ثم بين تعالى حقيقة ما يغر الناس من الحياة الدنيا وهو التمتع الخاص بها ، والمقابلة
[ ص: 303 ] بين ذلك وبين حظ المتقين لله فيها من الدار الآخرة ، إثر بيان ما يلقاه أولئك المفتونون بالأولى عندما يصيرون إلى الثانية التي كانوا يكذبون بها فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=32nindex.php?page=treesubj&link=28977وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ) اللعب : هو الفعل الذي لا يقصد به فاعله مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة ، كأفعال الأولاد الصغار التي يتلذذون بها لذاتها ، فما يعالجونه من كسر حبة بقل أو إزالة غشاء عن قطعة حلوى لأجل أكلها لا يسمى لعبا ، واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، ويعبر عن كل ما به استمتاع باللهو ، كذا قال
الراغب ، وفي اللسان : اللهو ما لهوت به ، ولعبت به ، وشغلك من هوى وطرب ونحوها ، ثم قال : يقال لهوت بالشيء ألهو به لهوا وتلهيت به - إذا لعبت به وتشاغلت وغفلت به عن غيره . وأقول : إن الأصل في اللهو إذا أطلق يراد به ما يشغل الإنسان من لعب وطرب ودواعي سرور ، وارتياح عما يتعبه ويشق عليه من الجد أو يحزنه أو يسوءه من خطوب الدنيا ونكباتها . ثم توسع به فصار يطلق أحيانا على ما يسر ويلذ وإن لم يقصد به التشاغل عن أمور الجد ، كمغازلة النساء والاستمتاع بهن ، ومنه قول
امرئ القيس :
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
.
وقد يطلق أيضا على جد يتشاغل به عن جد آخر ، ولكن الذي عرف استعماله في ذلك الفعل لا المصدر ، فلا يقال : إن هذا الفعل لهو ، بل يقال لهوت بكذا عن كذا ، أو تلهيت أو التهيت به عنه . ومنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=10فأنت عنه تلهى ) ( 80 : 10 ) وإنما تشاغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأعمى بالتصدي لدعوة كبراء
قريش إلى الإسلام لا بشيء فيه طرب ولا سرور نفسي يسمى لهوا بإطلاق .
والمعنى أن هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار : إنه لا حياة غيرها - وهي ما يتمتعون به من اللذات المقصودة عندهم لذاتها ، أو الملهية لهم عن همومها وأكدارها - ليست إلا لعبا ولهوا أو كاللعب واللهو في عدم استتباعها لشيء من الفوائد والمنافع يكون في حياة بعدها ، أو هي دائرة بين عمل لا يفيد في العاقبة - فهو كلعب الأطفال - وبين عمل له فائدة عاجلة سلبية ، كفائدة اللهو هو دفع الهموم والآلام ، ويوضح هذا قول بعض الحكماء : إن جميع لذات الدنيا سلبية ؛ إذ هي إزالة الآلام ، فلذة الطعام مزيلة لألم الجوع وبقدر هذا الألم تعظم اللذة في إزالته ، ولذة شرب الماء مزيلة لألم العطش كذلك .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=17196شرب المنبهات والمخدرات ؛ كالخمر والحشيش والدخان ، فإنه يكون أولا بالتكلف واحتمال المكروه والألم ، فإن هذه الأشياء كلها مكروهة بالطبع كما أخبر المجربون ، وإنما يتكلفونه طلبا للذة متوهمة يقلد بها الشارب غيره ، ثم يصير المؤلم بالتعود ملائما بإزالته للألم المتولد منه
[ ص: 304 ] إزالة مؤقتة . ذلك بأن هذه الأشياء سموم مكروهة في نفسها ، ومتى أثر سمها في الأعصاب بالتنبيه الزائد وغيره أعقب ذلك ضده من الفتور والألم ، وهما يطاردان بالعود إلى الشرب ، كما قال أشعر السكيرين وأقدرهم على تمثيل تأثير السكر
وداوني بالتي كانت هي الداء
وقال :
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وهذه اللذة الأولى التي ذكرها وهمية كما قلنا ؛ لأنه لم يكن ذاقها بل توهمها ، وقلد بها المفتونين بالسكر . وقد يقصد بالسكر إزالة آلام أخرى غير ألم سم الخمر كالهموم والأكدار ، فإن السكران يغيب عن عقله ووجدانه فلا يشعر بآلامها في تلك الحال ، وقد يتضاعف عليه ألم الشعور والوجدان ، وكثيرا ما يقع في آلام أخرى بدنية كالصداع والغثيان ، أو نفسية كالتي فر منها ، أو ما هو شر منها ، ويصدق عليه في كل حال قول
أبي الطيب :
إذا استشفيت من داء بداء فأقتل ما أعلك ما شفاكا
.
وقد قيل : إن
nindex.php?page=treesubj&link=27142سماع الغناء وآلات الطرب لا يدخل في عموم هذه القاعدة ؛ لأنها لذة روحية لا تعد داعيتها من الآلام ، ومن دقق النظر في هذه المسألة علم أن السماع ليس من ضروريات الحياة الشخصية ولا النوعية ; ولذلك كانت داعيته ضعيفة ليست كداعية الغناء والوقاع ، فكان فقده غير مؤلم إلا لمن اشتد ولوعه به ، وهذا يدخل في عموم القاعدة . ولذة السماع عند غيره - وهم الجمهور - ضعيفة بقدر ضعف الداعية ، فالسماع لا يعد من أركان هذه الحياة ، ولا من مقاصدها الذاتية للناس ، وإنما يستروح إليه أكثر أهله لترويح النفس من آلام الحياة لا من ألم الداعية إليه ، وإنما غلب اسم " اللهو " عليه واسم " الملاهي " على آلاته ؛ لأنه غير مقصود لذاته .
وفي الآية وجه آخر يصح جمعه مع الأول ، وهو أن متاع هذه الحياة الدنيا الخاص بها متاع قليل ، أجله قصير ، لا يصح أن يغتر به العاقل الراشد ، فهو ليس إلا كلعب الأطفال في قصر مدته من حيث إن الطفل يسرع إليه الملل من كل لعبة ، أو من حيث إن زمن الطفولة قصير ، كله غفلة ، أو كلهو المهموم في قصر مدته ، على كونه غير مطلوب لذاته .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=32nindex.php?page=treesubj&link=28977وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ) هذا خبر مؤكد بلام القسم ، يفيد بمقابلته أن نعيم الآخرة ليس كنعيم الدنيا لعبا ولهوا يعبث به العابثون ، أو يتشاغلون ويتسلون به عن الأكدار والهموم ، بل هو مما يقصده العاقل لفوائده ومنافعه الثابتة الدائمة - وأن تلك الدار للذين يتقون الشرك والشرور المحرمة خير من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من اللعب في قصر مدته ، وعدم فائدته ،
[ ص: 305 ] أو من قبيل اللهو في كونه دفعا لألم الهم والكدر ، أو ضجر الشقاء والتعب ، دع ما يستلزمه من المعاصي المفضية إلى عذاب الأخرة ، ذلك بأن نعيم الآخرة البدني أعلى وأكمل من نعيم الدنيا في ذاته ، وفي دوامه وثباته ، وفي كونه إيجابيا لا سلبيا ، وفي كونه غير مشوب ولا منغص بشيء من الآلام ، وفي كونه لا يعقبه ثقل ، ولا مرض ، ولا إزالة أقذار ، فما القول بنعيمها الروحاني من لقاء الله ورضوانه ، وكمال معرفته المعبر عنه عند أهل السنة برؤيته ؟ أي أتغفلون فلا تعقلون هذا الفرق أيها المكذبون بالآخرة ؟ أما لو عقلتم لآمنتم .
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما
.
قرأ
ابن عارم ( ولدار الآخرة ) بإضافة الصفة للموصوف لمغايرتها له ، ولا نزاع بين النحاة في وقوع مثل هذا في الكلام العربي ، وحسبك وروده في الكتاب العزيز ، وإنما اختلف
الكوفيون والبصريون في اطراده وطريقة إعرابه ، فالأولون يعربونه بغير تأويل ، والآخرون يرون أنه لم يرد إلا بمسوغ ، وهو هنا استعمال " الآخرة " استعمال الأسماء في مثل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=4وللآخرة خير لك من الأولى ) ( 93 : 4 ) أو مراعاة مضاف محذوف تقديره : ولدار الحياة الآخرة ؛ لأنه في مقابلة الحياة الدنيا ، ويصح تقدير النشأة أيضا ، وقرأ بعض القراء " يعقلون " بالياء التحتية مراعاة للغيبة ، وبعضهم بالتاء الفوقية للخطاب .
ومن مباحث نكت البلاغة : أنه ورد في معنى هذه الآية قوله تعالى في " سورة
محمد " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=36إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم ) ( 47 : 36 ) وقوله في " سورة الحديد " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ) ( 57 : 20 ) وقد قدم في الآيات الثلاث اللعب على اللهو ، وقال تعالى في " سورة العنكبوت " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=64وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) ( 29 : 64 ) وقد قدم في هذه ذكر اللهو على اللعب ، وأكثر المفسرين لا يعنون ببيان نكتة لذلك ؛ لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا ، بل مطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه . ومنهم من يرى أن مثل هذا لا يقع في كتاب الله تعالى إلا لفائدة ، وقد نقل
السيد الألوسي في " روح المعاني " كلاما ركيكا في الفرق بين الاستعمالين عزاه إلى الدرة ، وقال في آخره : قاله مولانا
شهاب الدين فليفهم ، وهو أمر بما لا يستطاع من فهم ذلك الكلام المضطرب المبهم .
والذي يظهر لنا في نكتة ذلك أن
nindex.php?page=treesubj&link=28914تقديم اللعب على اللهو لا يحتاج إلى تعليل ؛ لأنه الأصل المقدم في الوجود ، وقد فصلت آية الحديد متاع الحياة الدنيا بحسب ترتيبه الذي تقتضيه الفطرة البشرية ، فقدم فيها اللعب لأن أول عمل للطفل يلذ له هو اللعب المقصود عنده لذاته ،
[ ص: 306 ] وذكر بعده اللهو لما فيه من القصد الذي لا يأتي من الطفل ; لأنه لا يحصل إلا لذي الفكر وبعده الزينة التي هي شأن سن الصبا ، وبعده التفاخر الذي هو شأن الشبان ، وبعده التكاثر في الأموال والأولاد الذي هو شأن الكهول والشيوخ ، فالنكتة ينبغي أن تلتمس في آية العنكبوت لا في آيتي
محمد والأنعام ، وهي قد وردت في سياق إقامة الحجج العقلية على المشركين ، فذكر فيها اللهو قبل اللعب على طريقة التدلي المؤذن بالانتقال من الشيء إلى ما هو دونه في نظر العقلاء ، فإن اللعب من العاقل الذي لا يليق به العبث أقبح من اللهو ؛ إذ اللهو تقصد به فائدة ولو سلبية ، واللعب هو العبث الذي لا تقصد به فائدة ألبتة ، فهو شأن الأطفال لا العقلاء العالمين بالمصالح ، الذين يقصدون بكل عمل من أعمالهم ، إما دفع بعض المضار ، وإما تحصيل بعض المنافع ; ولذلك بين جهلهم بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=64وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) ( 29 : 64 ) وقال في الحجة التي قبلها (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=63بل أكثرهم لا يعقلون ) ( 29 : 63 ) ولا حاجة إلى مثل هذا التدلي في آية الأنعام التي نفسرها ، فإنها لم ترد في سياق حجج الإيمان العقلية التي يراد بها بيان ضعف نظر المشركين وجهلهم ، وإن ذيلت بالتوبيخ على عدم عقل ما قرر فيها وفي هذا التذييل ، بل وردت في بيان حقيقة الدنيا بعد الإعلام بما يصيب المفتونين بها في الآخرة بحصر همهم في لذاتها ، وتلاه بيان المقابلة بينهم وبين المؤمنين الذين يتقون الله فيها ، ففي مثل هذا السياق - كآية " سورة
محمد " - يحسن الترتيب الوجودي ، بتقديم اللعب على اللهو الذي هو طريق الترقي ; لأنه انتقال من عبث ليس له عاقبة نافعة إلى لهو فائدته سلبية عاجلة ; ولذلك بين بعده أن عمل المؤمنين المتقين فيها - ومنه تمتعهم بلذاتها - يؤجرون عليه في الآخرة ، وأنها بسبب اعتصامهم فيها بالتقوى ، خير لهم من العاجلة الدنيا .
هذا وإنني عند بلوغي هذا البحث ظفرت بكتاب ( درة التنزيل وغرة التأويل )
لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي ، فراجعته بعد استقرار فهمي على ما تقدم ، فعلمت أنه هو الذي نقل
الألوسي عن
الشهاب عنه ما لا يكاد يفهم . وما ذلك إلا للنقل بالمعنى دون النص ، الذي يكثر بسببه الخطأ في النقل . وقد ذكر
الإسكافي هذا البحث عند ذكر الآية الثامنة مما أورده من " سورة الأنعام " ( وهي الآية ال70 ) الواردة في اتخاذ الكفار دينهم لعبا ولهوا - مع ما يقابلها في " سورة الأعراف " ( 7 : 51 ) من اتخاذهم دينهم لهوا ولعبا . وبهذه المناسبة ذكر آيتي الحديد والعنكبوت اللتين بينهما مثل هذا الاختلاف ، ونسي ذكر الآية التي نحن بصدد تفسيرها . وسيأتي ذكر اتخاذ الدين لعبا ولهوا في محله . وقد اعتمد
الخطيب في تفسير اللهو في الآيات أنه اجتلاب المسرة بمخالطة النساء وهو مخطئ في ذلك . وقال في تعليل تقديم اللعب على اللهو في " سورة الحديد " : إن الحياة الدنيا لمن اشتغل بها ولم يتعب لغيرها مقسومة من الصبا وهو وقت اللعب ، وبعده اللهو وهو الترويح عن النفس
[ ص: 307 ] بملاعبة النساء ، ويتبع ذلك أخذ الزينة لهن ولغيرهن . ومن أجل الزينة نشأت مباهاة الأكفاء ، ومفاخرة الأشكال والنظراء ، ثم بعده المكاثرة بالأموال والأولاد ، فترتبت الحياة على هذه الأحوال ، فوجب تقديم حال اللعب على اللهو . اهـ . ثم قال في آية العنكبوت : إنه لا يراد بها أن الحياة الدنيا كلها لعب ولهو . إلخ ثم قال ما نصه :
" بل المراد المبالغة في وصف قصر مدة الدنيا بالإضافة إلى مدة الأخرى ، فكأنه قال : ما أمد الحياة الدنيا إلا كأمد أزمنة اللهو واللعب ، وهي أزمنة تستقصر لشغل النفس بحلاوة ما يستعجل ، كما قال القائل :
شهور ينقضين وما شعرنا بأنصاف لهن ولا سرار
.
وقال المتأخر :
وليلة إحدى الليالي الغر لم تك غير شفق وفجر
.
والدليل على أن المراد ما ذكرت قبل : ما ذكره الله بعد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=64وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ) ( 29 : 64 ) أي إن حياتها تبقى أبدا ، ولا تعرف أبدا ، وإنما قدم اللهو هنا على اللعب لأن الأزمنة التي يقصرها اللهو أكثر من الأزمنة التي يقصرها اللعب ; لأن التشاغل به أكثر . فلما كانت معظم ما يستقصر وجب تقديم ما يكثر على ما هو دونه في الكثرة ؛ لأن ذلك آخذ بالشبه ، وأبلغ في وصف المشبه ، ولا خلاف أن الناس أزمنتهم المشغولة باللهو أكثر من أزمنتهم المشغولة باللعب ، وأن طيبها لهم يخيل قصرها إليهم ، ويتفاوت طيبها على حسب تفاوت ميل النفس إلى محبوبها ، فمعظم ما ترى الزمان الطويل قصيرا زمان اللهو بالنساء ، وهو الذي نشأت منه فتنة الرجال وهلاك أهل الحب " . اهـ . وما قلناه أقرب من اللفظ نسبا ، وأشد ارتباطا بالمعنى وأقوى سببا .
هذا وإننا قد وعدنا بأن نبين في آخر تفسير هذه الآيات ما يترتب على إنكار البعث والجزاء من فساد الفطرة البشرية المفضي إلى الشرور الكثيرة ، فنقول :
إن
nindex.php?page=treesubj&link=30336الكفر بالبعث والجزاء واعتقاد أنه لا حياة بعد هذه الحياة يجعل هم الكافر محصورا في الاستمتاع بلذات الدنيا وشهواتها البدنية والنفسية ؛ كالجاه والرياسة والعلو في الأرض ولو بالباطل وهو ما يسمونه الشرف ، ومن كان كذلك يكون في اتباع هواه ولذاته الشهوانية أسفل من البهائم كالبقر والقردة والخنازير ، وفي اتباعه لهواه في لذاته الغضبية أضرى وأشد أذى من الوحوش الضارية المفترسة كالذئاب والنمور ، وفي اتباعه لهواه ولذته النفسية شرا
[ ص: 308 ] من الشياطين يكيد بعضهم لبعض ويفترس بعضهم بعضا ، لا يصدهم عن باطل ولا شر يهوونه إلا العجز ، ولا يرجعون إلى حكم يفصل بينهم إلا القوة التي جعلوها فوق الحق . وطالما غشوا أنفسهم وفتنوا غيرهم في هذا الزمان بما كان من تأثير التوازن في القوى من منع كثير من البغي والعدوان الذي كان يصول به قوي الأمم على ضعيفها ، والحكومات الجائرة على رعيتها ، فزعموا أن الحضارة المادية والعلوم والفنون البشرية هي التي تفيض روح الكمال على الإنسان إذا لم يؤمن بالبعث والجزاء ، ولا بالإله الديان ، واستدلوا على ذلك بما أجمعت عليه أممهم ودولهم من ذم الحرب ، والتفاخر ببناء سياستهم على أمتن قواعد السلم ، وزعموا أن الباعث على ذلك حب الإنسانية ، والرغبة في العروج بجميع البشر إلى قنة السعادة المدنية .
فإن قيل : فما بالكم تسابقون إلى استذلال الأمم الضعيفة في الشرق وتسخرونها لمنافعكم وتوفير ثروتكم بغير حق ؟ قالوا : كلا إنما نريد أن نخرجها من ظلمات الهمجية والجهل لتشاركنا فيما نحن فيه من نور الحضارة والعلم . فإن قيل : فما بالنا نراها لم تنل من علومكم إلا بعض القشور ، ولم تستفد من مدنيتكم إلا الفسق والفجور ، قالوا : إنما ذلك لضعف الاستعداد ، وما تمكن في نفوس هذه الشعوب من الفساد ، على أننا خير لها من حكامها الأولين بما قمنا به من حفظ الأمن وتوفير أسباب النعيم للعاملين ! ذلك شأنهم ، لا تقام عليهم حجة إلا يقابلونها بشبهة تؤيدها القوة ، وقد قوضت الحرب المشتعلة نارها في أوربا هذه الأعوام ، جميع ما بنيت عليه هذه الشبهات من المزاعم والأوهام ، إذ رأينا فيها أرقى أهل الأرض في الحضارة والعلوم والفلسفة يخربون بيوتهم بأيديهم ، ويقوضون صروح مدينتهم بمدافعهم ، ويستعينون بكل ما ارتقوا إليه من العلوم والفنون والصناعات والحكمة والنظام ، لإهلاك الحرث والنسل وتخريب العمران ، بمنتهى القسوة والشدة ، التي لا تشوبها عاطفة رأفة ولا رحمة ، ولو كان من بأيديهم أزمة الأمور منهم يؤمنون بالله واليوم الآخر وما فيه من الحساب والجزاء بالحق ، لما انتهوا في الطغيان إلى هذا الحد ، نعم ، إن هذه الشعوب كانت تتقابل لنصر المذهب أو الدين في القرون التي كانت تعمل فيها كل شيء باسم الدين ، ولكنها لم تصل في التقتيل والتخريب في ذلك الزمان إلى عشر معشار ما هي عليه الآن ، وإن كانوا يسمون هذا العصر عصر النور وتلك العصور بعصور الظلمات ، على أن الرؤساء كانوا يتخذون اسم الدين وتأويل نصوصه وسيلة لأهوائهم التي ليست من الدين في شيء ، كما يعلم جميع علماء هذا العصر .
ومن العجائب أن أقسى أهل هذه الحرب وأشدهم تخريبا وتدميرا هم الذين يزعمون أنهم يحاربون لله وأن الله معهم على أعدائهم ، وإنما الحرب الدينية الصحيحة حرب الأنبياء والخلفاء الراشدين ، ومن على مقربة من سيرتهم من الملوك الصالحين ، ولم يكن يستحل فيها في عصر الإسلام ما يستحل الآن من القسوة والتخريب ولا ما نقل عن أنبياء وملوك
[ ص: 309 ] بني إسرائيل ، وقد فصلنا في المنار القول في المقابلة بين هذه الحرب المدنية وحروب المسلمين الدينية ، التي كانت دفاعا عن النفس وتقريرا للحق والعدل ، والمساواة في الحقوق بين أصناف الخلق ، يسيرون فيها على القواعد الشرعية العادلة في الضرورات ككونها تبيح ما ضرره دون ضررها وكونها تقدر بقدرها ، وتراعى فيها الرحمة لا العدل وحده ، وقد شهد بذلك لسلفنا أعلم حكماء الإفرنج بتاريخنا (
غوستاف لوبون ) فقال كلمة حق حقيقة بأن تكتب بماء الذهب ، وهي : " ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب " .
وجملة القول أن شبهات المفتونين بالمدنية المادية قد دحضت بهذه الحرب الساحقة الماحقة وقويت بها حجة أهل الدين عليهم ، بل تنبه بها الشعور الديني في الجم الغفير من الأوربيين حتى الفرنسيس منهم ، بعد أن كانوا قد نبذوه وراء ظهورهم ، وآثروا عليه الشهوات البدنية الحقيرة ، حتى ضاقت بهم المعابد التي كانت مهجورة قلما تفتح أبوابها ، وقلما يلم بها أحد إن فتحت . وذلك شأن المسرفين في أمرهم من الناس ، لا يتوجهون إلى خالقهم إلا عند الشدة والبأس (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=12وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ) ( 10 : 12 ) .
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حَقِيقَةَ مَا يَغُرُّ النَّاسَ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُوَ التَّمَتُّعُ الْخَاصُّ بِهَا ، وَالْمُقَابِلَةُ
[ ص: 303 ] بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ حَظِّ الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ فِيهَا مِنَ الدَّارِ الْآخِرَةِ ، إِثْرَ بَيَانِ مَا يَلْقَاهُ أُولَئِكَ الْمَفْتُونُونَ بِالْأُولَى عِنْدَمَا يَصِيرُونَ إِلَى الثَّانِيَةِ الَّتِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهَا فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=32nindex.php?page=treesubj&link=28977وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ) اللَّعِبُ : هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي لَا يَقْصِدُ بِهِ فَاعِلُهُ مَقْصِدًا صَحِيحًا مِنْ تَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ ، كَأَفْعَالِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ الَّتِي يَتَلَذَّذُونَ بِهَا لِذَاتِهَا ، فَمَا يُعَالِجُونَهُ مِنْ كَسْرِ حَبَّةِ بَقْلٍ أَوْ إِزَالَةِ غِشَاءٍ عَنْ قِطْعَةِ حَلْوَى لِأَجْلِ أَكْلِهَا لَا يُسَمَّى لَعِبًا ، وَاللَّهْوُ : مَا يَشْغَلُ الْإِنْسَانَ عَمَّا يَعْنِيهِ وَيُهِمُّهُ ، وَيُعَبِّرُ عَنْ كُلِّ مَا بِهِ اسْتِمْتَاعٌ بِاللَّهْوِ ، كَذَا قَالَ
الرَّاغِبُ ، وَفِي اللِّسَانِ : اللَّهْوُ مَا لَهَوْتَ بِهِ ، وَلَعِبْتَ بِهِ ، وَشَغَلَكَ مِنْ هَوًى وَطَرَبٍ وَنَحْوِهَا ، ثُمَّ قَالَ : يُقَالُ لَهَوْتُ بِالشَّيْءِ أَلْهُو بِهِ لَهْوًا وَتَلَهَّيْتُ بِهِ - إِذَا لَعِبْتَ بِهِ وَتَشَاغَلْتَ وَغَفَلْتَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ . وَأَقُولُ : إِنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّهْوِ إِذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ مَا يَشْغَلُ الْإِنْسَانَ مِنْ لَعِبٍ وَطَرَبٍ وَدَوَاعِي سُرُورٍ ، وَارْتِيَاحٍ عَمَّا يُتْعِبُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجِدِّ أَوْ يُحْزِنُهُ أَوْ يَسُوءُهُ مِنْ خُطُوبِ الدُّنْيَا وَنَكَبَاتِهَا . ثُمَّ تُوُسِّعَ بِهِ فَصَارَ يُطْلَقُ أَحْيَانًا عَلَى مَا يَسُرُّ وَيَلَذُّ وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّشَاغُلُ عَنْ أُمُورِ الْجِدِّ ، كَمُغَازَلَةِ النِّسَاءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ
امْرِئِ الْقَيْسِ :
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي كَبِرْتُ وَأَلَّا يُحْسِنَ اللَّهْوَ أَمْثَالِي
.
وَقَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى جِدٍّ يُتَشَاغَلُ بِهِ عَنْ جِدٍّ آخَرَ ، وَلَكِنَّ الَّذِي عُرِفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلُ لَا الْمَصْدَرُ ، فَلَا يُقَالُ : إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَهْوٌ ، بَلْ يُقَالُ لَهَوْتُ بِكَذَا عَنْ كَذَا ، أَوْ تَلَهَّيْتُ أَوِ الْتَهَيْتُ بِهِ عَنْهُ . وَمِنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=10فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) ( 80 : 10 ) وَإِنَّمَا تَشَاغَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْأَعْمَى بِالتَّصَدِّي لِدَعْوَةِ كُبَرَاءِ
قُرَيْشٍ إِلَى الْإِسْلَامِ لَا بِشَيْءٍ فِيهِ طَرَبٌ وَلَا سُرُورٌ نَفْسِيٌّ يُسَمَّى لَهْوًا بِإِطْلَاقٍ .
وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا الَّتِي قَالَ الْكُفَّارُ : إِنَّهُ لَا حَيَاةَ غَيْرُهَا - وَهِيَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ الْمَقْصُودَةِ عِنْدَهُمْ لِذَاتِهَا ، أَوِ الْمُلْهِيَةِ لَهُمْ عَنْ هُمُومِهَا وَأَكْدَارِهَا - لَيْسَتْ إِلَّا لَعِبًا وَلَهْوًا أَوْ كَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فِي عَدَمِ اسْتِتْبَاعِهَا لِشَيْءٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ يَكُونُ فِي حَيَاةٍ بَعْدَهَا ، أَوْ هِيَ دَائِرَةٌ بَيْنَ عَمَلٍ لَا يُفِيدُ فِي الْعَاقِبَةِ - فَهُوَ كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ - وَبَيْنَ عَمَلٍ لَهُ فَائِدَةٌ عَاجِلَةٌ سَلْبِيَّةٌ ، كَفَائِدَةِ اللَّهْوِ هُوَ دَفْعُ الْهُمُومِ وَالْآلَامِ ، وَيُوَضِّحُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ : إِنَّ جَمِيعَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا سَلْبِيَّةٌ ؛ إِذْ هِيَ إِزَالَةُ الْآلَامِ ، فَلَذَّةُ الطَّعَامِ مُزِيلَةٌ لِأَلَمِ الْجُوعِ وَبِقَدْرِ هَذَا الْأَلَمِ تَعْظُمُ اللَّذَّةُ فِي إِزَالَتِهِ ، وَلَذَّةُ شُرْبِ الْمَاءِ مُزِيلَةٌ لِأَلَمِ الْعَطَشِ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=17196شُرْبُ الْمُنَبِّهَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ ؛ كَالْخَمْرِ وَالْحَشِيشِ وَالدُّخَانِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوَّلًا بِالتَّكَلُّفِ وَاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهِ وَالْأَلَمِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَكْرُوهَةٌ بِالطَّبْعِ كَمَا أَخْبَرَ الْمُجَرِّبُونَ ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَهُ طَلَبًا لِلَذَّةٍ مُتَوَهَّمَةٍ يُقَلِّدُ بِهَا الشَّارِبُ غَيْرَهُ ، ثُمَّ يَصِيرُ الْمُؤْلِمُ بِالتَّعَوُّدِ مُلَائِمًا بِإِزَالَتِهِ لِلْأَلَمِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ
[ ص: 304 ] إِزَالَةً مُؤَقَّتَةً . ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ سُمُومٌ مَكْرُوهَةٌ فِي نَفْسِهَا ، وَمَتَى أَثَّرَ سُمُّهَا فِي الْأَعْصَابِ بِالتَّنْبِيهِ الزَّائِدِ وَغَيْرِهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ ضِدَّهُ مِنَ الْفُتُورِ وَالْأَلَمِ ، وَهُمَا يُطَارَدَانِ بِالْعَوْدِ إِلَى الشُّرْبِ ، كَمَا قَالَ أَشْعَرُ السِّكِّيرِينَ وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى تَمْثِيلِ تَأْثِيرِ السُّكْرِ
وَدَاوِنِي بِالَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ
وَقَالَ :
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وَهَذِهِ اللَّذَّةُ الْأُولَى الَّتِي ذَكَرَهَا وَهْمِيَّةٌ كَمَا قُلْنَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَاقَهَا بَلْ تَوَهَّمَهَا ، وَقَلَّدَ بِهَا الْمَفْتُونِينَ بِالسُّكْرِ . وَقَدْ يَقْصِدُ بِالسُّكْرِ إِزَالَةَ آلَامٍ أُخْرَى غَيْرِ أَلَمِ سُمِّ الْخَمْرِ كَالْهُمُومِ وَالْأَكْدَارِ ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ يَغِيبُ عَنْ عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ فَلَا يَشْعُرُ بِآلَامِهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَقَدْ يَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ أَلَمُ الشُّعُورِ وَالْوِجْدَانِ ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي آلَامٍ أُخْرَى بَدَنِيَّةٍ كَالصُّدَاعِ وَالْغَثَيَانِ ، أَوْ نَفْسِيَّةٍ كَالَّتِي فَرَّ مِنْهَا ، أَوْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا ، وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ قَوْلُ
أَبِي الطَّيِّبِ :
إِذَا اسْتَشْفَيْتَ مِنْ دَاءٍ بِدَاءٍ فَأَقْتَلُ مَا أَعَلَّكَ مَا شَفَاكَا
.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=27142سَمَاعَ الْغِنَاءِ وَآلَاتِ الطَّرَبِ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَذَّةٌ رُوحِيَّةٌ لَا تُعَدُّ دَاعِيَتُهَا مِنَ الْآلَامِ ، وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلِمَ أَنَّ السَّمَاعَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ الشَّخْصِيَّةِ وَلَا النَّوْعِيَّةِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتْ دَاعِيَتُهُ ضَعِيفَةً لَيْسَتْ كَدَاعِيَةِ الْغِنَاءِ وَالْوِقَاعِ ، فَكَانَ فَقْدُهُ غَيْرَ مُؤْلِمٍ إِلَّا لِمَنِ اشْتَدَّ وُلُوعُهُ بِهِ ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْقَاعِدَةِ . وَلَذَّةُ السَّمَاعِ عِنْدَ غَيْرِهِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - ضَعِيفَةٌ بِقَدْرِ ضَعْفِ الدَّاعِيَةِ ، فَالسَّمَاعُ لَا يُعَدُّ مِنْ أَرْكَانِ هَذِهِ الْحَيَاةِ ، وَلَا مِنْ مَقَاصِدِهَا الذَّاتِيَّةِ لِلنَّاسِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِهِ لِتَرْوِيحِ النَّفْسِ مِنْ آلَامِ الْحَيَاةِ لَا مِنْ أَلَمِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا غَلَبَ اسْمُ " اللَّهْوِ " عَلَيْهِ وَاسْمُ " الْمَلَاهِي " عَلَى آلَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ .
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ يَصِحُّ جَمْعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَنَّ مَتَاعَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْخَاصَّ بِهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ ، أَجَلُهُ قَصِيرٌ ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَغْتَرَّ بِهِ الْعَاقِلُ الرَّاشِدُ ، فَهُوَ لَيْسَ إِلَّا كَلَعِبِ الْأَطْفَالِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الطِّفْلَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْمَلَلُ مِنْ كُلِّ لُعْبَةٍ ، أَوْ مِنْ حَيْثُ إِنَّ زَمَنَ الطُّفُولَةِ قَصِيرٌ ، كُلُّهُ غَفْلَةٌ ، أَوْ كَلَهْوِ الْمَهْمُومِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ ، عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَطْلُوبٍ لِذَاتِهِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=32nindex.php?page=treesubj&link=28977وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) هَذَا خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِلَامِ الْقَسَمِ ، يُفِيدُ بِمُقَابَلَتِهِ أَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ لَيْسَ كَنَعِيمِ الدُّنْيَا لَعِبًا وَلَهْوًا يَعْبَثُ بِهِ الْعَابِثُونَ ، أَوْ يَتَشَاغَلُونَ وَيَتَسَلَّوْنَ بِهِ عَنِ الْأَكْدَارِ وَالْهُمُومِ ، بَلْ هُوَ مِمَّا يَقْصِدُهُ الْعَاقِلُ لِفَوَائِدِهِ وَمَنَافِعِهِ الثَّابِتَةِ الدَّائِمَةِ - وَأَنَّ تِلْكَ الدَّارَ لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَالشُّرُورَ الْمُحَرَّمَةَ خَيْرٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ الَّذِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا التَّمَتُّعَ الَّذِي هُوَ مِنَ اللَّعِبِ فِي قِصَرِ مُدَّتِهِ ، وَعَدَمِ فَائِدَتِهِ ،
[ ص: 305 ] أَوْ مِنْ قَبِيلِ اللَّهْوِ فِي كَوْنِهِ دَفْعًا لِأَلَمِ الْهَمِّ وَالْكَدَرِ ، أَوْ ضَجَرِ الشَّقَاءِ وَالتَّعَبِ ، دَعْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْمَعَاصِي الْمُفْضِيَةِ إِلَى عَذَابِ الْأَخَرَةِ ، ذَلِكَ بِأَنَّ نَعِيمَ الْآخِرَةِ الْبَدَنِيَّ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا فِي ذَاتِهِ ، وَفِي دَوَامِهِ وَثَبَاتِهِ ، وَفِي كَوْنِهِ إِيجَابِيًّا لَا سَلْبِيًّا ، وَفِي كَوْنِهِ غَيْرَ مَشُوبٍ وَلَا مُنَغَّصٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْآلَامِ ، وَفِي كَوْنِهِ لَا يَعْقُبُهُ ثِقْلٌ ، وَلَا مَرَضٌ ، وَلَا إِزَالَةٌ أَقْذَارٍ ، فَمَا الْقَوْلُ بِنَعِيمِهَا الرُّوحَانِيِّ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ ، وَكَمَالِ مَعْرِفَتِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِرُؤْيَتِهِ ؟ أَيْ أَتُغْفِلُونَ فَلَا تَعْقِلُونَ هَذَا الْفَرْقَ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالْآخِرَةِ ؟ أَمَا لَوْ عَقَلْتُمْ لَآمَنْتُمْ .
قَالَ الْمُنَجِّمُ وَالطَّبِيبُ كِلَاهُمَا لَا تُبْعَثُ الْأَمْوَاتُ قُلْتُ إِلَيْكُمَا
إِنْ صَحَّ قَوْلُكُمَا فَلَسْتُ بِخَاسِرٍ أَوْ صَحَّ قَوْلِي فَالْخَسَارُ عَلَيْكُمَا
.
قَرَأَ
ابْنُ عَارِمٍ ( وَلَدَارُ الْآخِرَةِ ) بِإِضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ لِمُغَايَرَتِهَا لَهُ ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ النُّحَاةِ فِي وُقُوعِ مِثْلِ هَذَا فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ ، وَحَسْبُكَ وُرُودُهُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ
الْكُوفِيُّونَ وَالْبَصْرِيُّونَ فِي اطِّرَادِهِ وَطَرِيقَةِ إِعْرَابِهِ ، فَالْأَوَّلُونَ يُعْرِبُونَهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ ، وَالْآخَرُونَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا بِمُسَوِّغٍ ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعْمَالُ " الْآخِرَةِ " اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=93&ayano=4وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ) ( 93 : 4 ) أَوْ مُرَاعَاةُ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ : وَلَدَارُ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَيَصِحُّ تَقْدِيرُ النَّشْأَةِ أَيْضًا ، وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ " يَعْقِلُونَ " بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ مُرَاعَاةً لِلْغَيْبَةِ ، وَبَعْضُهُمْ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ لِلْخِطَابِ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ : أَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " سُورَةِ
مُحَمَّدٍ " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=36إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ) ( 47 : 36 ) وَقَوْلُهُ فِي " سُورَةِ الْحَدِيدِ " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=20اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ) ( 57 : 20 ) وَقَدْ قَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ اللَّعِبَ عَلَى اللَّهْوِ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي " سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=64وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ( 29 : 64 ) وَقَدْ قَدَّمَ فِي هَذِهِ ذِكْرَ اللَّهْوِ عَلَى اللَّعِبِ ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ لَا يُعْنَوْنَ بِبَيَانِ نُكْتَةٍ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يُفِيدُ تَرْتِيبًا ، بَلْ مُطْلَقَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَقَعُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا لِفَائِدَةٍ ، وَقَدْ نَقَلَ
السَّيِّدُ الْأَلُوسِيُّ فِي " رُوحِ الْمَعَانِي " كَلَامًا رَكِيكًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ عَزَاهُ إِلَى الدُّرَّةِ ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ : قَالَهُ مَوْلَانَا
شِهَابُ الدِّينِ فَلْيُفْهَمْ ، وَهُوَ أَمْرٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ فَهْمِ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُضْطَرِبِ الْمُبْهَمِ .
وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي نُكْتَةِ ذَلِكَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28914تَقْدِيمَ اللَّعِبِ عَلَى اللَّهْوِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْلِيلٍ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْمُقَدَّمُ فِي الْوُجُودِ ، وَقَدْ فَصَّلَتْ آيَةُ الْحَدِيدِ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِحَسَبِ تَرْتِيبِهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْفِطْرَةُ الْبَشَرِيَّةُ ، فَقَدَّمَ فِيهَا اللَّعِبَ لِأَنَّ أَوَّلَ عَمَلٍ لِلطِّفْلِ يَلَذُّ لَهُ هُوَ اللَّعِبُ الْمَقْصُودُ عِنْدَهُ لِذَاتِهِ ،
[ ص: 306 ] وَذَكَرَ بَعْدَهُ اللَّهْوَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ الَّذِي لَا يَأْتِي مِنَ الطِّفْلِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِذِي الْفِكْرِ وَبَعْدَهُ الزِّينَةَ الَّتِي هِيَ شَأْنُ سِنِّ الصِّبَا ، وَبَعْدَهُ التَّفَاخُرَ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الشُّبَّانِ ، وَبَعْدَهُ التَّكَاثُرَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْكُهُولِ وَالشُّيُوخِ ، فَالنُّكْتَةُ يَنْبَغِي أَنْ تُلْتَمَسَ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ لَا فِي آيَتِي
مُحَمَّدٍ وَالْأَنْعَامِ ، وَهِيَ قَدْ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، فَذَكَرَ فِيهَا اللَّهْوَ قَبْلَ اللَّعِبِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّدَلِّي الْمُؤْذِنِ بِالِانْتِقَالِ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ ، فَإِنَّ اللَّعِبَ مِنَ الْعَاقِلِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ الْعَبَثُ أَقْبَحُ مِنَ اللَّهْوِ ؛ إِذِ اللَّهْوُ تُقْصَدُ بِهِ فَائِدَةٌ وَلَوْ سَلْبِيَّةً ، وَاللَّعِبُ هُوَ الْعَبَثُ الَّذِي لَا تُقْصَدُ بِهِ فَائِدَةٌ أَلْبَتَّةَ ، فَهُوَ شَأْنُ الْأَطْفَالِ لَا الْعُقَلَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْمَصَالِحِ ، الَّذِينَ يَقْصِدُونَ بِكُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، إِمَّا دَفْعَ بَعْضِ الْمَضَارِّ ، وَإِمَّا تَحْصِيلَ بَعْضِ الْمَنَافِعِ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ جَهْلَهُمْ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=64وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ( 29 : 64 ) وَقَالَ فِي الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=63بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) ( 29 : 63 ) وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَثْلِ هَذَا التَّدَلِّي فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا ، فَإِنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي سِيَاقِ حُجَجِ الْإِيمَانِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُرَادُ بِهَا بَيَانُ ضَعْفِ نَظَرِ الْمُشْرِكِينَ وَجَهْلِهِمْ ، وَإِنْ ذُيِّلَتْ بِالتَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ عَقْلِ مَا قَرَّرَ فِيهَا وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ ، بَلْ وَرَدَتْ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا بَعْدَ الْإِعْلَامِ بِمَا يُصِيبُ الْمَفْتُونِينَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ بِحَصْرِ هَمِّهِمْ فِي لَذَّاتِهَا ، وَتَلَاهُ بَيَانُ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهَا ، فَفِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ - كَآيَةِ " سُورَةِ
مُحَمَّدٍ " - يَحْسُنُ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ ، بِتَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللَّهْوِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ التَّرَقِّي ; لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ عَبَثٍ لَيْسَ لَهُ عَاقِبَةٌ نَافِعَةٌ إِلَى لَهْوٍ فَائِدَتُهُ سَلْبِيَّةٌ عَاجِلَةٌ ; وَلِذَلِكَ بَيَّنَ بَعْدَهُ أَنَّ عَمَلَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ فِيهَا - وَمِنْهُ تَمَتُّعُهُمْ بِلَذَّاتِهَا - يُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَنَّهَا بِسَبَبِ اعْتِصَامِهِمْ فِيهَا بِالتَّقْوَى ، خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الْعَاجِلَةِ الدُّنْيَا .
هَذَا وَإِنَّنِي عِنْدَ بُلُوغِي هَذَا الْبَحْثَ ظَفِرْتُ بِكِتَابِ ( دُرَّةِ التَّنْزِيلِ وَغُرَّةِ التَّأْوِيلِ )
لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطِيبِ الْإِسْكَافِيِّ ، فَرَاجَعْتُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ فَهْمِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَقَلَ
الْأَلُوسِيُّ عَنِ
الشِّهَابِ عَنْهُ مَا لَا يَكَادُ يُفْهَمُ . وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِلنَّقْلِ بِالْمَعْنَى دُونَ النَّصِّ ، الَّذِي يَكْثُرُ بِسَبَبِهِ الْخَطَأُ فِي النَّقْلِ . وَقَدْ ذَكَرَ
الْإِسْكَافِيُّ هَذَا الْبَحْثَ عِنْدَ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ مِمَّا أَوْرَدَهُ مِنْ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ " ( وَهِيَ الْآيَةُ ال70 ) الْوَارِدَةُ فِي اتِّخَاذِ الْكُفَّارِ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا - مَعَ مَا يُقَابِلُهَا فِي " سُورَةِ الْأَعْرَافِ " ( 7 : 51 ) مِنِ اتِّخَاذِهِمْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا . وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ ذَكَرَ آيَتَيِ الْحَدِيدِ وَالْعَنْكَبُوتِ اللَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَنَسِيَ ذِكْرَ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا . وَسَيَأْتِي ذِكْرُ اتِّخَاذِ الدِّينِ لَعِبًا وَلَهْوًا فِي مَحَلِّهِ . وَقَدِ اعْتَمَدَ
الْخَطِيبُ فِي تَفْسِيرِ اللَّهْوِ فِي الْآيَاتِ أَنَّهُ اجْتِلَابُ الْمَسَرَّةِ بِمُخَالَطَةِ النِّسَاءِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ تَقْدِيمِ اللَّعِبِ عَلَى اللَّهْوِ فِي " سُورَةِ الْحَدِيدِ " : إِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لِمَنِ اشْتَغَلَ بِهَا وَلَمْ يَتْعَبْ لِغَيْرِهَا مَقْسُومَةٌ مِنَ الصِّبَا وَهُوَ وَقْتُ اللَّعِبِ ، وَبَعْدَهُ اللَّهْوُ وَهُوَ التَّرْوِيحُ عَنِ النَّفْسِ
[ ص: 307 ] بِمُلَاعَبَةِ النِّسَاءِ ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَخْذُ الزِّينَةِ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ . وَمِنْ أَجْلِ الزِّينَةِ نَشَأَتْ مُبَاهَاةُ الْأَكْفَاءِ ، وَمُفَاخِرَةُ الْأَشْكَالِ وَالنُّظَرَاءِ ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْمُكَاثَرَةُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ، فَتَرَتَّبَتِ الْحَيَاةُ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ حَالِ اللَّعِبِ عَلَى اللَّهْوِ . اهـ . ثُمَّ قَالَ فِي آيَةِ الْعَنْكَبُوتِ : إِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ . إِلَخْ ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ :
" بَلِ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ قِصَرِ مُدَّةَ الدُّنْيَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُدَّةِ الْأُخْرَى ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : مَا أَمَدُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِلَّا كَأَمَدِ أَزْمِنَةِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ ، وَهِيَ أَزْمِنَةٌ تُسْتَقْصَرُ لِشُغْلِ النَّفْسِ بِحَلَاوَةِ مَا يُسْتَعْجَلُ ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
شُهُورٌ يَنْقَضِينَ وَمَا شَعَرْنَا بِأَنْصَافٍ لَهُنَّ وَلَا سِرَارِ
.
وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُ :
وَلَيْلَةٍ إِحْدَى اللَّيَالِي الْغُرِّ لَمْ تَكُ غَيْرَ شَفَقٍ وَفَجْرِ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْتُ قَبْلُ : مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=64وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ) ( 29 : 64 ) أَيْ إِنَّ حَيَاتَهَا تَبْقَى أَبَدًا ، وَلَا تُعْرَفُ أَبَدًا ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهْوَ هُنَا عَلَى اللَّعِبِ لِأَنَّ الْأَزْمِنَةَ الَّتِي يُقَصِّرُهَا اللَّهْوُ أَكْثَرُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُقَصِّرُهَا اللَّعِبُ ; لِأَنَّ التَّشَاغُلَ بِهِ أَكْثَرُ . فَلَمَّا كَانَتْ مُعْظَمَ مَا يَسْتَقْصِرُ وَجَبَ تَقْدِيمُ مَا يَكْثُرُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْكَثْرَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ آخَذُ بِالشَّبَهِ ، وَأَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْمُشَبَّهِ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّاسَ أَزْمِنَتُهُمُ الْمَشْغُولَةُ بِاللَّهْوِ أَكْثَرُ مِنْ أَزْمِنَتِهِمُ الْمَشْغُولَةِ بِاللَّعِبِ ، وَأَنَّ طِيبَهَا لَهُمْ يُخَيِّلُ قِصَرَهَا إِلَيْهِمْ ، وَيَتَفَاوَتُ طِيبُهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ مَيْلِ النَّفْسِ إِلَى مَحْبُوبِهَا ، فَمُعْظَمُ مَا تَرَى الزَّمَانَ الطَّوِيلَ قَصِيرًا زَمَانُ اللَّهْوِ بِالنِّسَاءِ ، وَهُوَ الَّذِي نَشَأَتْ مِنْهُ فِتْنَةُ الرِّجَالِ وَهَلَاكُ أَهْلِ الْحُبِّ " . اهـ . وَمَا قُلْنَاهُ أَقْرَبُ مِنَ اللَّفْظِ نَسَبًا ، وَأَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِالْمَعْنَى وَأَقْوَى سَبَبًا .
هَذَا وَإِنَّنَا قَدْ وَعَدْنَا بِأَنْ نُبَيِّنَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ الْمُفْضِي إِلَى الشُّرُورِ الْكَثِيرَةِ ، فَنَقُولُ :
إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30336الْكُفْرَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَاعْتِقَادَ أَنَّهُ لَا حَيَاةَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ يَجْعَلُ هَمَّ الْكَافِرَ مَحْصُورًا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا الْبَدَنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ ؛ كَالْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَلَوْ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ الشَّرَفَ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ يَكُونُ فِي اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَلَذَّاتِهِ الشَّهْوَانِيَّةِ أَسْفَلَ مِنَ الْبَهَائِمِ كَالْبَقَرِ وَالْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ ، وَفِي اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ فِي لَذَّاتِهِ الْغَضَبِيَّةِ أَضْرَى وَأَشَدَّ أَذًى مِنَ الْوُحُوشِ الضَّارِيَةِ الْمُفْتَرِسَةِ كَالذِّئَابِ وَالنُّمُورِ ، وَفِي اتِّبَاعِهِ لِهَوَاهُ وَلَذَّتِهِ النَّفْسِيَّةِ شَرًّا
[ ص: 308 ] مِنَ الشَّيَاطِينِ يَكِيدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَيَفْتَرِسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، لَا يَصُدُّهُمْ عَنْ بَاطِلٍ وَلَا شَرٍّ يَهْوَوْنَهُ إِلَّا الْعَجْزَ ، وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى حُكْمٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إِلَّا الْقُوَّةَ الَّتِي جَعَلُوهَا فَوْقَ الْحَقِّ . وَطَالَمَا غَشُّوا أَنْفُسَهُمْ وَفَتَنُوا غَيْرَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ التَّوَازُنِ فِي الْقُوَى مِنْ مَنْعِ كَثِيرٍ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ الَّذِي كَانَ يَصُولُ بِهِ قَوِيُّ الْأُمَمِ عَلَى ضَعِيفِهَا ، وَالْحُكُومَاتُ الْجَائِرَةُ عَلَى رَعِيَّتِهَا ، فَزَعَمُوا أَنَّ الْحَضَارَةَ الْمَادِّيَّةَ وَالْعُلُومَ وَالْفُنُونَ الْبَشَرِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُفِيضُ رُوحَ الْكَمَالِ عَلَى الْإِنْسَانِ إِذَا لَمْ يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ، وَلَا بِالْإِلَهِ الدَّيَّانِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ أُمَمُهُمْ وَدُوَلُهُمْ مِنْ ذَمِّ الْحَرْبِ ، وَالتَّفَاخُرِ بِبِنَاءِ سِيَاسَتِهِمْ عَلَى أَمْتَنِ قَوَاعِدِ السِّلْمِ ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى ذَلِكَ حُبُّ الْإِنْسَانِيَّةِ ، وَالرَّغْبَةُ فِي الْعُرُوجِ بِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى قُنَّةِ السَّعَادَةِ الْمَدَنِيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا بَالُكُمْ تُسَابِقُونَ إِلَى اسْتِذْلَالِ الْأُمَمِ الضَّعِيفَةِ فِي الشَّرْقِ وَتُسَخِّرُونَهَا لِمَنَافِعِكُمْ وَتَوْفِيرِ ثَرْوَتِكُمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ قَالُوا : كَلَا إِنَّمَا نُرِيدُ أَنْ نُخْرِجَهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الْهَمَجِيَّةِ وَالْجَهْلِ لِتُشَارِكَنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نُورِ الْحَضَارَةِ وَالْعِلْمِ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا بَالُنَا نَرَاهَا لَمْ تَنَلْ مِنْ عُلُومِكُمْ إِلَّا بَعْضَ الْقُشُورِ ، وَلَمْ تَسْتَفِدْ مِنْ مَدَنِيَّتِكُمْ إِلَّا الْفِسْقَ وَالْفُجُورَ ، قَالُوا : إِنَّمَا ذَلِكَ لِضَعْفِ الِاسْتِعْدَادِ ، وَمَا تَمَكَّنَ فِي نُفُوسِ هَذِهِ الشُّعُوبِ مِنَ الْفَسَادِ ، عَلَى أَنَّنَا خَيْرٌ لَهَا مِنْ حُكَّامِهَا الْأَوَّلِينَ بِمَا قُمْنَا بِهِ مِنْ حِفْظِ الْأَمْنِ وَتَوْفِيرِ أَسْبَابِ النَّعِيمِ لِلْعَامِلِينَ ! ذَلِكَ شَأْنُهُمْ ، لَا تُقَامُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ إِلَّا يُقَابِلُونَهَا بِشُبْهَةٍ تُؤَيِّدُهَا الْقُوَّةُ ، وَقَدْ قَوَّضَتِ الْحَرْبُ الْمُشْتَعِلَةُ نَارُهَا فِي أُورُبَّا هَذِهِ الْأَعْوَامَ ، جَمِيعَ مَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ مِنَ الْمَزَاعِمِ وَالْأَوْهَامِ ، إِذْ رَأَيْنَا فِيهَا أَرْقَى أَهْلِ الْأَرْضِ فِي الْحَضَارَةِ وَالْعُلُومِ وَالْفَلْسَفَةِ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ، وَيُقَوِّضُونَ صُرُوحَ مَدِينَتِهِمْ بِمَدَافِعِهِمْ ، وَيَسْتَعِينُونَ بِكُلِّ مَا ارْتَقَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ ، لِإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَتَخْرِيبِ الْعُمْرَانِ ، بِمُنْتَهَى الْقَسْوَةِ وَالشِّدَّةِ ، الَّتِي لَا تَشُوبُهَا عَاطِفَةُ رَأْفَةٍ وَلَا رَحْمَةٍ ، وَلَوْ كَانَ مَنْ بِأَيْدِيهِمْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ مِنْهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْحَقِّ ، لَمَا انْتَهَوْا فِي الطُّغْيَانِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ ، نَعَمْ ، إِنَّ هَذِهِ الشُّعُوبَ كَانَتْ تَتَقَابَلُ لِنَصْرِ الْمَذْهَبِ أَوِ الدِّينِ فِي الْقُرُونِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ بِاسْمِ الدِّينِ ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَصِلْ فِي التَّقْتِيلِ وَالتَّخْرِيبِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى عُشْرِ مِعْشَارِ مَا هِيَ عَلَيْهِ الْآنَ ، وَإِنْ كَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا الْعَصْرَ عَصْرَ النُّورِ وَتِلْكَ الْعُصُورَ بِعُصُورِ الظُّلُمَاتِ ، عَلَى أَنَّ الرُّؤَسَاءَ كَانُوا يَتَّخِذُونَ اسْمَ الدِّينِ وَتَأْوِيلَ نُصُوصِهِ وَسِيلَةً لِأَهْوَائِهِمُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ ، كَمَا يَعْلَمُ جَمِيعُ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ .
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ أَقْسَى أَهْلِ هَذِهِ الْحَرْبِ وَأَشَدَّهُمْ تَخْرِيبًا وَتَدْمِيرًا هُمُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ ، وَإِنَّمَا الْحَرْبُ الدِّينِيَّةُ الصَّحِيحَةُ حَرْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، وَمَنْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ سِيرَتِهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ الصَّالِحِينَ ، وَلَمْ يَكُنْ يَسْتَحِلُّ فِيهَا فِي عَصْرِ الْإِسْلَامِ مَا يُسْتَحَلُّ الْآنَ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَلَا مَا نُقِلَ عَنْ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكِ
[ ص: 309 ] بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي الْمَنَارِ الْقَوْلَ فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْحَرْبِ الْمَدَنِيَّةِ وَحُرُوبِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ ، الَّتِي كَانَتْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ وَتَقْرِيرًا لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْحُقُوقِ بَيْنَ أَصْنَافِ الْخَلْقِ ، يَسِيرُونَ فِيهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَادِلَةِ فِي الضَّرُورَاتِ كَكَوْنِهَا تُبِيحُ مَا ضَرَرُهُ دُونَ ضَرَرِهَا وَكَوْنِهَا تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، وَتُرَاعَى فِيهَا الرَّحْمَةُ لَا الْعَدْلُ وَحْدَهُ ، وَقَدْ شَهِدَ بِذَلِكَ لِسَلَفِنَا أَعْلَمُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ بِتَارِيخِنَا (
غُوسْتَافْ لُوبُونْ ) فَقَالَ كَلِمَةَ حَقٍّ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهَبِ ، وَهِيَ : " مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ " .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ شُبُهَاتِ الْمَفْتُونِينَ بِالْمَدَنِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ قَدْ دُحِضَتْ بِهَذِهِ الْحَرْبِ السَّاحِقَةِ الْمَاحِقَةِ وَقَوِيَتْ بِهَا حُجَّةُ أَهْلِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ ، بَلْ تَنَبَّهَ بِهَا الشُّعُورُ الدِّينِيُّ فِي الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ حَتَّى الْفَرِنْسِيسُ مِنْهُمْ ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، وَآثَرُوا عَلَيْهِ الشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْحَقِيرَةِ ، حَتَّى ضَاقَتْ بِهِمُ الْمَعَابِدُ الَّتِي كَانَتْ مَهْجُورَةً قَلَّمَا تُفْتَحُ أَبْوَابُهَا ، وَقَلَّمَا يُلِمُّ بِهَا أَحَدٌ إِنْ فُتِحَتْ . وَذَلِكَ شَأْنُ الْمُسْرِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ ، لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى خَالِقِهِمْ إِلَّا عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=12وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( 10 : 12 ) .