(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ 104
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون 105
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين 106
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ) 107 .
الآيات السابقة كلها في الإلهيات من عقائد الدين ، وهذه الآيات في التنبيه لمكانتها من الهداية ، وفي المبلغ لها عن الله تعالى وما يقول المشركون فيه ، وإعلامه بسنة الله فيهم من حيث هم بشر ، وما يجب عليه وما ينفى عنه في هذا المقام . قال تعالى :
[ ص: 548 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28977قد جاءكم بصائر من ربكم ) البصائر : جمع بصيرة ولها معان منها عقيدة القلب والمعرفة الثابتة باليقين ، أو اليقين في العلم بالشيء والعبرة والشاهد ، أو الشهيد المثبت للأمر ، والحجة أو الفطنة ، أو القوة التي تدرك بها الحقائق العلمية . وهذا يقابل البصر الذي تدرك به الأشياء الحسية ، ومنه قول
معاوية لبعض
بني هاشم : إنكم يا
بني هاشم تصابون في أبصاركم . وقول الهاشمي له : وأنتم يا
بني أمية تصابون في بصائركم . أي قلوبكم وعقولكم . والمراد بالبصائر هنا : الآيات الواردة في هذه السورة أو في هذا السياق الذي أوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=95إن الله فالق الحب والنوى ) أو هي وما في معناها من الآيات المثبتة لحقائق الدين أو القرآن بجملته ، وربما يرجع هذا بتذكير الفعل " جاءكم " إذ لا بد له من نكتة في الكلام البليغ لأنه خلاف الأصل وإن كان جائزا ، وأقوى النكت وقوع اللفظ المؤنث على معنى مذكر ، والخطاب وارد على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وغيره ، فالمعنى قد جاءكم في هذه الآيات الجلية بصائر من الحجج العقلية والكونية ، تثبت لكم عقائد الحق اليقينية التي يتوقف عليها نيل السعادة الأبدية ، جاءكم ذلك من ربكم الذي خلقكم وسواكم ، وربى أجسادكم ومشاعركم وسائر قواكم ، ليربي بها أرواحكم ، بأحسن مما ربى به أشباحكم (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28977فمن أبصر فلنفسه ) أي فمن أبصر بها الحق والهدى ، فآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ، فلنفسه أبصر ولسعادتها ما قدم من الخير وأخر (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28977ومن عمي فعليها ) أي ومن عمي عن الحق بإعراضه عنها وعدم النظر والاستبصار بها ، فأصر على ضلاله ، ثباتا على عناده أو تقليد آبائه وأجداده ، فعليها جنى وإياها أردى ، ولعمى البصائر شر من عمى الأبصار . وأسوأ عاقبة في هذه الدار وفي تلك الدار ، وهذا كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ) ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) 2 : 286 وقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) 17 : 7 وقوله هنا : " فلها " بمعنى فعليها ونكتته المشاكلة أو الازدواج وقيل غير ذلك (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28977وما أنا عليكم بحفيظ ) يراقب أعمالكم ويحصيها ليجازيكم عليها ، وإنما أنا بشير ونذير والله هو الرقيب الحفيظ ، فهو يعلم ما تسرون وما تعلنون ويجزيكم عليه بما تستحقون ، فعليه وحده الحساب ، وما علي إلا البلاغ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105nindex.php?page=treesubj&link=28977وكذلك نصرف الآيات ) أي ومثل ذلك التصريف والتفنن العلي الشأن البعيد الشأو في فنون المعاني وأفنان البيان - الذي تراه في هذه السورة أو هذا السياق نصرف الآيات في سائر القرآن ، لإثبات أصول الأديان ، والهداية لأحاسن الآداب والأعمال ، فنحولها من نوع إلى نوع ومن حال إلى حال ، مراعاة للعقول والأفهام ، ولاختلاف استعداد الأفراد والأقوام (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105nindex.php?page=treesubj&link=28977وليقولوا درست ) المعنى العام للدرس تكرار المعالجة وتتابع الفعل على الشيء حتى يذهب به
[ ص: 549 ] أو يصل إلى الغاية منه ، يقال : درس الشيء كرسم الدار وآثارها يدرس ( من باب قعد ) إذا عفا وزال بفعل الريح أو تتابع المشي عليه وغير ذلك من الأسباب فهو دارس ، ودرسته الريح أو غيرها ، ودرس اللابس الثوب درسا أخلقه وأبلاه فهو دريس ، ودرسوا الطعام أي القمح داسوه ليتكسر فيفرق بين حبه وتبنه ، ودرس الناقة درسا راضها ، ودرس الكتاب والعلم يدرسه درسا ودراسة ودارسه مدارسة - من ذلك . قال في اللسان عقب نقله كأنه عانده حتى انقاد لحفظه ، ثم قال : ودرست الكتاب أدرسه أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه علي من ذلك ، والدرسة بالضم الرياضة ففي كل ما ذكر معنى تكرار العمل ومتابعته حتى بلوغ الغاية منه . قرأ الجمهور ( درست ) فعلا ماضيا للمخاطب ، وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو ( دارست ) للمشاركة وهي مروية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ومجاهد ، وقرأ
ابن عامر ويعقوب ( درست ) بفتح السين وسكون التاء وهى مروية عن
أبي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود وابن الزبير والحسن . والتعليل في قوله : ( درست ) خاص معطوف على تعليل عام يعرف من القرينة .
والمعنى وكذلك نصرف الآيات على أنواع شتى ليهتدي بها المستعدون للإيمان على اختلاف العقول والأفهام ، وليقول هؤلاء المشركون - الجاحدون المعاندون منهم والمقلدون - قد درست من قبل يا
محمد وتعلمت ، وليس هذا بوحي منزل كما زعمت وقد قالوا مثل هذا إفكا وزورا وزعموا أنه تعلم من غلام رومي كان يصنع السيوف في
مكة قيل إنه كان يختلف إليه كثيرا . وذلك قوله تعالى في سورة النحل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=103ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) 16 : 103 أو ليقولوا : دارست العلماء وذاكرتهم وجئتنا بما تلقيته عنهم ، أو درست هذه العقائد ومحيت بمعنى أنها أساطير قديمة قد رثت وخلقت ، وهاتان القراءتان في معنى قوله تعالى في سورة الفرقان :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=4وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا 25 : 4 ، 5 وأظهر منه في تأييد القراءة الأخيرة قوله تعالى حكاية عن
قوم هود في الشعراء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=136قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين ) 26 : 136 - 138 وحكمة القراءات الثلاث حكاية أقوال ثلاث فئات من المشركين ، وهو من إيجاز القرآن العجيب في الكلم والرسم .
قيل : إن
nindex.php?page=treesubj&link=28908اللام في قوله " وليقولوا درست " للعاقبة والصيرورة ، أي ليكون عاقبة تصريف الآيات أن يقول الراسخون في الشرك مثل هذا القول مكابرة وعنادا وجحودا وإلحادا . وقيل : إن هذا تعليل صحيح يؤيده قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ) 2 : 26 ونقول : ليس معنى يضل به كثيرا أن الإضلال من المقاصد التي أنزل
[ ص: 550 ] لأجلها أو التي من شأن القرآن نفسه أن يكون علة وسببا لها ، وإنما معناه أنه يترتب على وجوده إعراض فاسدي الفطرة عنه وضلالهم بسبب الكفر به ، فهو بمعنى العاقبة التي تترتب على إنزاله كما يترتب على جميع المنافع التي خلقها الله للناس في الأنفس والآفاق مضار كثيرة من سوء الاستعمال .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105nindex.php?page=treesubj&link=28977ولنبينه لقوم يعلمون ) أي ولنبين هذا القرآن المشتمل على ما ذكر من تصريف الآيات الذي يقول فيه بعض المكابرين إنه أثر درس واجتهاد ، أو لنبين التصريف المفهوم من " نصرف " لقوم يعلمون بالفعل وبالاستعداد ، الذي لا يعارضه تقليد ولا عناد ، ما تدل عليه الآيات من الحقائق ، وما يترتب على الاهتداء بها من السعادة فعلم من عطف هذا على ما قبله أن الذين يقولون للرسول إنك درست أو دارست حتى جئت بهذه الآيات المنزلة إذ كانت أثر الدرس أو المدارسة هم الجاهلون الذين لم يفهموا تلك الآيات التي صرفها الله على أنواع أو أشتات ، أو لم يفهموا سرها وما يجب من إيثارها على منافع الدنيا بأسرها . وأما الذين يعلمون مدلولاتها وحسن عاقبة الاهتداء بها ، فهم الذين يتبين لهم بتأملها حقيقة القرآن أو ما في التصريف لها من أنواع البيان ، المؤيد بالحجة والبرهان .
وللمفسرين في الآية أقوال أخرى منقوصة منها قول بعضهم : إن المراد بدارست قارأت
اليهود فحفظت عنهم بعض معاني هذه الآيات ، وينهض هذا بما هو معلوم على سبيل القطع من نزول هذه السورة في أوائل البعثة
بمكة ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي أحدا من
اليهود إذ لم يكونوا من أهلها ، ولو تلقى عنهم كتبهم بالمدارسة لما سكتوا عن بيان ذلك لمشركي
مكة حين أرسلوا إليهم يسألونهم عنه ولغيرهم من قومهم ومن المشركين ، ولأن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - مهيمن على كتبهم ( 5 : 48 ) قد بين أن ما عندهم محرف وفيه زيادة عما جاء به أنبياؤهم ، ونقص بما نسوا حظا مما ذكروا به كما بينا ذلك في تفسير أول سورة آل عمران وتفسير النساء ( 4 : 46 ) والمائدة ( 5 : 14 ) : فليراجع في الجزئين 5 ، 6 من التفسير - كما أنه بين لهم كثيرا مما كانوا يخفون من الكتاب ( 5 : 15 ) وهو من جهة أخرى أتم وأكمل لأنه خاتم النبيين الذي أكمل الله على لسانه الدين .
( ومنها ) قول آخرين : إن " ليقولوا دارست " على النفي ، أي لئلا يقولوا ذلك قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ونقله
الرازي عن القاضي من
المعتزلة ورده أشد الرد وله الحق ، ولكنه غير مصيب في جعل العبارة مما يحتج به على الجبر أو القدر .
( ومنها ) قول
الرازي : إن الكفار كانوا يقولون في نزول القرآن نجوما : إن
محمدا يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض ويتفكر فيها ويصلحها آية فآية ثم يظهرها ، ولو كانت وحيا لجاء بها دفعة واحدة كما جاء
موسى بالتوراة دفعة واحدة ، ومن ثم كان تصريف
[ ص: 551 ] الآيات حالا فحالا هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن القرآن نتيجة مدارسة ومذاكرة مع آخرين . ونقول : إن هذا الكلام رأي جدلي ملفق لا يصح به في جملته نقل ، فالعرب لم تكن تعتقد أن
موسى جاء بالتوراة جملة واحدة من عند الله ولا أهل الكتاب وإنما تلك الوصايا العشر فقط ، وسائر أحكام التوراة نزلت متفرقة بحسب الوقائع في أمكنة مختلفة كالقرآن .
وتلك الوصايا لا تبلغ عشر هذه السورة ( الأنعام ) التي نزلت جملة واحدة كما ثبت ذلك في أول تفسيرها ، بل لا تزيد على نصف العشر إلا قليلا ولعل كثرة ما فيها من الآيات البينات على أصول الدين هو الذي حمل بعض المفسرين على القول بأن
nindex.php?page=treesubj&link=28977معنى ( nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105وليقولوا درست ) ولئلا يقولوا درست ، فإن المجيء بهذه الآيات الكثيرة المنتظمة للحجج والبراهين المختلفة دفعة واحدة من شأنه أن يمنع المنصف من دعوى اقتباس القرآن بالمدارسة مع آخرين ، وأين هؤلاء المدارسون ؟ ولم لم يظهر من أحد منهم ولا من الرسول نفسه في مدة أربعين سنة شيء من هذه المعارف العالية ، والبلاغة المعجزة ؟ كلا إنما قالوا ذلك جحودا ومكابرة ، وربما نطق به بعضهم بادي الرأي من غير تفكر في مخالفته لما هو معلوم بالضرورة عندهم من كونه أميا وكونه احتج على جمهورهم في ذلك بمثل قوله تعالى فيه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ) 10 : 16 وقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=48وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) 29 : 48 وهذه تدل على أنهم لم يرتابوا وإنما هي المكابرة .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106nindex.php?page=treesubj&link=28977اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ) بعد أن بين تعالى لرسوله أن الناس فريقان ، فريق قد فسدت فطرتهم ولم يبق فيه استعداد للاهتداء بتلك البصائر المنزلة ولا العلم بما فيها من تصريف الآيات البينة ، فحظهم منها مكابرتها وجحود تنزيلها وفريق يعلمون ، وبالبيان يهتدون - أمره أن يتبع ما أوحي إليه من ربه ، بالبيان له والعمل به ، مشيرا بإضافة اسم الرب إلى ضميره ، وناصبا إياه إماما لجميع أبناء جنسه ، يتربى به من وفق منهم لاتباعه ، وذلك أن الاقتداء لا يتم إلا بمن يعمل بما يعلم ويأتمر بما أمر ، وقرن هذا الأمر بكلمة توحيد الألوهية ، لبيان وجوب ملازمته لتوحيد الربوبية ، فكما أن الخالق المربي للأشباح بما أنزل من الرزق ، وللأرواح بما أنزل من الوحي ، واحد لا شريك له في الخلق ولا في الهداية ، فالواجب أن يكون الإله المعبود واحدا لا شريك
[ ص: 552 ] له في الجزاء على الأعمال بشفاعة ولا ولاية ، فالأمر هنا بالاتباع ليس الغرض منه مجرد المداومة عليه كما هو الشأن في أكثر من يأمر بالعمل من هو متلبس به ، وإنما الغرض منه بيان كونه من متممات التبليغ ، ثم عطف على هذا الأمر المقرون بكلمة التوحيد ، أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن المشركين ، بأن لا يبالي بإصرارهم على الشرك ، ولا بمثل قولهم له : دارست أو درست لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل مع الإخلاص ، لا يضره الباطل بخرافات الأعمال ولا بزخارف الأقوال ، ثم هون عليه أمر الإعراض عنهم بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107nindex.php?page=treesubj&link=28977ولو شاء الله ما أشركوا ) إلخ . أي ولو شاء الله تعالى ألا يشركوا لما أشركوا بأن يخلق البشر مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة ، ولكنه خلقهم مستعدين للإيمان والكفر والتوحيد والشرك والطاعة والفسق ، ومضت سنته في ذلك بأن يكونوا عاملين مختارين فأما غرائزهم وفطرهم فكلها خير ، وأما تصرفهم وكسبهم لعلومهم وأعمالهم فمنه الخير والشر ، وقد فصلنا هذه المسألة من قبل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107nindex.php?page=treesubj&link=28977وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل ) وإنما أنت بشير ونذير ، والله تعالى هو الحفيظ والوكيل عليهم ، وهو مع ذلك لا يسلبهم استعدادهم ، ولا يجبرهم بقدرته على الإيمان والطاعة له ، إذ لو فعل ذلك لكان إخراجا لهم من جنس البشر إلى جنس آخر ، ولعل في الجملتين احتباكا ، والتقدير : وما جعلناك عليه حفيظا تحفظ عليهم أعمالهم لتحاسبهم وتجازيهم عليها ، ولا وكيلا تتولى أمورهم وتتصرف فيها ، وما أنت عليهم بوكيل ولا حفيظ بملك ولا سيادة . أي ليس لك ما ذكر من الوصفين بأمرنا وحكمنا ، ولا ذلك بالفعل كما يكون نحوه لبعض الملوك بالقهر أو التراضي . وقد تقدم تفسيرها في ج 7 ، وفيه روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن تلك الآية منسوخة بآية السيف وروي ذلك عنه في هذه الآية أو ما قبلها ، والجمهور لا يعدون مثل هذا من المنسوخ كما تقدم ، نعم إنه نزل قبل أن تتكون الأمة ويصير النبي - صلى الله عليه وسلم - حاكما ، ولكن نزل مثله بعد ذلك ، لأن الحاكم ليس حفيظا ولا وكيلا على الأمة بالمعنى المراد هنا ، ففي سورة النساء المدنية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=80من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) 4 : 80 وفي هذه الآية وأمثالها من تقرير حرية الدين والاعتقاد ، ما لا نظير له في قانون ولا كتاب .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ 104
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 105
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 106
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) 107 .
الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كُلُّهَا فِي الْإِلَهِيَّاتِ مِنْ عَقَائِدِ الدِّينِ ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي التَّنْبِيهِ لِمَكَانَتِهَا مِنَ الْهِدَايَةِ ، وَفِي الْمُبَلِّغِ لَهَا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ ، وَإِعْلَامِهِ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِيهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ بَشَرٌ ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يُنْفَى عَنْهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ . قَالَ تَعَالَى :
[ ص: 548 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28977قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمِ ) الْبَصَائِرُ : جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَلَهَا مَعَانٍ مِنْهَا عَقِيدَةُ الْقَلْبِ وَالْمَعْرِفَةُ الثَّابِتَةُ بِالْيَقِينِ ، أَوِ الْيَقِينُ فِي الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْعِبْرَةُ وَالشَّاهِدُ ، أَوِ الشَّهِيدُ الْمُثْبِتُ لِلْأَمْرِ ، وَالْحُجَّةُ أَوِ الْفَطِنَةُ ، أَوِ الْقُوَّةُ الَّتِي تُدْرَكُ بِهَا الْحَقَائِقُ الْعِلْمِيَّةُ . وَهَذَا يُقَابِلُ الْبَصَرَ الَّذِي تُدْرَكُ بِهِ الْأَشْيَاءُ الْحِسِّيَّةُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ
مُعَاوِيَةَ لِبَعْضِ
بَنِي هَاشِمٍ : إِنَّكُمْ يَا
بَنِي هَاشِمٍ تُصَابُونَ فِي أَبْصَارِكُمْ . وَقَوْلُ الْهَاشِمِيِّ لَهُ : وَأَنْتُمْ يَا
بَنِي أُمَيَّةَ تُصَابُونَ فِي بَصَائِرِكُمْ . أَيْ قُلُوبِكُمْ وَعُقُولِكُمْ . وَالْمُرَادُ بِالْبَصَائِرِ هُنَا : الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ فِي هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي أَوَّلَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=95إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ) أَوْ هِيَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِحَقَائِقِ الدِّينِ أَوِ الْقُرْآنِ بِجُمْلَتِهِ ، وَرُبَّمَا يَرْجِعُ هَذَا بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ " جَاءَكُمْ " إِذْ لَا بُدَ لَهُ مِنْ نُكْتَةٍ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا ، وَأَقْوَى النُّكَتِ وُقُوعُ اللَّفْظِ الْمُؤَنَّثِ عَلَى مَعْنَى مُذَكَّرٍ ، وَالْخِطَابُ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ ، فَالْمَعْنَى قَدْ جَاءَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْجَلِيَّةِ بَصَائِرُ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ ، تُثْبِتُ لَكُمْ عَقَائِدَ الْحَقِّ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا نَيْلُ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ ، جَاءَكُمْ ذَلِكَ مِنْ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَسَوَّاكُمْ ، وَرَبَّى أَجْسَادَكُمْ وَمَشَاعِرَكُمْ وَسَائِرَ قُوَاكُمْ ، لِيُرَبِّيَ بِهَا أَرْوَاحَكُمْ ، بِأَحْسَنِ مِمَّا رَبَّى بِهِ أَشْبَاحَكُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28977فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ) أَيْ فَمَنْ أَبْصَرَ بِهَا الْحَقَّ وَالْهُدَى ، فَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ، فَلِنَفْسِهِ أَبْصَرَ وَلِسَعَادَتِهَا مَا قَدَّمَ مِنَ الْخَيْرِ وَأَخَّرَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28977وَمِنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ) أَيْ وَمِنْ عَمِيَ عَنِ الْحَقِّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهَا وَعَدَمِ النَّظَرِ وَالِاسْتِبْصَارِ بِهَا ، فَأَصَرَّ عَلَى ضَلَالِهِ ، ثَبَاتًا عَلَى عِنَادِهِ أَوْ تَقْلِيدِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ ، فَعَلَيْهَا جَنَى وَإِيَّاهَا أَرْدَى ، وَلَعَمَى الْبَصَائِرِ شَرٌّ مِنْ عَمَى الْأَبْصَارِ . وَأَسْوَأُ عَاقِبَةً فِي هَذِهِ الدَّارِ وَفِي تِلْكَ الدَّارِ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=46مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ) ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=286لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) 2 : 286 وَقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=7إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) 17 : 7 وَقَوْلُهُ هُنَا : " فَلَهَا " بِمَعْنَى فَعَلَيْهَا وَنُكْتَتُهُ الْمُشَاكَلَةُ أَوِ الِازْدِوَاجُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=104nindex.php?page=treesubj&link=28977وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) يُرَاقِبُ أَعْمَالَكُمْ وَيُحْصِيهَا لِيُجَازِيَكُمْ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ هُوَ الرَّقِيبُ الْحَفِيظُ ، فَهُوَ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ بِمَا تَسْتَحِقُّونَ ، فَعَلَيْهِ وَحْدُهُ الْحِسَابُ ، وَمَا عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105nindex.php?page=treesubj&link=28977وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ) أَيْ وَمِثْلَ ذَلِكَ التَّصْرِيفِ وَالتَّفَنُّنِ الْعَلِيِّ الشَّأْنِ الْبَعِيدِ الشَّأْوِ فِي فُنُونِ الْمَعَانِي وَأَفْنَانِ الْبَيَانِ - الَّذِي تَرَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَوْ هَذَا السِّيَاقِ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ ، لِإِثْبَاتِ أُصُولِ الْأَدْيَانِ ، وَالْهِدَايَةِ لِأَحَاسِنَ الْآدَابِ وَالْأَعْمَالِ ، فَنُحَوِّلُهَا مِنْ نَوْعٍ إِلَى نَوْعٍ وَمَنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ، مُرَاعَاةً لِلْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ ، وَلِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَفْرَادِ وَالْأَقْوَامِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105nindex.php?page=treesubj&link=28977وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) الْمَعْنَى الْعَامُّ لِلدَّرْسِ تَكْرَارُ الْمُعَالَجَةِ وَتَتَابُعُ الْفِعْلِ عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَذْهَبَ بِهِ
[ ص: 549 ] أَوْ يَصِلَ إِلَى الْغَايَةِ مِنْهُ ، يُقَالُ : دَرَسَ الشَّيْءُ كَرَسْمِ الدَّارِ وَآثَارِهَا يَدْرُسُ ( مِنْ بَابِ قَعَدَ ) إِذَا عَفَا وَزَالَ بِفِعْلِ الرِّيحِ أَوْ تَتَابَعَ الْمَشْيُ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ فَهُوَ دَارِسٌ ، وَدَرَسَتْهُ الرِّيحُ أَوْ غَيْرُهَا ، وَدَرَسَ اللَّابِسُ الثَّوْبَ دَرْسًا أَخْلَقَهُ وَأَبْلَاهُ فَهُوَ دَرِيسٌ ، وَدَرَسُوا الطَّعَامَ أَيِ الْقَمْحَ دَاسُوهُ لِيَتَكَسَّرَ فَيُفَرَّقَ بَيْنَ حَبِّهِ وَتِبْنِهِ ، وَدَرَسَ النَّاقَةَ دَرْسًا رَاضَهَا ، وَدَرَسَ الْكِتَابَ وَالْعِلْمَ يَدْرُسُهُ دَرْسًا وَدِرَاسَةً وَدَارَسَهُ مُدَارَسَةً - مِنْ ذَلِكَ . قَالَ فِي اللِّسَانِ عَقِبَ نَقْلِهِ كَأَنَّهُ عَانَدَهُ حَتَّى انْقَادَ لِحِفْظِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَدَرَسْتُ الْكِتَابَ أَدْرُسُهُ أَيْ ذَلَّلْتُهُ بِكَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى خَفَّ حِفْظُهُ عَلَيَّ مِنْ ذَلِكَ ، وَالدُّرْسَةُ بِالضَّمِّ الرِّيَاضَةُ فَفِي كُلِّ مَا ذُكِرَ مَعْنَى تَكْرَارِ الْعَمَلِ وَمُتَابَعَتِهِ حَتَّى بُلُوغِ الْغَايَةِ مِنْهُ . قَرَأَ الْجُمْهُورُ ( دَرَسْتَ ) فِعْلًا مَاضِيًا لِلْمُخَاطَبِ ، وَقَرَأَ
ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو ( دَارَسْتَ ) لِلْمُشَارَكَةِ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ ، وَقَرَأَ
ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ ( دَرَسَتْ ) بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ التَّاءِ وَهَى مَرْوِيَّةٌ عَنْ
أُبَيٍّ nindex.php?page=showalam&ids=10وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ . وَالتَّعْلِيلُ فِي قَوْلِهِ : ( دَرَسْتَ ) خَاصٌّ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ عَامٍّ يُعْرَفُ مِنَ الْقَرِينَةِ .
وَالْمَعْنَى وَكَذَلِكَ نَصَرِّفُ الْآيَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ شَتَّى لِيَهْتَدِيَ بِهَا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ ، وَلِيَقُولَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ - الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْهُمْ وَالْمُقَلِّدُونَ - قَدْ دَرَسْتَ مِنْ قَبْلُ يَا
مُحَمَّدُ وَتَعَلَّمْتَ ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَحَيٍ مُنَزَّلٍ كَمَا زَعَمْتَ وَقَدْ قَالُوا مِثْلَ هَذَا إِفْكًا وَزُورًا وَزَعَمُوا أَنَّهُ تَعَلَّمَ مِنْ غُلَامٍ رُومِيٍّ كَانَ يَصْنَعُ السُّيُوفَ فِي
مَكَّةَ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ كَثِيرًا . وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=103وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) 16 : 103 أَوْ لِيَقُولُوا : دَارَسْتَ الْعُلَمَاءَ وَذَاكَرْتَهُمْ وَجِئْتَنَا بِمَا تَلَقَّيْتَهُ عَنْهُمْ ، أَوْ دَرَسَتْ هَذِهِ الْعَقَائِدُ وَمُحِيَتْ بِمَعْنَى أَنَّهَا أَسَاطِيرُ قَدِيمَةٌ قَدْ رَثَتْ وَخَلَقَتْ ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=4وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا 25 : 4 ، 5 وَأَظْهَرُ مِنْهُ فِي تَأْيِيدِ الْقِرَاءَةِ الْأَخِيرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ
قَوْمِ هُودٍ فِي الشُّعَرَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=136قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) 26 : 136 - 138 وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَاتِ الثَّلَاثِ حِكَايَةُ أَقْوَالِ ثَلَاثِ فِئَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَهُوَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْعَجِيبِ فِي الْكَلِمِ وَالرَّسْمِ .
قِيلَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28908اللَّامَ فِي قَوْلِهِ " وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ " لِلْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ ، أَيْ لِيَكُونَ عَاقِبَةُ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ أَنَّ يَقُولَ الرَّاسِخُونَ فِي الشِّرْكِ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا وَجُحُودًا وَإِلْحَادًا . وَقِيلَ : إِنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) 2 : 26 وَنَقُولُ : لَيْسَ مَعْنَى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا أَنَّ الْإِضْلَالَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي أُنْزِلَ
[ ص: 550 ] لِأَجْلِهَا أَوِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَسَبَبًا لَهَا ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِهِ إِعْرَاضُ فَاسِدِي الْفِطْرَةِ عَنْهُ وَضَلَالُهُمْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ بِهِ ، فَهُوَ بِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى إِنْزَالِهِ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَافِعِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ مَضَارٌّ كَثِيرَةٌ مِنْ سُوءِ الِاسْتِعْمَالِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105nindex.php?page=treesubj&link=28977وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) أَيْ وَلِنُبَيِّنَ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ الْمُكَابِرِينَ إِنَّهُ أَثَرُ دَرْسٍ وَاجْتِهَادٍ ، أَوْ لِنُبَيِّنَ التَّصْرِيفَ الْمَفْهُومَ مِنْ " نُصَرِّفُ " لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بِالْفِعْلِ وَبِالِاسْتِعْدَادِ ، الَّذِي لَا يُعَارِضُهُ تَقْلِيدٌ وَلَا عِنَادٌ ، مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنَ الْحَقَائِقِ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهَا مِنَ السَّعَادَةِ فَعُلِمَ مِنْ عَطْفِ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ إِنَّكَ دَرَسْتَ أَوْ دَارَسْتَ حَتَّى جِئْتَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ إِذْ كَانَتْ أَثَرَ الدَّرْسِ أَوِ الْمُدَارَسَةِ هُمُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي صَرَفَهَا اللَّهُ عَلَى أَنْوَاعٍ أَوْ أَشْتَاتٍ ، أَوْ لَمَ يَفْهَمُوا سِرَّهَا وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيثَارِهَا عَلَى مَنَافِعَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا . وَأَمَّا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَدْلُولَاتِهَا وَحَسُنَ عَاقِبَةِ الِاهْتِدَاءِ بِهَا ، فَهُمُ الَّذِينَ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ بِتَأَمُّلِهَا حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ أَوْ مَا فِي التَّصْرِيفِ لَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ ، الْمُؤَيَّدِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ .
وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَنْقُوصَةٌ مِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ : إِنَّ الْمُرَادَ بِدَارَسْتَ قَارَأْتَ
الْيَهُودَ فَحَفِظْتَ عَنْهُمْ بَعْضَ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ ، وَيَنْهَضُ هَذَا بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ مِنْ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ
بِمَكَّةَ ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقِيَ أَحَدًا مِنَ
الْيَهُودِ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَوْ تَلَقَّى عَنْهُمْ كُتُبَهُمْ بِالْمُدَارَسَةِ لَمَا سَكَتُوا عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ لِمُشْرِكِي
مَكَّةَ حِينَ أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْهُ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَلِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهَيْمِنٌ عَلَى كُتُبِهِمْ ( 5 : 48 ) قَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَا عِنْدَهُمْ مُحَرَّفٌ وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ ، وَنَقْصٌّ بِمَا نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَتَفْسِيرِ النِّسَاءِ ( 4 : 46 ) وَالْمَائِدَةِ ( 5 : 14 ) : فَلْيُرَاجَعْ فِي الْجُزْئَيْنِ 5 ، 6 مِنَ التَّفْسِيرِ - كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ( 5 : 15 ) وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَتَمُّ وَأَكْمَلُ لِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ الَّذِي أَكْمَلَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ الدِّينَ .
( وَمِنْهَا ) قَوْلُ آخَرِينَ : إِنَّ " لِيَقُولُوا دَارَسْتَ " عَلَى النَّفْيِ ، أَيْ لِئَلَّا يَقُولُوا ذَلِكَ قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ وَنَقَلَهُ
الرَّازِيُّ عَنِ الْقَاضِي مِنَ
الْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّهُ أَشَدَّ الرَّدِّ وَلَهُ الْحَقُّ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ فِي جَعْلِ الْعِبَارَةِ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْجَبْرِ أَوِ الْقَدَرِ .
( وَمِنْهَا ) قَوْلُ
الرَّازِيِّ : إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ نُجُومًا : إِنَّ
مُحَمَّدًا يَضُمُّ هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ وَيَتَفَكَّرُ فِيهَا وَيُصْلِحُهَا آيَةً فَآيَةً ثُمَّ يُظْهِرُهَا ، وَلَوْ كَانَتْ وَحْيًا لَجَاءَ بِهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا جَاءَ
مُوسَى بِالتَّوْرَاةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ تَصْرِيفُ
[ ص: 551 ] الْآيَاتِ حَالًا فَحَالًا هُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الشُّبْهَةَ لِلْقَوْمِ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ نَتِيجَةُ مُدَارَسَةٍ وَمُذَاكَرَةٍ مَعَ آخَرِينَ . وَنَقُولُ : إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ رَأْيٌ جَدَلِيٌّ مُلَفَّقٌ لَا يَصِحُّ بِهِ فِي جُمْلَتِهِ نَقْلٌ ، فَالْعَرَبُ لَمْ تَكُنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ
مُوسَى جَاءَ بِالتَّوْرَاةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا تِلْكَ الْوَصَايَا الْعَشْرُ فَقَطْ ، وَسَائِرُ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ نَزَلَتْ مُتَفَرِّقَةً بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فِي أَمْكِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْقُرْآنِ .
وَتِلْكَ الْوَصَايَا لَا تَبْلُغُ عُشْرَ هَذِهِ السُّورَةِ ( الْأَنْعَامِ ) الَّتِي نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا ، بَلْ لَا تَزِيدُ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ إِلَّا قَلِيلًا وَلَعَلَّ كَثْرَةَ مَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28977مَعْنَى ( nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=105وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) وَلِئَلَّا يَقُولُوا دَرَسْتَ ، فَإِنَّ الْمَجِيءَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْحُجَجِ وَالْبَرَاهِينِ الْمُخْتَلِفَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُنْصِفَ مِنْ دَعْوَى اقْتِبَاسِ الْقُرْآنِ بِالْمُدَارَسَةِ مَعَ آخَرِينَ ، وَأَيْنَ هَؤَلَاءِ الْمُدَارِسُونَ ؟ وَلِمَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنَ الرَّسُولِ نَفْسِهِ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ ، وَالْبَلَاغَةِ الْمُعْجِزَةِ ؟ كَلَّا إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ جُحُودًا وَمُكَابَرَةً ، وَرُبَّمَا نَطَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَفَكُّرٍ فِي مُخَالَفَتِهِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا وَكَوْنِهِ احْتَجَّ عَلَى جُمْهُورِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) 10 : 16 وَقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=48وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) 29 : 48 وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرْتَابُوا وَإِنَّمَا هِيَ الْمُكَابَرَةُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=106nindex.php?page=treesubj&link=28977اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّ النَّاسَ فَرِيقَانِ ، فَرِيقٌ قَدْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ لِلِاهْتِدَاءِ بِتِلْكَ الْبَصَائِرِ الْمُنَزَّلَةِ وَلَا الْعِلْمِ بِمَا فِيهَا مِنْ تَصْرِيفِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَةِ ، فَحَظُّهُمْ مِنْهَا مُكَابَرَتُهَا وَجُحُودُ تَنْزِيلِهَا وَفَرِيقٌ يَعْلَمُونَ ، وَبِالْبَيَانِ يَهْتَدُونَ - أَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ، بِالْبَيَانِ لَهُ وَالْعَمَلِ بِهِ ، مُشِيرًا بِإِضَافَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِهِ ، وَنَاصِبًا إِيَّاهُ إِمَامًا لِجَمِيعِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ ، يَتَرَبَّى بِهِ مِنْ وُفِّقَ مِنْهُمْ لِاتِّبَاعِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَنْ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ وَيَأْتَمِرُ بِمَا أُمِرَ ، وَقَرَنَ هَذَا الْأَمْرَ بِكَلِمَةِ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ ، لِبَيَانِ وُجُوبِ مُلَازَمَتِهِ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ ، فَكَمَا أَنَّ الْخَالِقَ الْمُرَبِّي لِلْأَشْبَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الرِّزْقِ ، وَلِلْأَرْوَاحِ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْوَحْيِ ، وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَلَا فِي الْهِدَايَةِ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَاحِدًا لَا شَرِيكَ
[ ص: 552 ] لَهُ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بَشَفَاعَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ ، فَالْأَمْرُ هُنَا بِالِاتِّبَاعِ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْهُ مُجَرَّدَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي أَكْثَرِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَمَلِ مَنْ هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ كَوْنِهِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ التَّبْلِيغِ ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمَقْرُونِ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ، أَمْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، بِأَنْ لَا يُبَالِيَ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ ، وَلَا بِمِثْلِ قَوْلِهِمْ لَهُ : دَارَسْتَ أَوْ دَرَسْتَ لِأَنَّ الْحَقَّ يَعْلُو مَتَى ظَهَرَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ الْإِخْلَاصِ ، لَا يَضُرُّهُ الْبَاطِلُ بِخُرَافَاتِ الْأَعْمَالِ وَلَا بِزَخَارِفِ الْأَقْوَالِ ، ثُمَّ هَوَّنَ عَلَيْهِ أَمْرَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107nindex.php?page=treesubj&link=28977وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ) إِلَخْ . أَيْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَلَّا يُشْرِكُوا لَمَا أَشْرَكُوا بِأَنْ يَخْلُقَ الْبَشَرَ مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ بِالْفِطْرَةِ كَالْمَلَائِكَةِ ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالطَّاعَةِ وَالْفِسْقِ ، وَمَضَتْ سُنَّتُهُ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونُوا عَامِلِينَ مُخْتَارِينَ فَأَمَّا غَرَائِزُهُمْ وَفَطَرُهُمْ فَكُلُّهَا خَيْرٌ ، وَأَمَّا تَصَرُّفُهُمْ وَكَسْبُهُمْ لِعُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=107nindex.php?page=treesubj&link=28977وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) وَإِنَّمَا أَنْتَ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْحَفِيظُ وَالْوَكِيلُ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْلُبُهُمُ اسْتِعْدَادَهُمْ ، وَلَا يُجْبِرُهُمْ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لَهُ ، إِذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ إِخْرَاجًا لَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ إِلَى جِنْسٍ آخَرَ ، وَلَعَلَّ فِي الْجُمْلَتَيْنِ احْتِبَاكًا ، وَالتَّقْدِيرُ : وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِ حَفِيظًا تَحْفَظُ عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ لِتُحَاسِبَهُمْ وَتُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا ، وَلَا وَكِيلًا تَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَتَتَصَرَّفُ فِيهَا ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَلَا حَفِيظٍ بِمِلْكٍ وَلَا سِيَادَةٍ . أَيْ لَيْسَ لَكَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ بِأَمْرِنَا وَحُكْمِنَا ، وَلَا ذَلِكَ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ نَحْوُهُ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ بِالْقَهْرِ أَوِ التَّرَاضِي . وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي ج 7 ، وَفِيهِ رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ مَا قَبْلَهَا ، وَالْجُمْهُورُ لَا يَعُدُّونَ مِثْلَ هَذَا مِنَ الْمَنْسُوخِ كَمَا تَقَدَّمَ ، نَعَمْ إِنَّهُ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ تَتَكَوَّنَ الْأُمَّةُ وَيَصِيرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاكِمًا ، وَلَكِنْ نَزَلَ مِثْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ حَفِيظًا وَلَا وَكِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ هُنَا ، فَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْمَدَنِيَّةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=80مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ) 4 : 80 وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ تَقْرِيرِ حُرِّيَّةِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ ، مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي قَانُونٍ وَلَا كِتَابٍ .