( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ) . [ ص: 420 ] أنذر الله تعالى في الآيات السابقة هذه الأمة - أمة الدعوة - مثل العذاب الذي بعثه على مكذبي الرسل من الأولين ، وعلى المتفرقين المختلفين في دينهم من أهل الكتاب ، وجعل ذلك مع ما قبله من حجج القرآن وآياته المثبتة لكونه من عند الله لا من عند رسوله الأمي الذي لم يكن يعلم شيئا من أخبار الأمم ولا من سنن الله في مكذبي الرسل ومتبعيهم - تلك الآيات التي يرجى لمن تدبرها فقه الأمور وإدراك حقائق العلم . وذكر بعد هذا الإنذار والبيان تكذيب قريش بالقرآن ، وكون الرسول مبلغا لا خالقا للإيمان ، وإحالتهم في ظهور صدق أنبائه على الزمان . ثم بين في هذه الآيات كيف يعامل الذين يخوضون في آيات الله بالباطل من هذه الأمة - أعني أمة الدعوة والذين اتخذوا دينهم هزوا ولعبا من كفارها الذين لم يجيبوا دعوتها - بما يعلم منه حكم من يدخل في عموم ذلك ممن أجابوهما على نحو ما تقدم في الآيات التي قبلها ، فقال :
( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) روي عن أبي مالك ، ، وسعيد بن جبير ، وابن جريج وقتادة ، ومقاتل ، والسدي ، ومجاهد في إحدى الروايتين عنه أن هذه الآية في المشركين المكذبين الذين كانوا يستهزئون بالقرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - وروي عن ، ابن عباس وأبي جعفر ، ، ومحمد بن علي أنها في أهل الأهواء من المسلمين ، وهذا الخلاف مبني على ما تقدم فيما قبلها من كونه يشمل المشركين وغيرهم . فمن قال : إن هذه في المشركين فقط ، فإنما رجح ذلك بمعونة السياق والوقت الذي نزلت فيه الآيات بل السورة كلها في أوائل البعثة ، ومن قال : إنها في أهل الأهواء فإنما رجح ذلك بما ورد من الأحاديث المرفوعة في كون الإنذار بالعذاب موجها إلى هذه الأمة بجملتها - من أجاب دعوتها ومن لم يجب - وكون تفرقها شيعا يذوق بعضهم بأس بعض أمرا مقضيا مضت به سنة الله تعالى فلا مرد له ، والخطاب على الأول للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويشاركه في حكمه كل من بلغه ، وعلى الثاني كل من يقرأ الآية ويسمعها . والرواية الثانية عن ومحمد بن سيرين مجاهد أنها في أهل الكتاب وهو بعيد ; إذ لا وجه لتخصيصهم ، لا من السياق - والسورة مكية - ولا من الأخبار المرفوعة في معناها ، ولكن الخائضين منهم يدخلون في عمومها .
الدخول في الماء والمرور مشيا أو سباحة ، وجدح السويق أي لت الدقيق باللبن ، ويستعار لمرور الإبل في السراب ، ووميض البرق في السحاب ، وللاندفاع في الحديث والاسترسال فيه ، وللدخول في الباطل مع أهله ، وبهذين المعنيين استعمل في القرآن ، وفسر الخوض هنا على القول الأول بالكفر بالآيات والاستهزاء بها . قال وأصل الخوض وحقيقته : كان المشركون يجلسون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزءوا ، فنزلت ( ابن جريج وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ) الآية . قال : فجعل إذا استهزءوا قام ، فحذروا وقالوا : لا تستهزئوا فيقوم . . إلخ . وقال : كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين [ ص: 421 ] وقعوا في النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن فسبوه واستهزءوا به ، فأمرهم الله بألا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وقال السدي مقاتل : كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاضوا واستهزءوا ، فقال المسلمون : لا يصح لنا مجالستهم ؛ نخاف أن نحرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فلا نعيب عليهم ، فأنزل الله في ذلك ( وإذا رأيت ) أي أنزله في أثناء هذه السورة . وهذا مراد أيضا . وقولهم نحرج " معناه نقع في الحرج والإثم . ابن جريج
وفسر الخوض في الآيات على القول الآخر لمفسري السلف بالمراء والجدل والخصومة فيها اتباعا للأهواء . وانتصارا للمذاهب والأحزاب ، أخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ( ابن عباس وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ) ونحو هذا في القرآن - قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبرهم إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله . وروى ، عبد بن حميد ، وابن جرير وأبو نعيم في الحلية ، عن أبي جعفر قال : ؛ فإنهم الذين يخوضون في آيات الله . لا تجالسوا أهل الأهواء
والصواب من القول في الآية أنها عامة ، وأن المخاطب بها أولا بالذات سيدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكل من كان معه من المؤمنين ، فكل ما ورد عن السلف في تفسيرها صحيح . والمعنى العام الجامع المخاطب به كل مؤمن في كل زمن : " وإذا رأيت " أيها المؤمن " الذين يخوضون في آياتنا " المنزلة ، من الكفار المكذبين أو من أهل الأهواء المفرقين ، فأعرض عنهم أي انصرف عنهم ، وأرهم عرض ظهرك بدلا من القعود معهم أو الإقبال عليهم بوجهك " حتى يخوضوا في حديث غيره " أي غير ذلك الحديث الذي موضعه الكفر بآيات الله والاستهزاء بها من قبل الكفار ، أو تأويلها بالباطل من قبل أهل الأهواء ، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء ، وتفنيد أقوال خصومهم بالجدال والمراء ، فإذا خاضوا في غيره فلا يأس بالقعود معهم . وقيل : إن الضمير في " غيره " للقرآن ؛ لأنه هو المراد بالآيات ، فأعيد الضمير عليها بحسب المعنى .
وسبب هذا النهي أن أقل ما فيه أنه إقرار لهم على خوضهم ، وإغراء بالتمادي فيه ، وأكبره أنه رضاء به ومشاركة فيه ، والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر ، لا يقترفه باختياره إلا منافق مراء أو كافر مجاهر ، وفي التأويل لنصر المذاهب أو الآراء مزلقة في البدع واتباع الأهواء ، وفتنته أشد من فتنة الأول ، فإن أكثر الذين يخوضون في الجدل والمراء من أهل البدع وغيرهم تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ، ويخدمون الشرع ، ويؤيدون الأئمة المهتدين ، ويخذلون المبتدعين المضلين ; ولذلك حذر السلف الصالحون من الإقبال على الخائضين والقعود معهم أشد مما حذروا من مجالسة الكفار ، إذ لا يخشى على المؤمن من فتنة [ ص: 422 ] الكفار ما يخشى عليه من فتنة المبتدع ; لأنه يحذر من الأول على ضعف شبهته ، ما لا يحذر من الثاني وهو يجيئه من مأمنه ، ولا يعقل أن يقعد المؤمن باختياره مع الكفار في حال استهزائهم بآيات الله ، وتكذيبهم بها ، وطعنهم فيها كما يقعد مختارا مع المجادلين فيها المتأولين لها ، وإنما يتصور قعود المؤمن مع الكافر المستهزئ في حال الإكراه وما يقرب منها ، كشدة الضعف ، ولا سيما إذا كان في دار الحرب . ولم تكن مجالسة أهل الأهواء مكة دار إسلام عند نزول هذه الآيات . ويدخل في أهل الأهواء المقلدون الجامدون الذين يحاولون تطبيق آيات الله وسنن رسوله على آراء مقلديهم بالتكلف ، أو يردونها ويحرمون العمل بها بدعوى احتمال النسخ أو وجود معارض آخر ، وقد نقلنا كلاما في هذا المعنى عن فتح البيان في تفسير آية سورة النساء التي بمعنى هذه الآية ، وهي قوله تعالى : ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) ( 4 : 140 ) . ومن الناس من يحرف آيات الله عن مواضعها بهواه لأجل أن يكفر بها مسلما أو يضلل بها مهتديا ، بغيا عليه وحسدا له ، كما فعل بعض أدعياء العلم بمصر في هاتين الآيتين ، وفيما ورد في النهي عن تولي أعداء الله وأعداء المؤمنين من الكفار بنحو إعانتهم على المسلمين في الحرب ، كقوله تعالى في أول سورة الممتحنة : ( لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) ( 60 : 1 ) زعم المحرف أن هذه الآيات تنطبق على من حضر من المسلمين ناديا للنصارى ابنوا فيه طبيبا منهم لم يكفروا فيه بآيات الله ، ولم يستهزئوا بها ، ولم تكن من موضوع حديثهم ، وليسوا محاربين للمسلمين ، ومثل هذا التحريف أولى بالدخول في عموم آيتي الأنعام والنساء من تأويل أصحاب المذاهب والشيع الذي نقلنا عن بعض المفسرين إدخاله فيه أو تفسيره به . وأما تحريف آية الممتحنة وما في معناها من سورة المائدة فيرده تقييد النهي - وهو في ولاية المحاربين - بإخراج الرسول والمؤمنين من وطنهم لأجل إيمانهم ، ثم تأييد هذا التقييد بما ينفي عموم النهي ، وذلك صريح قوله تعالى في سورة الممتحنة بعده : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ) إلى قوله : ( الظالمون ) ( 8 ، 9 ) .
وقد بينا في تفسير آية النساء من الجزء الخامس أن المنافقين كانوا يقعدون في المدينة مع الكفار الذين يخوضون في آيات الله بما ذكر ، كما فعل بعض ضعفاء المؤمنين في مكة ، فأنزل الله فيهم هذه الآية كما أنزل آية الأنعام في أولئك الضعفاء على ما ورد في بعض الروايات ، ولذلك كان التشديد في آية النساء أعظم منه في آية الأنعام ; إذ كان لضعفاء المؤمنين في أول الإسلام بعض العذر ، وليس لمنافقي المدينة عذر إلا إخفاء الكفر ، على أن آية الأنعام أول ما نزل في هذا النهي ، فعمل بها المؤمنون ، وانتهوا عما قيل إنه كان قد وقع منهم ، فما عذر المنافقين في القعود [ ص: 423 ] مع المستهزئين بعد النهي وهم يتلونه أو يتلى عليهم ؟ لهذا شدد الله في آية النساء ، وقال في الذين يقعدون معهم : ( إنكم إذا مثلهم ) ، وأما أولئك فعذرهم بنسيان النهي في قوله :