الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم ) الظاهر المختار أن هذا عطف على ما قبله ، أي لله ما في السماوات وما في الأرض ، وله ما سكن في الليل والنهار ، واستظهر أبو حيان أنه استئناف إخبار غير مندرج تحت السؤال والجواب . وسكن من سكنى أو من السكون ضد الحركة ، وفيه اكتفاء بما ذكر عما يقابله ، أي له ما سكن وما تحرك ، على حد قوله : ( سرابيل تقيكم الحر ) ( 16 : 81 ) أي والبرد . ويجوز الجمع بين المعنيين على مذهب من يجوز ذلك في المشترك بما يحتمله المقام ، والحكمة في ذكر هذا الملك الخاص على دخوله في عموم ما في السماوات والأرض التذكير بتصرفه تعالى بهذه الخفايا ، فإن السكنى والسكون من دواعي خفاء الساكن ، فإذا كان في الليل كان أشد خفاء; ولذلك قدم ذكر الليل لأن ما يسكن فيه هو المقصود بالذات ، وعطف النهار عليه تكميل ، ولما ذكرنا تعالى بأنه المالك لما ذكر ، المتصرف فيه بقدرته بما يشاء كما هو شأن الربوبية الكاملة ذكرنا بأنه هو السميع العليم ، أي المحيط سمعه بكل ما من شأنه أن يسمع مهما يكن خفيا عن غيره ، فهو يسمع دبيب النملة في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها ، كما قال أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه : وهو المحيط علمه بكل شيء ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) ( 40 : 19 ) وإذا كان كذلك فلا يمكن أن تدق عن سمعه دعوة داع أو تعزب عن علمه حاجة محتاج ، حتى يخبره بها الأولياء ، أو يقنعه بها الشفعاء ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) ( 2 : 255 ) .

                          بعد كتابة ما تقدم راجعت التفسير الكبير فإذا فيه من نكت البلاغة في الآية ما نقله [ ص: 276 ] الرازي عن أبي مسلم الأصفهاني وقال إنه أحسن ما قيل في نظمها وهو : ذكر في الآية الأولى السماوات والأرض إذ لا مكان سواهما ، وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار إذ لا زمان سواهما ، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات . فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات ، والزمان والزمانيات . قال الرازي : وهذا بيان في غاية الجلالة . وأقول : ههنا دقيقة أخرى ، وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات ، ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات ، وذلك لأن المكان والمكانيات ، أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات ، لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة . والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى اهـ .

                          بعد هذا القول الذي أمر الله به رسوله للتذكير بأنه الرب المالك لكل شيء ، المتصرف بالفعل والتدبير في كل شيء حتى دقائق الأشياء والأمور وخفاياها ، وأن تصرفه هذا عن علم محيط لا يعزب عنه مثقال ذرة ولا دبيب نملة . أمره بقول آخر بين فيه ما يستلزمه ما قبله من وجوب ولايته تعالى وحده والتوجه إليه دون سواه في كل ما هو فوق كسب البشر ، والاعتماد على توفيقه فيما هو من كسبهم ، ولا يتم به المراد بمحض سعيهم ، فقال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية