ثم إنه تعالى بين ما في هذه الآية من الإجمال في الموت ، والرجوع إلى الله للحساب والجزاء مبتدئا ذلك بذكر قهره لعباده ، واستعلائه عليهم ، وإرساله الحفظة لإحصاء أعمالهم وكتابتها عليهم فقال : ( وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة     ) بينا معنى الجملة الأولى بنصها في تفسير الآية الثامنة عشرة من هذه السورة ، وكلمة " فوق " تستعمل - كما قال الراغب    - في المكان والزمان والجسم والعدد والمنزلة ، وذلك أضرب ضرب لها الراغب  الأمثلة ، ف " فوق " العلوية يقابله " تحت " ، و " فوق " الصعود يقابله في الحدود الأسفل ، و " فوق " العدد يقابله القليل أو الأقل منه ، و " فوق " الحجم يقابله الصغير أو الأصغر منه ، و " فوق " المنزلة يكون بمعنى الفضيلة كقوله تعالى : ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات    ) ( 43 : 32 ) ( والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة    ) ( 2 : 212 ) وبمعنى القهر والغلبة كقوله تعالى حكاية عن فرعون : ( وإنا فوقهم قاهرون    ) ( 7 : 127 ) وبه فسروا هذه الآية وما قبلها . 
وأما إرسال الحفظة على الناس فمعناه إرسالهم مراقبين عليهم من حيث لا يشعرون - كمراقبة رجال البوليس السري في حكومات عصرنا - محصين لأعمالهم بكتابتها وحفظها في الصحف التي تنشر يوم الحساب ، وهي المرادة بقوله تعالى : ( وإذا الصحف نشرت    ) ( 81 : 10 ) وهؤلاء الحفظة هم الملائكة الذين قال الله تعالى فيهم : ( وإن عليكم لحافظين  كراما كاتبين  يعلمون ما تفعلون    ) ( 82 : 10 - 12 ) ولم يرد في كلام الله ولا كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيان تفصيلي لصفة هذه الكتابة ، فنؤمن بها كما نؤمن بكتابة الله تعالى لمقادير السماوات والأرض ، ولا نتحكم فيها بآرائنا ، وأمثل ما أولت به أنها عبارة عن تأثير الأعمال في النفس ، وأنه يكون بفعل الملائكة . وقيل : إن الحفظة من الملائكة غير الكاتبين للأعمال ، وهم المعقبات في قوله تعالى من سورة الرعد : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله    ) ( 13 : 11 ) قيل : إنهم ملائكة يحفظونه من الجن والشياطين ، وقيل : من كل ضرر يكون عرضة له لم يكن مقدرا أن يصيبه ، فإذا جاء القدر تخلوا عنه ، ولكن لم يصح في ذلك شيء يعتد به . وفي هذه الآية أقوال أخرى لأهل التفسير المأثور ؛ منها أنها خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها نزلت   [ ص: 402 ] حين أراد أربد بن قيس  وعامر بن الطفيل  قتله ، على أن يلهيه الثاني بالحديث فيقتله الأول ، فلما وضع يده على السيف يبست على قائمته فلم يستطع سله   . ومنها أنها في الكرام الكاتبين . ومنها أنها في الأمراء والملوك الذين يتخذون الحرس الجلاوزة يحفظونهم ممن يريد قتلهم ، وروى  ابن جرير  ، وابن المنذر  ،  وابن أبي حاتم  ، وأبو الشيخ  ، عن  ابن عباس    - رضي الله عنه - أنه قال في الآية : الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وشماله يحفظونه من القتل ، ألم تسمع أن الله تعالى يقول : ( وإذا أراد الله بقوم سوءا    13 : 11 ) لم يغن الحرس عنه شيئا   . وهذا المعنى هو الذي يناسب قوله تعالى قبل هذه الآية : ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار  له معقبات    ) ( 10 ، 11 ) الآية ، وسيأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء الله تعالى . 
وليس عندنا من الأحاديث الصحاح في هذه المسألة إلا حديث  أبي هريرة  في الصحيحين وغيرهما مرفوعا   " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر  ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون " وروي بلفظ " والملائكة يتعاقبون فيكم   " بواو وبغير واو ، لكن لم يرد ذلك في تفسير آية الرعد ، فإذا كان هؤلاء الملائكة هم الحفظة الكاتبين فلا محل لاختلاف العلماء في تجددهم وتعاقبهم . 
وذكروا من الحكمة في كتابة الأعمال وحفظها على العاملين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رءوس الأشهاد ، كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات ، وأبعث له على التزام الأعمال الصالحة ، فإن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله عز وجل ، والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء منه سبحانه والمراقبة له ، يغلب عليها الغرور بالكرم الإلهي والرجاء في مغفرته ورحمته تعالى ، فلا يكون لديهم من خشيته والحياء منه ما يزجرهم عن معصيته كما يزجرهم توقع الفضيحة في موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم ، وزاد الرازي  احتمال أن تكون فائدتها أن توزن تلك الصحف ؛ لأن وزنها ممكن ووزن الأعمال غير ممكن ، - كذا قال . وهو احتمال ضعيف ، بل لا قيمة له ؛ لأنه مبني على تشبيه وزن الله للأمور المعنوية بوزن البشر للأثقال الجسمية . 
وأما بيان هذه الحكمة على الطريقة التي جرينا عليها في بيان حكمة مقادير الخلق فتعلم مما مر هنالك ، وأما على طريقة من يقولون إن المراد بكتابة الأعمال حفظ صورها وآثارها في النفس ، فهي أنها تكون المظهر الأتم الأجلى لحجة الله البالغة ، فإذا وضع كتاب كل أحد يوم   [ ص: 403 ] الحساب ونشرت صحفه المطوية في سريرة نفسه تعرض عليه أعماله فيها بصورها ومعانيها فتتمثل لذاكرته ولحسه الظاهر والباطن كما عملها في الدنيا لا يفوته شيء من صفاتها الحسية ولا المعنوية - كاللذة والألم - فيكون حسيبا على نفسه ، وعلى عين اليقين من عدل الله وفضله : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا  اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا    ) ( 17 : 13 ، 14 ) . ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا    18 : 49 ) . 
( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون     ) قرأ حمزة    ( توفاه ) بألف ممالة بعد الفاء ، والباقون ( توفته ) بالتاء بعد الفاء ، ورسمهما في مصحف الإمام واحد هكذا ( توفته ) لأن الألف رسمت ياء كأصلها ، والمعنى أنه تعالى يرسل عليكم حفظة من الملائكة يراقبونكم ويحصون عليكم أعمالكم مدة حياتكم ، حتى إذا جاء أحدكم الموت وانتهى عمله توفته أي فبضت روحه رسلنا الموكلون بذلك من الملائكة ، وهؤلاء الرسل هم أعوان ملك الموت الذي قال الله فيه : ( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون    32 : 11 ) فالأرواح أصناف كثيرة ، لكل منها مستقر في البرزخ يليق به ، وللموت أصناف كثيرة ، لكل منها سنن ونظام في الحياة خاص به فقبض الألوف من الأرواح في كل لحظة ، ووضعها في المواضع اللائقة بها عمل عظيم واسع النطاق ، يقوم بإدارته ونظامه رسل كثيرون وكل عمل منظم لا بد أن تكون له جهة واحدة هي مكان الرياسة والنظام منه ، وروى  ابن جرير  وأبو الشيخ  عن  الربيع بن أنس  أنه سئل عن ملك الموت ، أهو وحده الذي يقبض الأرواح  ؟ قال : هو الذي يلي أمر الأرواح ، وله أعوان على ذلك ، وقرأ الآية ثم قال : غير أن ملك الموت هو الرئيس إلخ . وروي عن  إبراهيم النخعي  ومجاهد  وقتادة    : أن الأعوان يقبضون الأرواح من الأبدان ثم يدفعونها إلى ملك الموت ، فكل منهما متوف ، وعن الكلبي  أن ملك الموت هو الذي يتولى القبض بنفسه ويدفعها إلى الأعوان ، فإن كان الميت مؤمنا دفعها إلى ملائكة الرحمة ، وإن كان كافرا دفعها إلى ملائكة العذاب ، أي وهم يذهبون بالأرواح إلى حيث يوجههم بأمر الله تعالى . 
وقد أسند التوفي إلى الله تعالى في آية الزمر التي ذكرناها في أول تفسير الآية التي قبل هذه ( ص 399 ) إما على أنه هو الآمر لملك الموت ولأعوانه جميعا بذلك - وهو ما صرحوا به - وإما على أنه هو الفاعل الحقيقي والمسخر لملك الموت وأعوانه ، فهم بأمره يعملون ، وبتسخيره يتصرفون ، لا يعتدون في تنفيذ إرادته ولا يفرطون ، والتفريط التقصير بنحو التواني والتأخير ، وتقدم معناه في تفسير ( ما فرطنا في الكتاب من شيء    38 ) وقرأ  الأعرج   [ ص: 404 ]   ( يفرطون ) من الإفراط المقابل للتفريط ، أي لا يتجاوزون ولا يعتدون فيه ، ومعناه صحيح . ولكن الحاجة إلى نفي الإفراط غير قوية ، والآية تدل على عصمة الملائكة  كما قال المفسرون . 
				
						
						
