الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 128 ] إبطال ابن حزم القياس والرأي :

                          ( مسألة ) ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي ; لأن أمر الله تعالى بالرد عند التنازع إلى كتابه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد صح ، فمن رد إلى قياس أو إلى تعليل يدعيه أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المتعلق بالإيمان ، ورد إلى غير ما أمره الله تعالى بالرد إليه ، وفي هذا ما فيه .

                          ( قال علي ) : وقول الله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ( 6 : 38 ) وقوله تعالى : ( تبيانا لكل شيء ) ( 16 : 89 ) وقوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) ( 16 : 44 ) وقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ( 5 : 3 ) إبطال للقياس والرأي; لأنه لا يختلف أهل القياس والرأي في أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نص . وقد شهد الله تعالى بأن النص لم يفرط فيه شيئا ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين للناس كل ما نزل إليهم ، وأن الدين قد كمل فصح أن النص قد استوفى جميع الدين . فإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس ولا إلى رأي ولا إلى رأي غيره .

                          ونسأل من قال بالقياس : هل كل قياس قاسه قائس حق ؟ أم منه حق ومنه باطل ؟ فإن قال : كل قياس حق أحال; لأن المقاييس تتعارض ويبطل بعضها بعضا ، ومن المحال أن يكون الشيء وضده من التحريم والتحليل حقا معا ، وليس هذا مكان نسخ ولا تخصيص كالأخبار المتعارضة التي ينسخ بعضها بعضا ويخصص بعضها بعضا . وإن قال : بل منها حق ومنها باطل قيل له : فعرفنا بماذا يعرف القياس الصحيح من الفاسد ؟ ولا سبيل لهم إلى وجود ذلك .

                          وإذا لم يوجد دليل على تصحيح الصحيح من القياس من الباطل منه فقد بطل كله ، وصار دعوى بلا برهان .

                          فإن ادعوا أن القياس قد أمر الله تعالى به ، سئلوا : أين وجدوا ذلك ؟ فإن قالوا : قال الله عز وجل : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) ( 59 : 2 ) قيل لهم : إن الاعتبار ليس هو كلام العرب الذي نزل به القرآن إلا التعجب قال الله تعالى : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) [ ص: 129 ] أي تعجبا ، وقال تعالى : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) ( 12 : 111 ) أي عجب . ومن الباطل أن يكون معنى الاعتبار القياس ، ويقول الله تعالى لنا : قيسوا ، ثم لا يبين لنا ماذا نقيس ؟ ولا كيف نقيس ؟ ولا على ماذا نقيس ؟ هذا ما لا سبيل إليه; لأنه ليس في وسع أحد أن يعلم شيئا من الدين إلا بتعليم الله تعالى إياه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( 2 : 286 ) .

                          فإن ذكروا أحاديث وآيات فيها تشبيه شيء بشيء ، وأن الله قضى وحكم بأمر كذا من أجل أمر كذا ، قلنا لهم : كل ما قاله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو حق ، لا يحل لأحد خلافه ، وهو نص به نقول ، وكيفما تريدون أنتم أن تشبهوه في الدين ، وأن تعلقوه مما لم ينص عليه الله تعالى ، ولا رسوله عليه السلام فهو باطل وإفك ، وشرع لم يأذن الله تعالى به . وهذا يبطل عليهم تمويههم بذكر آية جزاء الصيد ، و " أرأيت لو مضمضت " و ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل ) ( 5 : 32 ) وكل آية وحديث موهوا بإيراده ، وهو مع ذلك حجة عليهم ، على ما بيناه في ( كتاب الإحكام لأصول الأحكام ) وفي ( كتاب النكت ) وفي ( كتاب الدرة ) و ( كتاب النبذ ) .

                          ( قال علي ) : وقد عارضناهم في كل قياس قاسوه بقياس مثله أو أوضح منه على أصولهم لنريهم فساد القياس جملة ، فموه منهم مموهون . فإن قالوا : أنتم دابا تبطلون القياس بالقياس ، وهذا منكم رجوع إلى القياس واحتجاج به ، وأنتم في ذلك بمنزلة المحتج بحجة العقل ليبطل حجة العقل ، وبدليل من النظر ليبطل به النظر .

                          ( قال علي ) فقلنا : هذا شغب يسهل إفساده ولله الحمد ، ونحن لم نحتج بالقياس في إبطال القياس ، ومعاذ الله من هذا ، لكن أريناكم أن أصلكم الذي أتيتموه من تصحيح القياس يشهد بفساد قياساتكم ، ولا قول أظهر باطلا من قول أكذب نفسه ، وقد نص الله تبارك وتعالى على هذا فقال : ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم ) ( 5 : 18 ) فليس هذا تصحيحا لقولهم : إنهم أبناء الله وأحباؤه ، ولكن إلزاما لهم ما يفسد به قولهم . ولسنا في ذلك كمن ذكرتم ممن يحتج في إبطال حجة العقل بحجة العقل; لأن فاعل ذلك مصحح القضية العقلية التي يحتج بها ، فظهر تناقضه من قرب ، ولا حجة له غيرها ، فقد ظهر بطلان قوله . وأما نحن فلم نحتج قط في إبطال القياس بقياس نصححه ، ولكنا نبطل القياس بالنصوص وبراهين العقل . ثم نزيد بيانا في فساده منه نفسه بأن نرى تناقضه جملة فقط ، والقياس الذي نعارض به قياسكم نحن نقر بفساده وفساد قياسكم الذي [ ص: 130 ] هو مثله أو أضعف منه ، كما نحتج على أهل كل مقالة من معتزلة ، ورافضة ، ومرجئة ، وخوارج ، ويهود ، ونصارى ، ودهرية ، من أقوالهم التي يشهدون بصحتها ، فنريهم فسادها وتناقضها ، وأنتم تحتجون عليهم معنا بذلك ولسنا نحن ولا أنتم ممن يقر بتلك الأقوال التي نحتج عليهم منها ، بل هي عندنا في غاية البطلان والفساد كاحتجاجنا على اليهود والنصارى من كتبهم التي بأيديهم ونحن لا نصححها ، بل نقول : إنها محرفة مبدلة ؛ لكن لنريهم تناقض أصولهم وفروعهم ، لا سيما وجميع أصحاب القياس مختلفون في قياساتهم ، لا تكاد توجد مسألة إلا وكل طائفة منهم تأتي بقياس تدعي صحته تعارض به قياس الأخرى .

                          وهم كلهم مقرون مجمعون على أنه ليس كل قياس صحيحا ولا كل رأي حقا ، فقلنا لهم : فهاتوا حد القياس الصحيح والرأي الصحيح الذين يتميزان به من القياس الفاسد . وهاتوا حد العلة الصحيحة التي لا تقيسون إلا عليها من العلة الفاسدة ، فلجلجوا .

                          ( قال علي ) : وهذا مكان إن زم عليهم فيه ظهر فساد قولهم جملة ولم يكن لهم إلى جواب يفهم سبيل أبدا ، وبالله تعالى التوفيق .

                          فإن أتوا في شيء من ذلك بنص قلنا : النص حق ، والذي تريدون أنتم إضافته إلى النص بآرائكم باطل ، وفي هذا خولفتم ، وهكذا أبدا .

                          فإن ادعوا أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على القول بالقياس قيل لهم : كذبتم ، بل الحق أنهم كلهم أجمعوا على بطلانه . برهان كذبهم : أنه لا سبيل لهم إلى وجود حديث عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه أطلق الأمر بالقول بالقياس أبدا ، إلا في الرسالة المكذوبة الموضوعة على عمر رضي الله عنه فإن فيها : " واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور " وهذه رسالة لم يروها إلا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه ، وهو ساقط بلا خلاف ، وأبوه أسقط منه أو ممن هو مثله في السقوط ، فكيف وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر رضي الله عنه ؟ منها قوله فيها : " والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب " وهم لا يقولون بهذا ، يعني جميع الحاضرين من أصحاب القياس حنفيهم ومالكيهم وشافعيهم ، فإن كان قول عمر لو صح في تلك الرسالة في القياس حجة ، فقوله في أن المسلمين عدول كلهم إلا مجلودا في حد حجة . فليس قوله في القياس حجة لو صح ، فكيف ولم يصح ؟ [ ص: 131 ] وأما برهان صحة قولنا في إجماع الصحابة رضي الله عنهم على إبطال القياس ، فإنه لا يختلف اثنان في أن جميع الصحابة رضي الله عنهم مصدقون بالقرآن وفيه : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ( 5 : 3 ) ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) ( 4 : 59 ) فمن الباطل المحال أن يكون الصحابة رضي الله عنهم يعلمون هذا ويؤمنون به ثم يردون عند التنازع إما إلى قياس أو رأي . هذا ما لا يظنه بهم ذو عقل .

                          فكيف وقد ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه قال : " أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني ، إن قلت في آية من كتاب الله برأيي ، أو بما لا أعلم " وصح عن الفاروق رضي الله عنه أنه قال : " اتهموا الرأي على الدين ، وإن الرأي منا هو الظن والتكلف " وعن عثمان رضي الله عنه في فتيا أفتاها " إنما كان رأيا رأيته فمن شاء أخذه ومن شاء تركه " وعن علي رضي الله عنه : " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه " وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه : " أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم " وعن ابن عباس رضي الله عنه : " من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من جهنم " وعن ابن مسعود رضي الله عنه : " سأقول فيها بجهد رأيي " . وعن معاذ بن جبل في حديث : " تبتدع كلاما ليس من كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإياكم وإياه; فإنه بدعة وضلالة " فعلى هذا النحو هو كل رأي .

                          وروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم لا على أنه إلزام ولا أنه حق ، ولكنه إشارة بعفو أو صلح أو تورع فقط لا على سبيل الإيجاب . . . وحديث معاذ الذي فيه : " أجتهد رأيي ولا آلو " لا يصح لأنه لم يروه أحد إلا الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يدرى من هو ، عن رجال من أهل حمص لم يسمهم عن معاذ . وقد تقصينا إسناد هذه الأحاديث كلها في كتبنا المذكورة ولله تعالى الحمد .

                          حدثنا أحمد بن قاسم ، نا ابن قاسم بن محمد بن قاسم ، نا جدي قاسم بن أصبغ ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي ، نا نعيم بن حماد ، نا عبد الله بن المبارك ، نا عيسى بن يونس ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن جرير بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نصير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم ، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال " .

                          قال علي : والشريعة كلها إما فرض يعصي من تركه ، وإما حرام يعصي من فعله ، [ ص: 132 ] وإما مباح لا يعصي من فعله ولا من تركه . وهذا المباح ينقسم ثلاثة أقسام : إما مندوب إليه يؤجر من فعله ولا يعصي من تركه ، وإما مكروه يؤجر من تركه ولا يعصي من فعله ، وإما مطلق لا يؤجر من فعله ولا من تركه ، ولا يعصي من تركه ولا من فعله . وقال الله عز وجل : ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 : 29 ) وقال تعالى : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) ( 6 : 119 ) فصح أن كل شيء حلال إلا ما فصل تحريمه في القرآن والسنة . حدثنا عبد الله بن يوسف ، نا أحمد بن فتح ، نا عبد الوهاب بن عيسى ، نا أحمد بن محمد ، نا أحمد بن علي ، نا مسلم بن الحجاج ، نا زهير بن حرب ، نا يزيد بن هارون ، نا الربيع بن مسلم القرشي ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : " أيها الناس ! إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى أعادها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " .

                          ( قال علي ) : فجمع هذا الحديث جميع أحكام الدين أولها عن آخرها . ففيه أن ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح وليس حراما ولا فرضا ، وأن ما أمر به فهو فرض ، وما نهى عنه فهو حرام ، وأن ما أمرنا ( به ) فإنما يلزمنا منه ما نستطيع فقط ، وأن نفعل مرة واحدة نؤدي ما ألزمنا ، ولا يلزمنا تكراره فأي حاجة بأحد إلى القياس أو رأي مع هذا البيان الواضح ، ونحمد الله على عظيم نعمه .

                          فإن قال قائل منهم : لا يجوز إبطال القول بالقياس إلا حتى توجدونا تحريم القول به نصا في القرآن . قلنا : قد أوجدناكم البرهان نصا بذلك بألا تردوا التنازع إلا إلى القرآن والسنة فقط ، قال الله تعالى : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) ( 7 : 3 ) وقال تعالى : ( فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ( 16 : 74 ) والقياس ضرب أمثال في الدين لله تعالى .

                          ثم يقال لهم : إن عارضتم الروافض بمثل هذا فقالوا لكم : لا يجوز القول بإبطال الإلهام ، ولا بإبطال اتباع الإمام ، إلا حتى توجدونا تحريم ذلك نصا . أو قال لكم ذلك أهل كل مقالة في تقليد إنسان بعينه ، بماذا تتفصون ؟ بل الحق أن يقال : إنه لا يحل أن يقال على الله تعالى : إنه حرم أو حلل أو أوجب إلا بنص فقط ، وبالله تعالى التوفيق اهـ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية