أحدها : أن معنى أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ 4 \ 101 ] ، الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفا من حديث ابن عباس عند مسلم ، والنسائي ، وأبي داود ، وابن ماجه ، وقدمنا أنه رواه ابن ماجه عن طاوس .
وقد روى نحوه أبو داود ، والنسائي من حديث حذيفة قال : " فصلى بهؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة ولم يقضوا " ورواه النسائي أيضا من حديث زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وممن قال بالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة ، الثوري وإسحاق ومن تبعهما . وروي عن أحمد بن حنبل وعطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد ، والضحاك .
وقال بعضهم : يصلى الصبح في الخوف ركعة ، وإليه ذهب ابن حزم ، ويحكى عن محمد بن نصر المروزي وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف .
قال أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيده بشدة الخوف .
وعلى هذا القول ، فالقصر في قوله تعالى : أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] ، قصر كمية .
وقال جماعة : إن المراد بالقصر في قوله : أن تقصروا من الصلاة ، هو قصر الصلاة في السفر . قالوا : ولا مفهوم مخالفة للشرط الذي هو قوله : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ; لأنه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ [ ص: 254 ] الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة .
وقد تقرر في الأصول ، أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب ، ولذا لم يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة في قوله : اللاتي في حجوركم [ 4 \ 23 ] ; لجريانه على الغالب .
قال في " مراقي السعود " : في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
واستدل من قال : إن المراد بالآية قصر الرباعية في السفر بما أخرجه مسلم في " صحيحه " ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة ، عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، فقد أمن الناس ، قال : عجبت ما عجبت منه ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .
فهذا الحديث الثابت في " صحيح مسلم " ، وغيره يدل على أن يعلى بن أمية ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - كانا يعتقدان أن معنى الآية قصر الرباعية في السفر ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر على فهمه لذلك ، وهو دليل قوي ، ولكنه معارض بما تقدم عن عمر من أنه قال : " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - " ويؤيده حديث عائشة ، وحديث ابن عباس المتقدمان .
وظاهر الآيات المتقدمة الدالة على أن المراد بقوله أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية في صلاة الخوف ، كما قدمنا ، والله تعالى أعلم ، وهيئات صلاة الخوف كثيرة ، فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة ، وتارة إلى غيرها ، والصلاة قد تكون رباعية ، وقد تكون ثلاثية ، وقد تكون ثنائية ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم القتال ، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالا ، وركبانا مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها ، وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصحيح جائزة ، وهيئاتها ، وكيفياتها مفصلة في كتب الحديث والفروع ، وسنذكر ما ذهب إليه الأئمة الأربعة منها إن شاء الله .
أما مالك بن أنس ، فالصورة التي أخذ بها منها هي أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة في الثنائية ، وركعتين في الرباعية والثلاثية ، ثم تتم باقي الصلاة ، وهو اثنتان في الرباعية ، وواحدة في الثنائية والثلاثية ، ثم يسلمون ويقفون وجاه العدو ، وتأتي [ ص: 255 ] الطائفة الأخرى فيجدون الإمام قائما ينتظرهم ، وهو مخير في قيامه بين القراءة ، والدعاء ، والسكوت إن كانت ثنائية ، وبين الدعاء والسكوت إن كانت رباعية أو ثلاثية ، وقيل : ينتظرهم في الرباعية والثلاثية جالسا فيصلي بهم باقي الصلاة ، وهو ركعة في الثنائية ، والثلاثية ، وركعتان في الرباعية ، ثم يسلم ويقضون ما فاتهم بعد سلامه ، وهو ركعة في الثنائية ، وركعتان في الرباعية والثلاثية . فتحصل أن هذه الصورة ، أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعة أو اثنتين ، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ، ويقفون في وجه العدو ، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الباقي ، ويسلم ويتمون لأنفسهم .
قال ابن يونس في هذه الصورة التي ذكرنا : وحديث القاسم أشبه بالقرآن ، وإلى الأخذ به رجع مالك . اهـ .
قال مقيده - عفا الله عنه - : مراد ابن يونس ، أن الحديث الذي رواه مالك في " الموطأ " ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، بالكيفية التي ذكرنا ، هو الذي رجع إليه مالك ، ورجحه أخيرا على ما رواه ، أعني مالكا ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف . الحديث ، والفرق بين رواية القاسم بن محمد ، وبين رواية يزيد بن رومان ، أن رواية يزيد بن رومان فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة الأخرى الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وقد عرفت أن رواية القاسم عند مالك في " الموطأ " ، أنه يصلي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية ثم يسلم فيتمون بعد سلامه لأنفسهم .
قال ابن عبد البر مشيرا إلى الكيفية التي ذكرنا ، وهي رواية القاسم بن محمد ، عند مالك ، وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان ، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات : إن الإمام لا ينتظر المأموم ، وإن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام ، وحديث القاسم هذا الذي أخرجه مالك في ( الموطأ ) موقوف على سهل ، إلا أن له حكم الرفع ; لأنه لا مجال للرأي فيه والتحقيق أنه مرسل صحابي ; لأن سهلا كان صغيرا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجزم الطبري ، وابن حبان ، وابن السكن ، وغيرهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وسهل المذكور ابن ثمان سنين ، وزعم ابن حزم أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بالكيفية التي ذكرنا أنها رجع إليها مالك ، ورواها في " موطئه " عن القاسم بن محمد ، هذا هو حاصل مذهب مالك في كيفية صلاة الخوف . [ ص: 256 ] قال أولا : بأن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ، ثم تتم لأنفسها ، ثم تسلم ، ثم يصلي بقية الصلاة بالطائفة الأخرى وينتظرها حتى تتم ، ثم يسلم بها ورجع إلى أن الإمام يسلم إذا صلى بقية صلاته مع الطائفة الأخرى ، ولا ينتظرهم حتى يسلم بهم بل يتمون لأنفسهم بعد سلامه ، كما بينا .
والظاهر أن المبهم في رواية يزيد بن رومان في قول صالح بن خوات ، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ، أنه أبوه خوات بن جبير الصحابي ، رضي الله عنه ، لا سهل بن أبي حثمة ، كما قاله بعضهم .
قال الحافظ في " الفتح " : ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير ; لأن أبا أويس ، روى هذا الحديث ، عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال : عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، أخرجه ابن منده في " معرفة الصحابة " من طريقه ، وكذلك أخرجه البيهقي ، من طريق عبيد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، وجزم النووي في " تهذيبه " بأنه أبوه خوات ، وقال : إنه محقق من رواية مسلم وغيره ، قلت : وسبقه إلى ذلك الغزالي ، فقال إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير . اه محل الغرض منه بلفظه .
ولم يفرق المالكية بين كون العدو إلى جهة القبلة وبين كونه إلى غيرها ، وأما إذا اشتد الخوف والتحم القتال ، ولم يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلونها رجالا وركبانا إيماء مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، كما نص عليه تعالى بقوله : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية [ 2 \ 239 ] .


