(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=10ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) .
بعد أن بين الله تعالى لخاتم رسله سنته في شبهات الكفار المعاندين على الرسالة ، وإصرارهم على الجمود والتكذيب بعد إعطائهم الآيات التي كانوا يقترحونها ، وعقابه تعالى إياهم على ذلك بين له شأنا آخر من شئون أولئك الكفار مع رسلهم وسنته تعالى عقابهم عليه فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=10nindex.php?page=treesubj&link=28977ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) ظاهر كلام نقلة اللغة أن الهزء ( بضمتين وبضم فسكون ) والاستهزاء بمعنى السخرية وأن أقوالهم : هزئ به واستهزأ به مرادف لقولهم سخر منه ، ويفهم من كلام بعض المدققين أن الحرفين متقاربا المعنى ولكن بينهما فرقا لا يمنع من استعمال كل منها حيث يستعمل الآخر كثيرا ، قال
الراغب : الهزؤ مزح في خفية ( كذا ولعل صوابه في خفة ) وقد يقال لما هو كالمزح ، فمما قصد به المزح قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=58اتخذوها هزوا ولعبا 5 : 58 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=9وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا 45 : 9 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=41وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا 25 : 41 ) والاستهزاء ارتياد الهزؤ وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزؤ ، كالاستجابة في كونها ارتيادا للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة . . وسخرت منه واستسخرته للهزؤ منه انتهى ملخصا .
[ ص: 268 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : الاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو النقل السريع ، وناقته تهزأ به أي تسرع وتخف انتهى - والخلاصة أن الاستهزاء بالشيء الاستهانة به ، والاستهزاء بالشخص احتقاره وعدم الاهتمام بأمره ، وكثيرا ما يصحب ذلك السخرية منه ، وهي الضحك الناشئ عن الاستخفاف والاحتقار ، فمن حاكى امرءا في قوله أو عمله أو زيه أو غيرها محاكاة احتقار فقد سخر منه ، فالسخرية تستلزم الاستهزاء ، وهي خاصة بالأشخاص دون الأشياء ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون ) ( 23 : 110 ) وقال في
نوح : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=38ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه ) ( 11 : 38 ) الآية .
وحاق المكروه يحيق حيقا ، أحاط به فلم يكن له منه مخرج .
والمعنى : أن الله تعالى قد أخبر رسوله خبرا مؤكدا بصيغة القسم أن الكفار قد استهزءوا برسل كرام من قبله فتنكير " رسل " للتعظيم ، وهو لا ينافي العموم في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=30ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون ) ( 36 : 30 ) فما يراه من استهزاء طغاة
قريش ليس بدعا منهم ، بل جروا به على آثار أعداء الرسل قبلهم ، وقد حاق بأولئك الساخرين العذاب الذي أنذرهم إياه أولئك الرسل على استهزائهم جزاء وفاقا ، حتى كأنه هو الذي حاق بهم لأنه سببه وجاء على وفقه . فالآية تعليم للنبي صلى الله عليه وسلم سنن الله في الأمم مع رسلهم وتسلية له عن إيذاء قومه ، وبشارة له بحسن العاقبة وما سيكون له من إدالة الدولة وقد كان جزاء المستهزئين بمن قبله من الرسل عذاب الخزي بالاستئصال ، ولكن الله كفاه المستهزئين به فأهلكهم ، ولم يجعلهم سببا لهلاك قومهم ، وامتن عليه بذلك في سورة الحجر إذ قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=95إنا كفيناك المستهزئين ) ( 15 : 95 ) والمشهور أنهم خمسة من رؤساء قريش هلكوا في يوم واحد .
ولما كان كون أمر المستهزئين بالرسل يئول إلى الهلاك بحسب سنة الله المطردة فيهم مما يرتاب فيه مشركو
مكة الذين يجهلون التاريخ ، ولا يأخذون خبر الآية فيه بالتسليم أمر الله تعالى رسوله بأن يدلهم على الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11nindex.php?page=treesubj&link=28977قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) أي قل أيها الرسول للمكذبين بك من قومك الذين قالوا " لولا أنزل عليه ملك " سيروا في الأرض كشأنكم وعادتكم ، وتنقلوا في ديار أولئك القرون الذين مكناهم في الأرض ومكنا لهم ما لم نمكن لكم ، ثم انظروا في أثناء كل رحلة من رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك ، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم ، وما تسمعون من أخبارهم ، وإنما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11عاقبة المكذبين ) ولم يقل " عاقبة المستهزئين " أو الساخرين ، والكلام الأخير في هؤلاء لا في جميع المكذبين ، لأن الله تعالى أهلك من القرون الأولى جميع المكذبين ، وإن كان السبب
[ ص: 269 ] المباشر للإهلاك اقتراح المستهزئين الآيات الخاصة على الرسل ، فلما أعطوها كذب بها المستهزئون المقترحون وغيرهم من الكافرين الذين كانوا مشغولين بأنفسهم ومعايشهم عن مشاركة كبراء مترفيهم بالاستهزاء والسخرية ، وإذا كان المكذبون : قد استحقوا الهلاك وإن لم يستهزئوا ولم يسخروا فكيف يكون حال المستهزئين والساخرين ؟ ! لا ريب أنهم أحق بالهلاك وأجدر; ولذلك أهلك الله المستهزئين من قوم نبي الرحمة ولم يجبهم إلى ما اقترحوه لئلا يعم شؤمهم سائر المكذبين معهم ، ومنهم المستعدون للإيمان الذين اهتدوا من بعد .
ومن نكت البلاغة في الآية : أنه قال فيها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11ثم انظروا ) وقد ورد الأمر بالسير في الأرض والحث عليه في آيات أخرى من عدة سور ، وعطف عليه الأمر بالنظر بالفاء ( راجع 99 من سورة النمل و 42 من سورة الروم و 109 من سورة يوسف و 44 من سورة فاطر إلخ ) . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في نكتة الخلاف بين التعبيرين : فإن قلت أي فرق بين قوله " فانظروا " وقوله " ثم انظروا " ؟ قلت : جعل النظر مسببا عن السير في قوله : " فانظروا " فكأنه قيل : سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين . وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11nindex.php?page=treesubj&link=28977سيروا في الأرض ثم انظروا ) فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبه على ذلك بـ ( ثم ) لتباعد ما بين الواجب والمباح اهـ .
وقال
أحمد بن المنير في الانتصاف ، وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر في المكانين واحدا ليكون ذلك سببا في النظر ، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية ، وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير ، وأن السير وسيلة إليه لا غير ، وشتان بين المقصود والوسيلة ، والله أعلم اهـ .
وفي روح المعاني عن بعضهم أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11ثم انظروا ) وفي غير ما موضع " فانظروا " لأن المقام هنا يقتضي " ثم " دونه في هاتيك المواضع ، وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ) مع قوله سبحانه وتعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون ، فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك ، فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار ، وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقب الذي تقتضيه الفاء ، ولا كذلك في المواضع الأخر . انتهى .
قال
الآلوسي بعد إيراده . ولا يخلو عن دغدغة ، واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ، ولكنه أمر ممتد بعطف النظر عليه بالفاء تارة ، نظرا إلى آخره ، وبثم أخرى نظرا إلى أوله . وكذا شأن كل ممتد انتهى ما أورده
الآلوسي ، والظاهر في الأخير أن يكون العطف بالفاء نظرا إلى الأول ، وبثم نظرا إلى الآخر عكس ما ذكره فتأمل .
[ ص: 270 ] ثم أقول : ولعل من يتأمل ما وجهنا به الكلام في تفسير الآية ، قبل النظر في هذه النكت كلها يرى أنه هو المتبادر من النظم بغير تكلف ، وأنه يشبه أن يكون مستنبطا من مجموع تلك النكت ، مع زيادة عليها تقتضيها حال المخاطبين بالأمر بالسير هنا ، وهم كفار
مكة المعاندون الكثيرو الأسفار للتجارة الغافلون عن شئون الأمم والاعتبار بعاقبة الماضين وأحوال المعاصرين .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=10وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) .
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِخَاتَمِ رُسُلِهِ سُنَّتَهُ فِي شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ عَلَى الرِّسَالَةِ ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْجُمُودِ وَالتَّكْذِيبِ بَعْدَ إِعْطَائِهِمُ الْآيَاتِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَرِحُونَهَا ، وَعِقَابَهُ تَعَالَى إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَيَّنَ لَهُ شَأْنًا آخَرَ مِنْ شُئُونِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَسُنَّتُهِ تَعَالَى عِقَابُهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=10nindex.php?page=treesubj&link=28977وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ظَاهِرُ كَلَامِ نَقَلَةِ اللُّغَةِ أَنَّ الْهُزُءَ ( بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ ) وَالِاسْتِهْزَاءُ بِمَعْنَى السُّخْرِيَةِ وَأَنَّ أَقْوَالَهُمْ : هَزِئَ بِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ مُرَادِفٌ لِقَوْلِهِمْ سَخِرَ مِنْهُ ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْمُدَقِّقِينَ أَنَّ الْحَرْفَيْنِ مُتَقَارِبَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنْهَا حَيْثُ يُسْتَعْمَلُ الْآخَرُ كَثِيرًا ، قَالَ
الرَّاغِبُ : الْهُزُؤُ مَزْحٌ فِي خُفْيَةٍ ( كَذَا وَلَعَلَّ صَوَابَهُ فِي خِفَّةٍ ) وَقَدْ يُقَالُ لِمَا هُوَ كَالْمَزْحِ ، فمِمَّا قَصَدَ بِهِ الْمَزْحَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=58اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا 5 : 58 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=9وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا 45 : 9 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=41وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا 25 : 41 ) وَالِاسْتِهْزَاءُ ارْتِيَادُ الْهُزُؤِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَعَاطِي الْهُزُؤِ ، كَالِاسْتِجَابَةِ فِي كَوْنِهَا ارْتِيَادًا لِلْإِجَابَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَجْرِي مَجْرَى الْإِجَابَةِ . . وَسَخِرْتُ مِنْهُ وَاسْتَسْخَرْتُهُ لِلْهُزُؤِ مِنْهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا .
[ ص: 268 ] وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : الِاسْتِهْزَاءُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِخْفَافُ وَأَصْلُ الْبَابِ الْخِفَّةُ مِنَ الْهُزْءِ وَهُوَ النَّقْلُ السَّرِيعُ ، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ أَيْ تُسْرِعُ وَتَخِفُّ انْتَهَى - وَالْخُلَاصَةُ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالشَّيْءِ الِاسْتِهَانَةُ بِهِ ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالشَّخْصِ احْتِقَارُهُ وَعَدَمُ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِهِ ، وَكَثِيرًا مَا يَصْحَبُ ذَلِكَ السُّخْرِيَةُ مِنْهُ ، وَهِيَ الضَّحِكُ النَّاشِئُ عَنِ الِاسْتِخْفَافِ وَالِاحْتِقَارِ ، فَمَنْ حَاكَى امْرَءًا فِي قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ أَوْ زِيِّهِ أَوْ غَيْرِهَا مُحَاكَاةَ احْتِقَارٍ فَقَدْ سَخِرَ مِنْهُ ، فَالسُّخْرِيَةُ تَسْتَلْزِمُ الِاسْتِهْزَاءَ ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْأَشْخَاصِ دُونَ الْأَشْيَاءِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=110فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذَكَرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ) ( 23 : 110 ) وَقَالَ فِي
نُوحٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=38وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ) ( 11 : 38 ) الْآيَةَ .
وَحَاقَ الْمَكْرُوهُ يَحِيقُ حَيْقًا ، أَحَاطَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ مُخْرِجٌ .
وَالْمَعْنَى : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ رَسُولَهُ خَبَرًا مُؤَكَّدًا بِصِيغَةِ الْقَسَمِ أَنَّ الْكُفَّارَ قَدِ اسْتَهْزَءُوا بِرُسُلٍ كِرَامٍ مِنْ قَبْلِهِ فَتَنْكِيرُ " رُسُلٍ " لِلتَّعْظِيمِ ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْعُمُومَ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=30مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ) ( 36 : 30 ) فَمَا يَرَاهُ مِنَ اسْتِهْزَاءِ طُغَاةِ
قُرَيْشٍ لَيْسَ بِدَعًا مِنْهُمْ ، بَلْ جَرَوْا بِهِ عَلَى آثَارِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ قَبْلَهُمْ ، وَقَدْ حَاقَ بِأُولَئِكَ السَّاخِرِينَ الْعَذَابُ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ إِيَّاهُ أُولَئِكَ الرُّسُلُ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا ، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَاقَ بِهِمْ لِأَنَّهُ سَبَبَهُ وَجَاءَ عَلَى وَفْقِهِ . فَالْآيَةُ تَعْلِيمٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَتَسْلِيَةٌ لَهُ عَنْ إِيذَاءِ قَوْمِهِ ، وَبِشَارَةٌ لَهُ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَمَا سَيَكُونُ لَهُ مِنْ إِدَالَةِ الدَّوْلَةِ وَقَدْ كَانَ جَزَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَذَابَ الْخِزْيِ بِالِاسْتِئْصَالِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ كَفَاهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ فَأُهْلَكَهُمْ ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ سَبَبًا لِهَلَاكِ قَوْمِهِمْ ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ إِذْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=95إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) ( 15 : 95 ) وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ هَلَكُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ .
وَلَمَّا كَانَ كَوْنُ أَمْرِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرُّسُلِ يَئُولُ إِلَى الْهَلَاكِ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللَّهِ الْمُطَّرِدَةِ فِيهِمْ مِمَّا يَرْتَابُ فِيهِ مُشْرِكُو
مَكَّةَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ التَّارِيخَ ، وَلَا يَأْخُذُونَ خَبَرَ الْآيَةِ فِيهِ بِالتَّسْلِيمِ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِأَنْ يَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يُوصِلُهُمْ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11nindex.php?page=treesubj&link=28977قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلْمُكَذِّبِينَ بِكَ مِنْ قَوْمِكَ الَّذِينَ قَالُوا " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ " سِيرُوا فِي الْأَرْضِ كَشَأْنِكُمْ وَعَادَتِكُمْ ، وَتَنَقَّلُوا فِي دِيَارِ أُولَئِكَ الْقُرُونِ الَّذِينَ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ وَمَكَّنَّا لَهُمْ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ، ثُمَّ انْظُرُوا فِي أَثْنَاءِ كُلِّ رِحْلَةٍ مِنْ رِحْلَاتِكُمْ آثَارَ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ ، وَتَأَمَّلُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ بِمَا تُشَاهِدُونَ مِنْ آثَارِهِمْ ، وَمَا تَسْمَعُونَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ ، وَإِنَّمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) وَلَمْ يَقُلْ " عَاقِبَةُ الْمُسْتَهْزِئِينَ " أَوِ السَّاخِرِينَ ، وَالْكَلَامُ الْأَخِيرُ فِي هَؤُلَاءِ لَا فِي جَمِيعِ الْمُكَذِّبِينَ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ الْأُولَى جَمِيعَ الْمُكَذِّبِينَ ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ
[ ص: 269 ] الْمُبَاشِرُ لِلْإِهْلَاكِ اقْتِرَاحَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْآيَاتِ الْخَاصَّةَ عَلَى الرُّسُلِ ، فَلَمَّا أُعْطَوْهَا كَذَّبَ بِهَا الْمُسْتَهْزِئُونَ الْمُقْتَرِحُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ عَنْ مُشَارَكَةِ كُبَرَاءِ مُتْرَفِيهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ ، وَإِذَا كَانَ الْمُكَذِّبُونَ : قَدِ اسْتَحَقُّوا الْهَلَاكَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهْزِئُوا وَلَمْ يَسْخَرُوا فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَالسَّاخِرِينَ ؟ ! لَا رَيْبَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْهَلَاكِ وَأَجْدَرُ; وَلِذَلِكَ أَهْلَكَ اللَّهُ الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْ قَوْمِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى مَا اقْتَرَحُوهُ لِئَلَّا يَعُمَّ شُؤْمُهُمْ سَائِرَ الْمُكَذِّبِينَ مَعَهُمْ ، وَمِنْهُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا مِنْ بَعْدُ .
وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْآيَةِ : أَنَّهُ قَالَ فِيهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11ثُمَّ انْظُرُوا ) وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْ عِدَّةِ سُوَرٍ ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ بِالنَّظَرِ بِالْفَاءِ ( رَاجِعْ 99 مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ و 42 مِنْ سُورَةِ الرُّومِ و 109 مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ و 44 مِنْ سُورَةِ فَاطِرٍ إِلَخْ ) . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي نُكْتَةِ الْخِلَافِ بَيْنَ التَّعْبِيرَيْنِ : فَإِنْ قُلْتَ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ " فَانْظُرُوا " وَقَوْلِهِ " ثُمَّ انْظُرُوا " ؟ قُلْتُ : جُعِلَ النَّظَرُ مُسَبَّبًا عَنِ السَّيْرِ فِي قَوْلِهِ : " فَانْظُرُوا " فَكَأَنَّهُ قِيلَ : سِيرُوا لِأَجْلِ النَّظَرِ وَلَا تَسِيرُوا سَيْرَ الْغَافِلِينَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11nindex.php?page=treesubj&link=28977سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا ) فَمَعْنَاهُ إِبَاحَةُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَإِيجَابُ النَّظَرِ فِي آثَارِ الْهَالِكِينَ ، وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِـ ( ثُمَّ ) لِتُبَاعِدَ مَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُبَاحِ اهـ .
وَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ الْمُنَيَّرِ فِي الِانْتِصَافِ ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ فِي الْمَكَانَيْنِ وَاحِدًا لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي النَّظَرِ ، فَحَيْثُ دَخَلَتِ الْفَاءُ فَلِإِظْهَارِ السَّبَبِيَّةِ ، وَحَيْثُ دَخَلَتْ ثُمَّ فَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ السَّيْرِ ، وَأَنَّ السَّيْرَ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ لَا غَيْرَ ، وَشَتَّانَ بَيْنِ الْمَقْصُودِ وَالْوَسِيلَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ .
وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ هُنَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=11ثُمَّ انْظُرُوا ) وَفِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ " فَانْظُرُوا " لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا يَقْتَضِي " ثُمَّ " دُونَهُ فِي هَاتِيكَ الْمَوَاضِعِ ، وَذَلِكَ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28977أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ) مَعَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ) وَالْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَالِكِينَ طَوَائِفٌ كَثِيرَةٌ وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُنْشَأَ بَعْدَهُمْ أَيْضًا كَثِيرُونَ ، فَيَكُونُ أَمْرُهُمْ بِالسَّيْرِ دُعَاءً لَهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ اسْتِقْرَاءَ الْبِلَادِ وَمَنَازِلِ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَى كَثْرَتِهَا لِيَرَوُا الْآثَارَ فِي دِيَارٍ بَعْدَ دِيَارٍ ، وَهَذَا مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى زَمَانٍ وَمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ تَمْنَعُ مِنَ التَّعَقُّبِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفَاءُ ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَوَاضِعِ الْأُخَرِ . انْتَهَى .
قَالَ
الْآلُوسِيُّ بَعْدَ إِيرَادِهِ . وَلَا يَخْلُو عَنْ دَغْدَغَةٍ ، وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ السَّيْرَ مُتَّحِدٌ هُنَاكَ وَهُنَا ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مُمْتَدٌّ بِعَطْفِ النَّظَرِ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ تَارَةً ، نَظَرًا إِلَى آخِرِهِ ، وَبِثُمَّ أُخْرَى نَظَرًا إِلَى أَوَّلِهِ . وَكَذَا شَأْنُ كُلِّ مُمْتَدٍّ انْتَهَى مَا أَوْرَدَهُ
الْآلُوسِيُّ ، وَالظَّاهِرُ فِي الْأَخِيرِ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ نَظَرًا إِلَى الْأَوَّلِ ، وَبِثُمَّ نَظَرًا إِلَى الْآخَرِ عَكْسَ مَا ذَكَرَهُ فَتَأَمَّلْ .
[ ص: 270 ] ثُمَّ أَقُولُ : وَلَعَلَّ مَنْ يَتَأَمَّلُ مَا وَجَّهْنَا بِهِ الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ، قَبْلَ النَّظَرِ فِي هَذِهِ النُّكَتِ كُلِّهَا يَرَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ النَّظْمِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ ، وَأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ النُّكَتِ ، مَعَ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا تَقْتَضِيهَا حَالُ الْمُخَاطَبِينَ بِالْأَمْرِ بِالسَّيْرِ هُنَا ، وَهُمْ كُفَّارُ
مَكَّةَ الْمُعَانِدُونَ الْكَثِيرُو الْأَسْفَارِ لِلتِّجَارَةِ الْغَافِلُونَ عَنْ شُئُونِ الْأُمَمِ وَالِاعْتِبَارِ بِعَاقِبَةِ الْمَاضِينَ وَأَحْوَالِ الْمُعَاصِرِينَ .