلك بقوله : ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      إذا سقى الله قوما صوب غادية     فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا
                                                                                                                                                                                                                                      التاركين على طهر نساءهم     والناكحين بشطي دجلة البقرا



                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن نكاح البقر ليس معناه التزويج .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : ومما يدل على أن النكاح في الآية غير التزويج ، أنه لو كان معنى النكاح فيها التزويج لوجب حد المتزوج بزانية ; لأنه زان ، والزاني يجب حده ، وقد أجمع العلماء على أن من تزوج زانية لا يحد حد الزنى ، ولو كان زانيا لحد حد الزنى ، فافهم ، هذا هو حاصل حجج من قالوا إن النكاح في الآية الوطء ، وأن تزويج العفيف الزانية ليس بحرام ، كعكسه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية