(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28977ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه ) الخطاب للمشركين المحجوجين أو لجميع المكلفين ، والإشارة إلى الأشياء ، وإحاطة العلم بالجليات والخفيات من المشهودات والغائبات ، أي ذلك الذي شأنه ما ذكر هو الله ربكم لا من خرقوا له من الأولاد ، وأشركوا به من الأنداد ، فاعبدوه إذا ولا تشركوا به شيئا لا إله إلا هو خالق كل شيء ، فإنما الإله المستحق للعبادة هو الرب الخالق وما عداه مخلوق يجب عليه أن يعبد خالقه ، فكيف يعبده ويؤلهه من هو مثله في ذلك ؟ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28977وهو على كل شيء وكيل ) أي وهو مع كل ما ذكر موكول إليه كل شيء يتصرف فيه ويدبره بعلمه وحكمته ، يقال : فلان وكيل على عقار فلان وماله ، وقيل : إن الوكيل هنا بمعنى الرقيب ، وفي سورة المؤمن :
[ ص: 543 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=62ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون ) 40 : 62 قام فيه وصفه بالخلق على كلمة التوحيد عكس ما هنا ، لأن ما هنا رد على المشركين فناسب فيه تقديم كلمة التوحيد ، وآية سورة " المؤمن " جاءت بين آيات في خلق ونعم الله فيه فناسب تقديم الوصف بالخلق فيها على التوحيد الذي هو نتيجة لذلك وغاية .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103nindex.php?page=treesubj&link=28977لا تدركه الأبصار ) البصر العين إلا أنه مذكر ، وأبصرت الشيء رأيته ، وقيل : البصر حاسة الرؤية ، ابن سيده : البصر حسن العين والجمع أبصار ، ذكره في اللسان وقال
الراغب : البصر يقال للجارحة الناظرة ، نحو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=77كلمح البصر ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=10وإذ زاغت الأبصار ) 33 : 10 وللقوة التي فيها ، والإدراك اللحاق والوصول إلى الشيء ، قال أصحاب
موسى إنا لمدركون ، وأتبع
فرعون بجنوده
بني إسرائيل (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=61فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) 26 : 61 ويقال : أدركه الطرف والموت ومنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=90حتى إذا أدركه الغرق ) 10 : 90 في كل ذلك معنى اللحاق بعد اتباع حسي أو معنوي والدرك - بالفتح - أقصى قعر البحر ، ومنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) 4 : 145 قرئ بالفتح والتحريك ، وقال
الراغب : الدرج كالدرك لكن الدرج يقال باعتبار الصعود والدرك اعتبارا بالحدور وأدرك بلغ أقصى الشيء ، وأدرك الصبي بلغ غاية الصبا وذلك حين البلوغ ، انتهى ويقال فيما بعد أو دق أو خفي : لا يدركه الطرف ، فإن اجتهاد النظر لإدراك ما لطف ودق إعماله في محاولة إبصار البعيد ، ففي الإدراك معنى اللحوق ومعنى بلوغ غاية الشيء ، ومن هنا فسر الجمهور الإدراك في الآية برؤية الإحاطة التي يعرف بها كنهه عز وجل فتكون بمعنى (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=110يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ) 20 : 110 نفي إحاطة العلم لا يستلزم نفي أصل العلم ، وكذلك نفي إدراك البصر للشيء لا يستلزم نفي رؤيته إياه مطلقا ، وهذا أقوى ما جمع به أهل السنة بين الآية والأحاديث الصحيحة الناطقة
nindex.php?page=treesubj&link=28725برؤية المؤمنين لربهم في الآخرة من جهة اللغة ، ومن سلم
للمعتزلة وغيرهم من منكري الرؤية قولهم إن الإدراك هنا بمعنى الرؤية مطلقا قالوا : إن النفي خاص بحال الحياة الدنيا التي يعهدها المخاطبون ولا يعرفون فيها رؤية إلا للأجسام وصفاتها من الأشكال والألوان ، وهي التي يشترط فيها ما ذكروه كالمقابلة وعدم الحائل ، وقالوا : إن
عائشة كانت تثبت الرؤية في الآخرة وتنفيها في الدنيا حتى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كان يرى من وراءه كما يرى من أمامه لغلبة روحه الشريفة اللطيفة على جثته المنيفة ، وقد جلينا مسألة رؤية الرب في الآخرة في باب الفتوى من مجلد المنار التاسع عشر ( ص 282 - 288 ) وسنعود إليها في تفسير قوله تعالى
لموسى عليه السلام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143لن تراني ) 7 : 143
[ ص: 544 ] من سورة الأعراف إن شاء الله تعالى ، وهنالك نلم بمسلك الصوفية في نفي الإدراك وإثبات الرؤية للرب ، بتجليه تعالى الذي يكون هو به بصر العبد الثابت في الحديث القدسي " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به " الحديث ، وهو في صحيح
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، وخلاصة هذا المسلك أنه تعالى هو الذي يرى نفسه بتجليه في بصر عبده ، فما يرى الله إلا الله ، وفاقا لقولهم : لا يعرف الله إلا الله .
وأما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103nindex.php?page=treesubj&link=28977وهو يدرك الأبصار ) فمعناه أن الله تعالى يرى العيون الباصرة أو قوى الإبصار المودعة فيها رؤية إدراك وإحاطة ، بحيث لا يخفى عليه حقيقتها ولا من عملها شيء ، وقد عرف البشر من تشريح العين ما تتركب منه طبقاتها ورطوباتها ووظائف كل منها في ارتسام المرئيات فيها ، وعرفوا كثيرا من سنن الله تعالى في النور ووظائفه في رسم صور الأشياء في العينين ، ولكن لم يعرفوا كنه الرؤية ولا كنه قوة الإبصار ولا حقيقة النور ، وفي لسان العرب عن
أبي إسحاق : أعلم الله أنه يدرك الأبصار ، وفي هذا الإعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الإبصار ، أي لا يعرفون حقيقة البصر ، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه فاعلم أن خلقا من خلقه اللطيف الخبير ، فأما ما جاء من الأخبار في الرؤية وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغير مدفوع ، وليس في هذه الآية دليل على دفعها ، لأن معنى الآية إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته وهذا مذهب أهل السنة والعلم بالحديث اهـ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103nindex.php?page=treesubj&link=28977وهو اللطيف الخبير ) أي وهو اللطيف بذاته ، الباطن في غيب وجوده بحيث تخسأ الأبصار دون إدراك حقيقته ، على أنه الظاهر بآياته التي تعرفه بها العقول بطريق البرهان ، الظاهر في مجال ربوبيته لأهل العرفان ، بتجلياته التي تكمل في الآخرة فيكون العلم به رؤية عيان ، وهو في كل من بطونه وظهوره منزه عن مشابهة الخلق فتعالى الله الملك الحق وهو الخبير بدقائق الأشياء ولطائفها ، بحيث لا يعزب عن إدراكه ألطف أرواحها وقواها ولا أدق جواهرها وأعراضها ، ففي الآية لف ونشر مرتب .
اللطيف من الأجرام ضد الكثيف والغليظ فيطلق على الدقيق منها والرقيق ، واللطيف من الطباع ضد الجافي ، قال في اللسان : واللطيف من الأجرام والكلام مالا خفاء فيه ، وجارية لطيفة ضد الجافية ، قال في اللسان : واللطيف من الأجرام ومن الكلام .
ما لا خفاء فيه وجارية لطيفة الخصر إذا كانت ضامرة البطن ، واللطيف من الكلام ما غمض معناه وخفي ، واللطف في العمل الرفق فيه انتهى ، وكذا اللطف في المعاملة هو الرفق الذي لا يثقل منه شيء ، ويستعمل فعله
[ ص: 545 ] لازما ومتعديا ، يقال : لطف الشيء ( بوزن حسن ) أي صغر أو دق وصار لطيفا . ويقال : لطف به ولطف له ( بوزن نصر ) وقال ابن الأثير في
nindex.php?page=treesubj&link=28723تفسير اللطيف . من أسماء الله تعالى : هو الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدرها له من خلقه انتهى . أرجعه إلى صفات الأفعال وإلى العلم من صفات المعاني . وهو في الأول أظهر وأكثر من الثاني ، فمنه قوله تعالى في سورة الحج بعد ذكر الإنبات بالماء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=63إن الله لطيف خبير ) 22 : 63 وقوله في سورة الشورى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=19الله لطيف بعباده يرزق من يشاء ) 42 : 19 أي رفيق بهم يوصل إليهم الخير والرزق ، بمنتهى العناية والرفق . وفي سورة يوسف حكاية عنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=100إن ربي لطيف لما يشاء ) 12 : 100 فسروه بلطف التدبير والعناية به وبأبويه وإخوته بجمع شملهم بعد أن نزغ الشيطان بينهم . وعد بعضهم من لطف العلم قوله تعالى في سورة لقمان حكاية عنه (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=16يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتي بها الله إن الله لطيف خبير ) 31 : 16 والأظهر في معناه هنا أنه اللطيف باستخراجها من كن خفائها الخبير بمكانها منه ، ونزيد عليهم أن من لطفه تعالى جعل أحكام دينه يسرا لا حرج فيها وهي من صفة الكلام الذي هو مظهر لعلمه ، ومنه قوله تعالى في سورة الأحزاب ، في آخر ما خاطب به نساء الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المواعظ والحكم والأحكام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=34واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا ) 33 : 34 فلم يبق إلا الشاهد على لطفه تعالى في ذاته ، المناسب في الكمال للطفه في صفاته وأفعاله وأحكامه ، وهو الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يظهر فيها غيره .
والمتكلمون يأبون
nindex.php?page=treesubj&link=28721جعل اللطيف من صفات الذات له سبحانه - كالرحيم والحليم - والأثريون والصوفية لا يأبون مثل ذلك بل يثبتونه ، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في الآية كلمة تشبه أن تكون تأييدا لمذاهب أهل الأثر والصوفية وهو معتزلي مبالغ في التنزيه ، وقد تابعه عليها المفسرون من
الأشاعرة وغيرهم
كالرازي والبيضاوي وأبي السعود والآلوسي قال : وهو لطيف يلطف عن أن تدركه الأبصار ، الخبير بكل لطيف فهو يدرك الأبصار لا تلطف عن إدراكه ، وهذا من باب اللف انتهى . نقلوا هذا المعنى عنه وجعلوا اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها .
قال
الآلوسي : ويفهم من ظاهر كلام
البهائي - كما قال
الشهاب - أنه لا استعارة في ذلك حيث قال في شرح أسماء الله تعالى الحسنى : اللطيف الذي يعامل عباده باللطف ، وألطافه جل شأنه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والأخرى (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=34وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) 14 : 34 وقيل : اللطيف العليم بالغوامض والدقائق ، من المعاني والحقائق ; ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكثافة . وهو وإن كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم ، لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم لأن الجسمية يلزمها
[ ص: 546 ] الكثافة ، وإنما لطافتها بالإضافة ، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلا عن الأبصار ، ويعز عن شعور الإسرار فضلا عن الأفكار ، ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال ، وينزه عن حلول الألوان والأشكال ، فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ، ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق ، بل بالقياس إلى ما دونه في اللطافة ، ويوصف بالإضافة إليه بالكثافة ، انتهى . وتعقبه
الآلوسي بقوله : والمرجح أن إطلاق اللطيف بمعنى مقابل الكثيف - على ما ينساق إلى الذهن - على الله تعالى ليس بحقيقة أصلا كما لا يخفى اهـ .
وأقول : إن ما ذكر في هذا الكلام اللطيف من إثبات اللطف بالذات للذات التي لا تشبهها الذوات ، ومن الإشارة إلى تضعيف جعل اللطيف بمعنى العليم بالدقائق كلاهما من باب الحقائق ، إذ ما فسر به اللطيف هنا هو معنى الخبير ، وقوله : إن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم إلخ ، له وجه من اللغة ، ولكن الجسم في عرف علماء المعقول من المتكلمين والحكماء أعم من الجسم في أصل اللغة ، ومدلول اشتقاقها . فالجسم في اللغة من الجسامة أي الضخامة ، وهو كما في اللسان وغيره : جماعة البدن أو الأعضاء من الناس والإبل والدواب وغيرهم من الأنواع العظيمة الخلق وأما في عرف العلماء فهو القابل للقسمة أو ما له طول وعرض وعمق ، والموجودات المادية أعم من هذا أيضا ، وقد عرف في علوم الكون واتساعها في هذا العصر ما هو ألطف من كل ما كان يعرف في العصور الخالية التي كان يضرب فيها المثل بلطف الهواء أو النسيم ، إذ ثبت أن هذا النسيم اللطيف مركب من عنصرين كل منها ألطف من المجموع المركب منهما ، وقد ثبت أن للهواء المحيط بأرضنا حدا قريبا ، وأن في الكون موجودا آخر ألطف منه ومن كل من عنصريه وأمثالهما من العناصر البسيطة اللطيفة الخفية ، وهو الذي يحمل النور والحرارة من الشموس والكواكب المتفاوتة الأبعاد الشاسعة إلى هوائنا فأرضنا ويسمونه ( الأثير ) فهذا الموجود الساري في جميع الكائنات ، الرابط لبعضها ببعض كما يجزم به علماء الكون نظرا واستدلالا ، قد لطف عن أدراك العيون وعن تصرف أيدي الكيماويين الذين يرجعون الماء والهواء وغيرهما من المركبات إلى بسائطها اللطيفة التي لا ترى ، ويتصرفون فيها أنواعا من التصرف ، ويستعملونها في كثير من المضار والمنافع ، ويرى بعض المثبتين لاستقلال الأرواح البشرية وقدرتها على الشكل في الأشباح اللطيفة والكثيفة أنها تستعين على هذا التشكل بالأثير ، فألطف شبح تتجلى به يتخذ من الأثير المكثف بعض التكثيف بحيث تدركه الأبصار ، ولا يمنعه ذلك من النفوذ في كثائف الأجرام ، وقد تأخذ شبحا لها من جسم بشر بينها وبينه تناسب كمستحضري . الأرواح ، فإذا خلعت الروح من هذا الثوب امتنعت رؤيتها لتناهي لطافتها .
وإذا كان كل موجود في كل رتبة من رتب الوجود ، وكل صفة من صفات تلك
[ ص: 547 ] الرتب قد استفاد وجوده وصفاته من الخالق الحكيم ، وكان اللطف من تلك الصفات التي أشرنا إلى تفاوتها العظيم ، فلا بد أن يكون لطفه تعالى أدق وأخفى من لطفها ، وإذا كان لطف بعضها لا يستلزم الجسمية اللغوية ولا العرفية فلطفه عز وجل أجدر بذلك وأحق ، فعلماؤنا كافة والروحيون من علماء الإفرنج وغيرهم الذين يقولون - كما يقول الصوفية - بتجلي أرواح الموتى في صور متفاوتة في اللطف ، وبتجرد بعض أرواح الأحياء وظهورها في أشباح لطيفة أخرى ، والروحيون المنكرون منهم لذلك - كلهم متفقون على أن الروح لم يعرف كنهها ، وأنها ألطف وأخفى من الأثير ومن البسائط المادية بأسرها ، وهى مع ذلك عاقلة متصرفة ، والماديون يقولون : إن مادة الكون الأولى التي ظهرت فيها صور جميع العناصر ومركباتها لا يعرف لها كنه ، ولا يدركها طرف ، ولا يوضع لها حد ، وإنها في منتهى اللطف وهى أزلية أبدية فجميع العلماء من روحيين وماديين متفقون على أن لطف ذات الشيء لا يستلزم التركيب ولا الحد ولا التحيز ، فلطف ذات الخالق أولى بتنزهه عن ذلك . وإنما فر المتكلمون من هذه اللوازم حتى لجأ بعضهم إلى التعطيل وبعضهم إلى التأويل لأكثر ما وصف الله تعالى به نفسه في كتبه ، وما ذاك إلا من قياس الغائب على الحاضر والواجب على الجائز ، والله تعالى فوق ذلك . وهو اللطيف الخبير ، السميع البصير العلي الكبير ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28977ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) الْخُطَّابُ لِلْمُشْرِكِينَ الْمَحْجُوجِينَ أَوْ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْأَشْيَاءِ ، وَإِحَاطَةُ الْعِلْمِ بِالْجَلِيَّاتِ وَالْخَفِيَّاتِ مِنَ الْمَشْهُودَاتِ وَالْغَائِبَاتِ ، أَيْ ذَلِكَ الَّذِي شَأْنُهُ مَا ذَكَرَ هُوَ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا مَنْ خَرَقُوا لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ ، وَأَشْرَكُوا بِهِ مِنَ الْأَنْدَادِ ، فَاعْبُدُوهُ إِذًا وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِنَّمَا الْإِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ الرَّبُّ الْخَالِقُ وَمَا عَدَاهُ مَخْلُوقٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْبُدَ خَالِقَهُ ، فَكَيْفَ يَعْبُدُهُ وَيُؤَلِّهُهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ ؟ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=102nindex.php?page=treesubj&link=28977وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) أَيْ وَهُوَ مَعَ كُلِّ مَا ذَكَرَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِ وَيُدَبِّرُهُ بِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ ، يُقَالُ : فُلَانٌ وَكَيْلٌ عَلَى عَقَارِ فُلَانٍ وَمَالِهِ ، وَقِيلَ : إِنَّ الْوَكِيلَ هُنَا بِمَعْنَى الرَّقِيبِ ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ :
[ ص: 543 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=62ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) 40 : 62 قَامَ فِيهِ وَصْفُهُ بِالْخَلْقِ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عَكْسَ مَا هُنَا ، لِأَنَّ مَا هُنَا رَدٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَنَاسَبَ فِيهِ تَقْدِيمُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ، وَآيَةُ سُورَةِ " الْمُؤْمِنِ " جَاءَتْ بَيْنَ آيَاتٍ فِي خَلْقِ وَنِعَمِ اللَّهِ فِيهِ فَنَاسَبَ تَقْدِيمُ الْوَصْفِ بِالْخَلْقِ فِيهَا عَلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةٌ لِذَلِكَ وَغَايَةٌ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103nindex.php?page=treesubj&link=28977لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) الْبَصَرُ الْعَيْنُ إِلَّا أَنَّهُ مُذَكَّرٌ ، وَأَبْصَرْتُ الشَّيْءَ رَأَيْتُهُ ، وَقِيلَ : الْبَصَرُ حَاسَّةُ الرُّؤْيَةِ ، ابْنُ سِيدَهْ : الْبَصَرُ حُسْنُ الْعَيْنِ وَالْجَمْعُ أَبْصَارٌ ، ذَكَرَهُ فِي اللِّسَانِ وَقَالَ
الرَّاغِبُ : الْبَصَرُ يُقَالُ لِلْجَارِحَةِ النَّاظِرَةِ ، نَحْوَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=77كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=10وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ ) 33 : 10 وَلِلْقُوَّةِ الَّتِي فِيهَا ، وَالْإِدْرَاكُ اللِّحَاقُ وَالْوُصُولُ إِلَى الشَّيْءِ ، قَالَ أَصْحَابُ
مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، وَأَتْبَعَ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=61فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) 26 : 61 وَيُقَالُ : أَدْرَكَهُ الطَّرْفُ وَالْمَوْتُ وَمِنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=90حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ) 10 : 90 فِي كُلِّ ذَلِكَ مَعْنَى اللِّحَاقِ بَعْدَ اتِّبَاعٍ حِسِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ وَالدَّرْكُ - بِالْفَتْحِ - أَقْصَى قَعْرِ الْبَحْرِ ، وَمِنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=145إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) 4 : 145 قُرِئَ بِالْفَتْحِ وَالتَّحْرِيكِ ، وَقَالَ
الرَّاغِبُ : الدَّرْجُ كَالدَّرْكِ لَكِنَّ الدَّرْجَ يُقَالُ بِاعْتِبَارِ الصُّعُودِ وَالدَّرْكَ اعْتِبَارًا بِالْحُدُورِ وَأَدْرَكَ بَلَغَ أَقْصَى الشَّيْءِ ، وَأَدْرَكَ الصَّبِيُّ بَلَغَ غَايَةَ الصِّبَا وَذَلِكَ حِينَ الْبُلُوغِ ، انْتَهَى وَيُقَالُ فِيمَا بَعُدَ أَوْ دَقَّ أَوْ خَفِيَ : لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ ، فَإِنَّ اجْتِهَادَ النَّظَرِ لِإِدْرَاكِ مَا لَطُفَ وَدَقَّ إِعْمَالُهُ فِي مُحَاوَلَةِ إِبْصَارِ الْبَعِيدِ ، فَفِي الْإِدْرَاكِ مَعْنَى اللُّحُوقِ وَمَعْنَى بُلُوغِ غَايَةِ الشَّيْءِ ، وَمِنْ هُنَا فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْإِدْرَاكَ فِي الْآيَةِ بِرُؤْيَةِ الْإِحَاطَةِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا كُنْهُهُ عَزَّ وَجَلَّ فَتَكُونُ بِمَعْنَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=110يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) 20 : 110 نَفْيُ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ أَصْلِ الْعِلْمِ ، وَكَذَلِكَ نَفْيُ إِدْرَاكِ الْبَصَرِ لِلشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ مُطْلَقًا ، وَهَذَا أَقْوَى مَا جَمَعَ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّاطِقَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=28725بِرُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ ، وَمَنْ سَلَّمَ
لِلْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُنْكِرِي الرُّؤْيَةِ قَوْلَهُمْ إِنَّ الْإِدْرَاكَ هُنَا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا قَالُوا : إِنَّ النَّفْيَ خَاصٌّ بِحَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي يَعْهَدُهَا الْمُخَاطَبُونَ وَلَا يَعْرِفُونَ فِيهَا رُؤْيَةً إِلَّا لِلْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا مِنَ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ ، وَهِيَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا ذَكَرُوهُ كَالْمُقَابَلَةِ وَعَدَمِ الْحَائِلِ ، وَقَالُوا : إِنَّ
عَائِشَةَ كَانَتْ تُثْبِتُ الرُّؤْيَةَ فِي الْآخِرَةِ وَتَنْفِيهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَرَى مِنْ وَرَاءِهِ كَمَا يَرَى مِنْ أَمَامِهِ لِغَلَبَةِ رُوحِهِ الشَّرِيفَةِ اللَّطِيفَةِ عَلَى جُثَّتِهِ الْمَنِيفَةِ ، وَقَدْ جَلَيَّنَا مَسْأَلَةَ رُؤْيَةِ الرَّبِّ فِي الْآخِرَةِ فِي بَابِ الْفَتْوَى مِنْ مُجَلَّدٍ الْمَنَارِ التَّاسِعَ عَشَرَ ( ص 282 - 288 ) وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى
لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=143لَنْ تَرَانِي ) 7 : 143
[ ص: 544 ] مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُنَالِكَ نُلِمُّ بِمَسْلَكِ الصُّوفِيَّةِ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ وَإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لِلرَّبِّ ، بِتَجَلِّيهِ تَعَالَى الَّذِي يَكُونُ هُوَ بِهِ بَصَرُ الْعَبْدِ الثَّابِتُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ " وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبَصِرُ بِهِ " الْحَدِيثَ ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ ، وَخُلَاصَةُ هَذَا الْمَسْلَكِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَرَى نَفْسَهُ بِتَجَلِّيهِ فِي بَصَرِ عَبْدِهِ ، فَمَا يَرَى اللَّهُ إِلَّا اللَّهُ ، وِفَاقًا لِقَوْلِهِمْ : لَا يَعْرِفُ اللَّهَ إِلَّا اللَّهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103nindex.php?page=treesubj&link=28977وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَى الْعُيُونَ الْبَاصِرَةَ أَوْ قُوَى الْإِبْصَارِ الْمُودَعَةَ فِيهَا رُؤْيَةَ إِدْرَاكٍ وَإِحَاطَةٍ ، بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَقِيقَتُهَا وَلَا مِنْ عَمَلِهَا شَيْءٌ ، وَقَدْ عَرَفَ الْبَشَرُ مِنْ تَشْرِيحِ الْعَيْنِ مَا تَتَرَكَّبُ مِنْهُ طَبَقَاتُهَا وَرُطُوبَاتُهَا وَوَظَائِفَ كُلٍّ مِنْهَا فِي ارْتِسَامِ الْمَرْئِيَّاتِ فِيهَا ، وَعَرَفُوا كَثِيرًا مِنْ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي النُّورِ وَوَظَائِفِهِ فِي رَسْمِ صُوَرِ الْأَشْيَاءِ فِي الْعَيْنَيْنِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَعْرِفُوا كُنْهَ الرُّؤْيَةِ وَلَا كُنْهَ قُوَّةِ الْإِبْصَارِ وَلَا حَقِيقَةَ النُّورِ ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ : أَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ، وَفِي هَذَا الْإِعْلَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لَا يُدْرِكُونَ الْإِبْصَارَ ، أَيْ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الْبَصَرِ ، وَمَا الشَّيْءُ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ يُبْصِرُ مِنْ عَيْنَيْهِ دُونَ أَنْ يُبْصِرَ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ أَعْضَائِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ خَلْقًا مِنْ خَلْقِهِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ ، فَأَمَّا مَا جَاءَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي الرُّؤْيَةِ وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَيْرُ مَدْفُوعٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى دَفْعِهَا ، لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ إِدْرَاكُ الشَّيْءِ وَالْإِحَاطَةُ بِحَقِيقَتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ اهـ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=103nindex.php?page=treesubj&link=28977وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) أَيْ وَهُوَ اللَّطِيفُ بِذَاتِهِ ، الْبَاطِنُ فِي غَيْبِ وَجُودِهِ بِحَيْثُ تَخْسَأُ الْأَبْصَارُ دُونَ إِدْرَاكِ حَقِيقَتِهِ ، عَلَى أَنَّهُ الظَّاهِرُ بِآيَاتِهِ الَّتِي تَعْرِفُهُ بِهَا الْعُقُولُ بِطَرِيقِ الْبُرْهَانِ ، الظَّاهِرُ فِي مَجَالِ رُبُوبِيَّتِهِ لِأَهْلِ الْعِرْفَانِ ، بِتَجَلِّيَاتِهِ الَّتِي تَكْمُلُ فِي الْآخِرَةِ فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِهِ رُؤْيَةَ عَيَانٍ ، وَهُوَ فِي كُلٍّ مِنْ بُطُونِهِ وُظُهُورِهِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَهُوَ الْخَبِيرُ بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَلَطَائِفِهَا ، بِحَيْثُ لَا يَعْزُبُ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَلْطَفُ أَرْوَاحِهَا وَقُوَاهَا وَلَا أَدَقُّ جَوَاهِرِهَا وَأَعْرَاضِهَا ، فَفِي الْآيَةِ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ .
اللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ ضِدُّ الْكَثِيفِ وَالْغَلِيظِ فَيُطْلَقُ عَلَى الدَّقِيقِ مِنْهَا وَالرَّقِيقِ ، وَاللَّطِيفُ مِنَ الطِّبَاعِ ضِدُّ الْجَافِي ، قَالَ فِي اللِّسَانِ : وَاللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَالْكَلَامِ مَالَا خَفَاءَ فِيهِ ، وَجَارِيَةٌ لَطِيفَةٌ ضِدُّ الْجَافِيَةِ ، قَالَ فِي اللِّسَانِ : وَاللَّطِيفُ مِنَ الْأَجْرَامِ وَمِنَ الْكَلَامِ .
مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ وَجَارِيَةٌ لَطِيفَةُ الْخَصْرِ إِذَا كَانَتْ ضَامِرَةَ الْبَطْنِ ، وَاللَّطِيفُ مِنَ الْكَلَامِ مَا غَمُضَ مَعْنَاهُ وَخَفِيَ ، وَاللُّطْفُ فِي الْعَمَلِ الرِّفْقُ فِيهِ انْتَهَى ، وَكَذَا اللُّطْفُ فِي الْمُعَامَلَةِ هُوَ الرِّفْقُ الَّذِي لَا يَثْقُلُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَيُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ
[ ص: 545 ] لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا ، يُقَالُ : لَطُفَ الشَّيْءُ ( بِوَزْنِ حَسُنَ ) أَيْ صَغُرَ أَوْ دَقَّ وَصَارَ لَطِيفًا . وَيُقَالُ : لَطَفَ بِهِ وَلَطَفَ لَهُ ( بِوَزْنِ نَصَرَ ) وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28723تَفْسِيرِ اللَّطِيفِ . مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي اجْتَمَعَ لَهُ الرِّفْقُ فِي الْفِعْلِ وَالْعِلْمُ بِدَقَائِقَ الْمَصَالِحِ وَإِيصَالِهَا إِلَى مَنْ قَدَّرَهَا لَهُ مِنْ خَلْقِهِ انْتَهَى . أَرْجَعَهُ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَإِلَى الْعِلْمِ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي . وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ مِنَ الثَّانِي ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ بَعْدَ ذِكْرِ الْإِنْبَاتِ بِالْمَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=63إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) 22 : 63 وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=19اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ ) 42 : 19 أَيْ رَفِيقٌ بِهِمْ يُوصِلُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ وَالرِّزْقَ ، بِمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ وَالرِّفْقِ . وَفِي سُورَةِ يُوسُفَ حِكَايَةٌ عَنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=100إِنَّ رَبِّي لِطَيْفٌ لِمَا يَشَاءُ ) 12 : 100 فَسَّرُوهُ بِلُطْفِ التَّدْبِيرِ وَالْعِنَايَةِ بِهِ وَبِأَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ بِجَمْعِ شَمْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ نَزْغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ . وَعَدَّ بَعْضُهُمْ مِنْ لُطْفِ الْعِلْمِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ لُقْمَانَ حِكَايَةً عَنْهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=16يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِي بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لِطَيْفٌ خَبِيرٌ ) 31 : 16 وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَاهُ هُنَا أَنَّهُ اللَّطِيفُ بِاسْتِخْرَاجِهَا مِنْ كِنِّ خَفَائِهَا الْخَبِيرُ بِمَكَانِهَا مِنْهُ ، وَنَزِيدُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مِنْ لُطْفِهِ تَعَالَى جَعَلَ أَحْكَامَ دِينِهِ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهَا وَهِيَ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ لِعِلْمِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ، فِي آخِرِ مَا خَاطَبَ بِهِ نِسَاءَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=34وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) 33 : 34 فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الشَّاهِدُ عَلَى لُطْفِهِ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ ، الْمُنَاسِبُ فِي الْكَمَالِ لِلُطْفِهِ فِي صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ ، وَهُوَ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لَا يَظْهَرُ فِيهَا غَيْرُهُ .
وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَأْبَوْنَ
nindex.php?page=treesubj&link=28721جَعْلَ اللَّطِيفِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ لَهُ سُبْحَانَهُ - كَالرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ - وَالْأَثَرِيُّونَ وَالصُّوفِيَّةُ لَا يَأْبَوْنَ مِثْلَ ذَلِكَ بَلْ يُثْبِتُونَهُ ، وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْآيَةِ كَلِمَةً تُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ تَأْيِيدًا لِمَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَثَرِ وَالصُّوفِيَّةِ وَهُوَ مُعْتَزِلِيُّ مُبَالِغٌ فِي التَّنْزِيهِ ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنَ
الْأَشَاعِرَةِ وَغَيْرِهِمْ
كَالرَّازِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَأَبِي السُّعُودِ وَالْآلُوسِيِّ قَالَ : وَهُوَ لَطِيفٌ يَلْطُفُ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ ، الْخَبِيرُ بِكُلِّ لَطِيفٍ فَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ لَا تَلْطُفُ عَنْ إِدْرَاكِهِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ اللَّفِّ انْتَهَى . نَقَلُوا هَذَا الْمَعْنَى عَنْهُ وَجَعَلُوا اللَّطِيفَ مُسْتَعَارًا مِنْ مُقَابِلِ الْكَثِيفِ لِمَا لَا يُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ وَلَا يَنْطَبِعُ فِيهَا .
قَالَ
الْآلُوسِيُّ : وَيُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِ
الْبَهَائِيِّ - كَمَا قَالَ
الشِّهَابُ - أَنَّهُ لَا اسْتِعَارَةَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْحُسْنَى : اللَّطِيفُ الَّذِي يُعَامِلُ عِبَادَهُ بِاللُّطْفِ ، وَأَلْطَافُهُ جَلَّ شَأْنُهُ لَا تَتَنَاهَى ظَوَاهِرُهَا وَبَوَاطِنُهَا فِي الْأُولَى وَالْأُخْرَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=34وَإِنْ تَعُدُّوَا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) 14 : 34 وَقِيلَ : اللَّطِيفُ الْعَلِيمُ بِالْغَوَامِضِ وَالدَّقَائِقِ ، مِنَ الْمَعَانِي وَالْحَقَائِقِ ; وَلِذَا يُقَالُ لِلْحَاذِقِ فِي صَنْعَتِهِ لِطَيْفٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّطَافَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْكَثَافَةِ . وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي ظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ أَوْصَافِ الْجِسْمِ ، لَكِنَّ اللَّطَافَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْجِسْمِ لِأَنَّ الْجِسْمِيَّةَ يَلْزَمُهَا
[ ص: 546 ] الْكَثَافَةُ ، وَإِنَّمَا لَطَافَتُهَا بِالْإِضَافَةِ ، فَاللَّطَافَةُ الْمُطْلَقَةُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا النُّورُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يَجِلُّ عَنْ إِدْرَاكِ الْبَصَائِرِ فَضْلًا عَنِ الْأَبْصَارِ ، وَيَعِزُّ عَنْ شُعُورِ الْإِسْرَارِ فَضْلًا عَنِ الْأَفْكَارِ ، وَيَتَعَالَى عَنْ مُشَابَهَةِ الصُّوَرِ وَالْأَمْثَالِ ، وَيُنَزَّهُ عَنْ حُلُولِ الْأَلْوَانِ وَالْأَشْكَالِ ، فَإِنَّ كَمَالَ اللَّطَافَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ ، وَوَصْفُ الْغَيْرِ بِهَا لَا يَكُونُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، بَلْ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا دُونَهُ فِي اللَّطَافَةِ ، وَيُوصَفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ بِالْكَثَافَةِ ، انْتَهَى . وَتَعَقَّبَهُ
الْآلُوسِيُّ بِقَوْلِهِ : وَالْمُرَجَّحُ أَنَّ إِطْلَاقَ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى مُقَابِلِ الْكَثِيفِ - عَلَى مَا يَنْسَاقُ إِلَى الذِّهْنِ - عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى اهـ .
وَأَقُولُ : إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ اللَّطِيفُ مِنْ إِثْبَاتِ اللُّطْفِ بِالذَّاتِ لِلَذَّاتِ الَّتِي لَا تُشْبِهُهَا الذَّوَاتُ ، وَمِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَضْعِيفِ جَعْلِ اللَّطِيفِ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِالدَّقَائِقِ كِلَاهُمَا مِنْ بَابِ الْحَقَائِقِ ، إِذْ مَا فُسِّرَ بِهِ اللَّطِيفَ هُنَا هُوَ مَعْنَى الْخَبِيرِ ، وَقَوْلُهُ : إِنَّ اللَّطَافَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْجِسْمِ إِلَخْ ، لَهُ وَجْهٌ مِنَ اللُّغَةِ ، وَلَكِنَّ الْجِسْمَ فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْحُكَمَاءِ أَعَمُّ مِنَ الْجِسْمِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ، وَمَدْلُولِ اشْتِقَاقِهَا . فَالْجِسْمُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَسَامَةِ أَيِ الضَّخَامَةِ ، وَهُوَ كَمَا فِي اللِّسَانِ وَغَيْرِهِ : جَمَاعَةُ الْبَدَنِ أَوِ الْأَعْضَاءِ مِنَ النَّاسِ وَالْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْعَظِيمَةِ الْخَلْقِ وَأَمَّا فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ الْقَابِلُ لِلْقِسْمَةِ أَوْ مَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ ، وَالْمَوْجُودَاتُ الْمَادِّيَّةُ أَعَمُّ مِنْ هَذَا أَيْضًا ، وَقَدْ عُرِفَ فِي عُلُومِ الْكَوْنِ وَاتِّسَاعِهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا هُوَ أَلْطَفُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يُعْرَفُ فِي الْعُصُورِ الْخَالِيَةِ الَّتِي كَانَ يُضْرَبُ فِيهَا الْمَثَلُ بِلُطْفِ الْهَوَاءِ أَوِ النَّسِيمِ ، إِذْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا النَّسِيمَ اللَّطِيفَ مُرَكَّبٌ مِنْ عُنْصُرَيْنِ كُلٌّ مِنْهَا أَلْطَفُ مِنَ الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِأَرْضِنَا حَدًّا قَرِيبًا ، وَأَنْ فِي الْكَوْنِ مَوْجُودًا آخَرَ أَلْطَفُ مِنْهُ وَمِنْ كُلٍّ مِنْ عُنْصُرَيْهِ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ اللَّطِيفَةِ الْخَفِيَّةِ ، وَهُوَ الَّذِي يَحْمِلُ النُّورَ وَالْحَرَارَةَ مِنَ الشُّمُوسِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْأَبْعَادِ الشَّاسِعَةِ إِلَى هَوَائِنَا فَأَرْضِنَا وَيُسَمُّونَهُ ( الْأَثِيرَ ) فَهَذَا الْمَوْجُودُ السَّارِي فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ ، الرَّابِطُ لِبَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَمَا يَجْزِمُ بِهِ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا ، قَدْ لَطُفَ عَنْ أَدْرَاكِ الْعُيُونِ وَعَنْ تَصَرُّفِ أَيْدِي الْكِيمَاوِيِّينَ الَّذِينَ يُرْجِعُونَ الْمَاءَ وَالْهَوَاءَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْمُرَكَّبَاتِ إِلَى بَسَائِطِهَا اللَّطِيفَةِ الَّتِي لَا تُرَى ، وَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنَ التَّصَرُّفِ ، وَيَسْتَعْمِلُونَهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ ، وَيَرَى بَعْضُ الْمُثْبِتِينَ لِاسْتِقْلَالِ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ وَقُدْرَتِهَا عَلَى الشَّكْلِ فِي الْأَشْبَاحِ اللَّطِيفَةِ وَالْكَثِيفَةِ أَنَّهَا تَسْتَعِينُ عَلَى هَذَا التَّشَكُّلِ بِالْأَثِيرِ ، فَأَلْطَفُ شَبَحٍ تَتَجَلَّى بِهِ يَتَّخِذُ مِنَ الْأَثِيرِ الْمُكَثَّفِ بَعْضَ التَّكْثِيفِ بِحَيْثُ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوذِ فِي كَثَائِفِ الْأَجْرَامِ ، وَقَدْ تَأْخُذُ شَبَحًا لَهَا مِنْ جِسْمِ بَشَرٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ تَنَاسُبٌ كَمُسْتَحْضِرِي . الْأَرْوَاحِ ، فَإِذَا خُلِعَتِ الرُّوحُ مِنْ هَذَا الثَّوْبِ امْتَنَعَتْ رُؤْيَتُهَا لِتَنَاهِي لَطَافَتِهَا .
وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ فِي كُلِّ رُتْبَةٍ مِنْ رُتَبِ الْوُجُودِ ، وَكُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ تِلْكَ
[ ص: 547 ] الرُّتَبِ قَدِ اسْتَفَادَ وُجُودَهُ وَصِفَاتِهِ مِنَ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ ، وَكَانَ اللُّطْفُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَى تَفَاوُتِهَا الْعَظِيمِ ، فَلَا بُدَ أَنْ يَكُونَ لُطْفُهُ تَعَالَى أَدَقَّ وَأَخْفَى مِنْ لُطْفِهَا ، وَإِذَا كَانَ لُطْفُ بَعْضِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمِيَّةَ اللُّغَوِيَّةَ وَلَا الْعُرْفِيَّةَ فَلُطْفُهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْدَرُ بِذَلِكَ وَأَحَقُّ ، فَعُلَمَاؤُنَا كَافَّةً وَالرُّوحِيُّونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ - كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ - بِتَجَلِّي أَرْوَاحِ الْمَوْتَى فِي صُوَرٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي اللُّطْفِ ، وَبِتَجَرُّدِ بَعْضِ أَرْوَاحِ الْأَحْيَاءِ وَظُهُورِهَا فِي أَشْبَاحٍ لَطِيفَةٍ أُخْرَى ، وَالرُّوحِيُّونَ الْمُنْكِرُونَ مِنْهُمْ لِذَلِكَ - كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ لَمْ يُعْرَفْ كُنْهُهَا ، وَأَنَّهَا أَلْطَفُ وَأَخْفَى مِنَ الْأَثِيرِ وَمِنَ الْبَسَائِطِ الْمَادِّيَّةِ بِأَسْرِهَا ، وَهَى مَعَ ذَلِكَ عَاقِلَةٌ مُتَصَرِّفَةٌ ، وَالْمَادِّيُّونَ يَقُولُونَ : إِنَّ مَادَّةَ الْكَوْنِ الْأُولَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِيهَا صُوَرُ جَمِيعِ الْعَنَاصِرِ وَمُرَكَّبَاتِهَا لَا يُعْرَفُ لَهَا كُنْهٌ ، وَلَا يُدْرِكُهَا طَرْفٌ ، وَلَا يُوضَعُ لَهَا حَدٌّ ، وَإِنَّهَا فِي مُنْتَهَى اللُّطْفِ وَهَى أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ رُوحِيِّينَ وَمَادِّيِّينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لُطْفَ ذَاتِ الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ وَلَا الْحَدَّ وَلَا التَّحَيُّزَ ، فَلُطْفُ ذَاتِ الْخَالِقِ أَوْلَى بِتَنَزُّهِهِ عَنْ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا فَرَّ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمِ حَتَّى لَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّعْطِيلِ وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَكْثَرِ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نَفْسَهُ فِي كُتُبِهِ ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْوَاجِبِ عَلَى الْجَائِزِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ . وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .