الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وأما قتل المسلم بالكافر فجمهور العلماء على منعه ، منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وروي ذلك عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية - رضي الله عنهم - وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، والزهري ، وابن شبرمة ، والثوري ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " وغيره ، ورواه البيهقي عن عمر ، وعلي ، وعثمان وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهب أبو حنيفة ، والنخعي ، والشعبي إلى أن المسلم يقتل بالذمي ، واستدلوا بعموم النفس بالنفس في الآية والحديث المتقدمين ، وبالحديث الذي رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن ابن البيلماني ، عن ابن عمر : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلما بمعاهد " ، [ ص: 389 ] وهو مرسل من الصحابة ضعيف ، فابن البيلماني لا يحتج به لو وصل ، فكيف وقد أرسل ، وترجم البيهقي في " السنن الكبرى " لهذا الحديث بقوله : باب " بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر ، وما جاء عن الصحابة في ذلك " ، وذكر طرقه ، وبين ضعفها كلها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن جملة ما قال : أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ، قال : قال أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ : ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث ، فكيف بما يرسله ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : الحر بالحر والعبد بالعبد الآية ، ما نصه : ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل يوم خيبر مسلما بكافر " لأنه منقطع ، ومن حديث ابن البيلماني ، وهو ضعيف ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعا ، قال الدارقطني : لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى ، وهو متروك الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      والصواب عن ربيعة ، عن ابن البيلماني مرسل ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وابن البيلماني ضعيف الحديث ، لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث ، فكيف بما يرسله ، فإذا عرفت ضعف الاستدلال على قتل المسلم بالكافر ، فاعلم أن كونه لا يقتل به ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه مبينا بطلان تلك الأدلة التي لا يعول عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب " كتابة العلم " ، وفي باب " لا يقتل المسلم بالكافر " ، أن أبا جحيفة سأل عليا رضي الله عنه : هل عندكم شيء مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتابه ، وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في الصحيفة ؟ ، قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وألا يقتل مسلم بكافر .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا نص صحيح ، قاطع للنزاع ، مخصص لعموم النفس بالنفس ، مبين عدم صحة الأخبار المروية بخلافه ، ولم يصح في الباب شيء يخالفه ، قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ساق حديث علي هذا : ولا يصح حديث ، ولا تأويل يخالف هذا ، وقال القرطبي في تفسيره قلت : فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري ، وهو يخصص عموم قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى الآية ، وعموم قوله تعالى : أن النفس بالنفس [ 5 \ 45 ] ، فهذا الذي ذكرنا في هذا المبحث هو تحقيق المقام في حكم [ ص: 390 ] القصاص في الأنفس بين الذكور والإناث ، والأحرار والعبيد ، والمسلمين والكفار .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما حكم القصاص بينهم في الأطراف ، فجمهور العلماء على أنه تابع للقصاص في الأنفس ; فكل شخصين يجري بينهما القصاص في النفس ، فإنه يجري بينهما في الأطراف ، فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم ، والعبد بالعبد ، والذمي بالذمي ، والذكر بالأنثى ، والأنثى بالذكر ، ويقطع الناقص بالكامل ، كالعبد بالحر ، والكافر بالمسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومشهور مذهب مالك أن الناقص لا يقتص منه للكامل في الجراح ، فلا يقتص من عبد جرح حرا ، ولا من كافر جرح مسلما ، وهو مراد خليل بن إسحاق المالكي بقوله في " مختصره " : والجرح كالنفس في الفعل ، والفاعل والمفعول ، إلا ناقصا جرح كاملا ، يعني فلا يقتص منه له ، ورواية ابن القصار عن مالك وجوب القصاص وفاقا للأكثر ، ومن لا يقتل بقتله ، لا يقطع طرفه بطرفه ، فلا يقطع مسلم بكافر ، ولا حر بعبد ، وممن قال بهذا مالك ، والشافعي ، وأحمد ، والثوري ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وابن المنذر ، كما نقله عنهم صاحب " المغني " ، وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حنيفة : لا قصاص في الأطراف بين مختلفي البدل ، فلا يقطع الكامل بالناقص ، ولا الناقص بالكامل ، ولا الرجل بالمرأة ، ولا المرأة بالرجل ، ولا الحر بالعبد ، ولا العبد بالحر .

                                                                                                                                                                                                                                      ويقطع المسلم بالكافر ، والكافر بالمسلم ; لأن التكافؤ معتبر في الأطراف ، بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ، ولا الكاملة بالناقصة ، فكذلك لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة ، ولا يؤخذ طرفها بطرفه ، كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب من قبل الجمهور ، بأن من يجري بينهما القصاص في النفس ، يجري في الطرف بينهما ، كالحرين ، وما ذكره المخالف يبطل بالقصاص في النفس ، فإن التكافؤ فيه معتبر ; بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن ، ثم يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة ; لأن المماثلة قد وجدت ، ومعها زيادة ، فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق ، كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما اليسار واليمين ، فيجريان مجرى النفس لاختلاف محليهما ، ولهذا استوى بدلهما ، فعلم أنها ليست ناقصة عنها شرعا ، وأن العلة فيهما ليست كما ذكر المخالف ، قاله ابن قدامة في " المغني " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 391 ] ومن الدليل على جريان القصاص في الأطراف ، بين من جرى بينهم في الأنفس ، قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص [ 5 \ 45 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وما روي عن الإمام أحمد من أنه لا قصاص بين العبيد ، فيما دون النفس ، وهو قول الشعبي ، والثوري ، والنخعي ، وفاقا لأبي حنيفة ; معللين بأن أطراف العبيد مال كالبهائم يرد عليه بدليل الجمهور الذي ذكرنا آنفا ، وبأن أنفس العبيد مال أيضا كالبهائم ، مع تصريح الله تعالى بالقصاص فيها في قوله تعالى : والعبد بالعبد .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أنه يشترط للقصاص فيما دون النفس ، ثلاثة شروط :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : كونه عمدا ، وهذا يشترط في قتل النفس بالنفس أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : كونهما يجري بينهما القصاص في النفس .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : إمكان الاستيفاء من غير حيف ، ولا زيادة ; لأن الله تعالى يقول : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية [ 16 \ 126 ] ، ويقول : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ 2 \ 194 ] ، فإن لم يمكن استيفاؤه من غير زيادة سقط القصاص ، ووجبت الدية ، ولأجل هذا أجمع العلماء على أن ما يمكن استيفاؤه من غير حيف ، ولا زيادة ، فيه القصاص المذكور في الآية في قوله تعالى : والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن ، وكالجراح التي تكون في مفصل ، كقطع اليد ، والرجل من مفصليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا في قطع العضو من غير مفصل ، بل من نفس العظم ، فمنهم من أوجب فيه القصاص ; نظرا إلى أنه يمكن من غير زيادة ، وممن قال بهذا مالك ، فأوجب القصاص في قطع العظم من غير المفصل ، إلا فيما يخشى منه الموت ، كقطع الفخذ ، وغيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشافعي : لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقا ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وبه يقول عطاء ، والشعبي ، والحسن البصري ، والزهري ، وإبراهيم النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، وإليه ذهب سفيان الثوري ، والليث بن سعد ، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد ، كما نقله عنهم ابن كثير ، وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام ، إلا في السن .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 392 ] واستدل من قال بأنه لا قصاص في قطع العظم من غير المفصل ، بما رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش ، عن دهثم بن قران ، عن نمران بن جارية ، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي ، أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها ، فاستعدى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر له بالدية ، فقال : يا رسول الله أريد القصاص ، فقال : " خذ الدية بارك الله لك فيها " ولم يقض له بالقصاص .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عبد البر : ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ، ودهثم بن قران العكلي ضعيف أعرابي ليس حديثه مما يحتج به ، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضا ، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة ، اهـ . من ابن كثير .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في " التقريب " في دهثم المذكور : متروك ، وفي نمران المذكور : مجهول ، واختلاف العلماء في ذلك ، إنما هو من اختلافهم في تحقيق مناط المسألة ، فالذين يقولون بالقصاص ، يقولون : إنه يمكن من غير حيف ، والذين يقولون بعدمه ، يقولون : لا يمكن إلا بزيادة ، أو نقص ، وهم الأكثر .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا منع العلماء القصاص ، فيما يظن به الموت ، كما بعد الموضحة من منقلة أطارت بعض عظام الرأس ، أو مأمومة وصلت إلى أم الدماغ ، أو دامغة خرقت خريطته ، وكالجائفة ، وهي التي نفذت إلى الجوف ، ونحو ذلك للخوف من الهلاك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنكر الناس على ابن الزبير القصاص في المأمومة . وقالوا : ما سمعنا بأحد قاله قبله ، واعلم أن العين الصحيحة لا تؤخذ بالعوراء ، واليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ، ونحو ذلك ، كما هو ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية