أساليب القرآن في العقائد الإلهية :
أما مسائل العقائد في الإلهيات فقد فصلت أبلغ تفصيل بأساليب القرآن العالية الجامعة بين الإقناع والتأثير ، كبيان صفات الله في سياق بيان أفعاله وسننه في الخلق والتكوين ، والتقدير والتدبير . وآياته في الأنفس والآفاق ، وطبائع الاجتماع وملكات الأخلاق ، وتأثير العقائد في الأعمال وما يترتب عليها في الدارين من الجزاء ، وناهيك بإيراد الحقيقة بأسلوب المناظرة والجدال ، أو ورودها جوابا بعد سؤال ، أو تجليها في ورود الوقائع وضروب الأمثال ، وهذا الأسلوب أعلى الأساليب وأكملها جمعا بين إقناع العقول والتأثير في القلوب ، فيقترن اليقين في الإيمان ، بحب التعظيم وخشوع الخوف والرجاء . وفي أثناء ذلك يذكر شبهات المشركين والكفار ، فيكون مثلها فيه كقطعة من الطين الآسن تلقى في غدير صاف . يتدفق من صخر . على حصباء كالدر . لا تلبث أن تتضاءل وتخفى . ولا تكدر له صفوا . حتى إنه ليستغنى ، بمجرد بيانها ، عن وصف قبحها والحجة على بطلانها ، فكيف وهي تقرن غالبا بالوصف الكاشف لما غشيها من التلبيس . أو يقفى عليها بالبرهان الدامغ لما فيها من الأباطيل . ولا تغفل عن أسلوب إحالة المخاطبين على ما أودع في غرائزهم وفطرهم . وتذكيرهم بمعارضته لما ألفوا من تقاليدهم وفساد نظرهم . ولا عن أسلوب إنذار سوء المغبة في العاجلة . وسوء العاقبة والمصير في الآخرة .
أضلت الفلسفة اليونانية علماء الكلام عن هذه الأساليب العليا فلم يهتدوا بها ولا اقتدوا بشيء منها ، بل طفقوا يلقنون النشء الإسلامي صفات الله تعالى مسرودة سردا معدودة عدا .
[ ص: 240 ] معرفة بحدود ناقصة ، أو رسوم دارسة مقرونة بأدلة نظرية وتشكيكات جدلية . لا تثمر إيمان الإذعان ، ولا خشية الديان ، ولا حب الرحمن ، بل تثير رواكد الشبهات . وتتعارض في إثباتها دلائل النظريات .
تأمل كيف بدئت هذه السورة بحمد الله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور . ثم التذكير بخلق الناس وقضاء الآجال ، وكيف عطف على الأول ذكر شرك الكافرين بربهم بجعل بعض خلقه عدلا له . مع أن البداهة قاضية بأن الرب الخالق لا يعادله أحد ولا شيء من خلقه . وعطف على الثاني التنبيه لإعراضهم عن الآيات الدالة على الحق ، وأنه هو المانع لهم من العلم . تذكيرا للمستعد للفهم بالمانع ليجتنب ، والمقتضي ليتبع ، وإيذانا للعاقل بأن عقائد الإسلام مؤيدة بالحجة والبرهان .
ولما كان التوحيد الذي هو لباب الدين وروحه نوعين -
nindex.php?page=treesubj&link=28658_28663توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية - بين كلا منهما بالآيات والبراهين ، ولما كان الشرك في الربوبية قليلا في الناس
nindex.php?page=treesubj&link=29433والشرك في الإلهية دون الربوبية هو الكثير الفاشي ، وعليه سواد جاهلية العرب الأعظم ، بني القول ببطلان هذا على بطلان ذاك ، كما بنيت حجج إثبات أحدهما على المعترف به من إثبات الآخر ، راجع في فهرسي الجزءين السابع والثامن من التفسير بحث الإيمان والتوحيد والشرك والشفاعة والرب والإله والجزاء ، وفي آخر تفسير السورة بحث نجاة الناس وسعادتهم أو شقاوتهم بأعمالهم .
وأنتقل بك من هذا التذكير إلى قصة
إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وآلهما وسلم مع أبيه وقومه في إنكاره عليهم اتخاذ الأصنام آلهة أي معبودين . واتخاذ الكواكب أربابا أي مدبرين لأمور العالم وإن لم يكونوا خالقين ، وهو بحث جاء بأسلوب المناظرة في قصة واقعة تعددت فيها الحجج على توحيد الألوهية والربوبية معا ، فكان أجدر بأن يوعى فيحفظ ، ويعقل فيقبل . وقد أسهبنا القول في تفسيره بما لم يأت بمثله أحد من المفسرين المعروفين فاستغرق خمسين صفحة أو أكثر ص435 - 486 ج 7 ط الهيئة .
ومن أبلغ ما في السورة من
nindex.php?page=treesubj&link=29433تقرير عقيدة التوحيد وسوء حال أهل الشرك في ضلالهم عنها وإعراضهم عن آياتها بأسلوب التمثيل قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ) ( 39 ) فارجع إلى تفسيرها ( في ص336 - 339 من ج7 تفسير ) وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=71قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ) ( 71 ) إلخ . فراجع تفسيرها ( ص 435 - 442 ط الهيئة منه أيضا ) .
[ ص: 241 ] ولا حاجة إلى الدلالة على شواهد بيان التوحيد من طريق السؤال والجواب لكثرتها مع ظهورها لكل قارئ بصيغتها .
ولعل أرق أساليب الإقناع ،
nindex.php?page=treesubj&link=20759_28899_29568وأبلغ وسائل الإذعان بأصول الإيمان ، إحالة المخاطبين إلى غرائزهم وفطرهم ، وتذكيرهم بتأثير التربية التقليدية في أنفسهم ، ومناشئ عروض الشبهات لأذهانهم ، وإلزامهم الحجة بمحاسبة عقولهم لأنفسهم على تعارض الأفكار وتناقض الأقوال ، بسبب اختلاف الأوقات والأحوال ، ومخالفة التقاليد والمسلمات ، للغرائز والملكات . ويتلو هذا الأسلوب إحالتهم على مثال ذلك في غيرهم من الناس بالنظر في أحوال المعاصرين ، والاعتبار بسير الغابرين . فآياته تعالى في الأنفس أقوى من آياته في غيرها (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=20وفي الأرض آيات للموقنين nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=21وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ( 51 : 20 ، 21 ) . تأمل
nindex.php?page=treesubj&link=28899_29435وصف المعاندين من مشركي مكة في الآية الرابعة وما بعدها إلى آخر التاسعة بالإعراض عن جميع الآيات التي تأتيهم من ربهم ، وتكذيبهم بالحق لما جاءهم ، والحزم بأنهم يكابرون الحس ويشتبهون في اللمس ولا يخرجون من محيط اللبس ، وقابله بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=109وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) ( 109 ) إلى قوله في آخر الآيتين بعدها (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=111ولكن أكثرهم يجهلون ) ( 111 ) ثم بما يناسبه من إقامة الحجة عليهم بقطع إنزال الكتاب لاعتذارهم بيوم القيامة عن شركهم وضلالهم بأن الكتاب إنما أنزل على طائفتين من قبلهم وكانوا غافلين عن دراسته ، جاهلين لهدايته ، وأنه لو أنزل عليهم لكانوا أهدى منهم لذكاء عقولهم وعلو همتهم - فراجع تفسير الآيات 154 - 157 .
ثم تأمل قوله تعالى في أولئك المعرضين بعد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن جحودهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=35وإن كان كبر عليك إعراضهم ) ( 35 ) إلى آخر الآية ( 39 ) تر كيف سجل عليهم الجهل والحرمان من العلم ، وشبههم بالصم البكم ، ثم تأمل كيف التفت عن خطاب الرسول إلى خطابهم ، سائلا إياهم أن يراجعوا عقولهم وضمائرهم ويخبروا كيف حالها إذا أتاها عذاب الله أو أتتها الساعة ؟ أغير الله يدعون في هذه الحالة ؟ ثم أجاب عنهم بما يعلمونه حق العلم من أنفسهم وهو أنهم في مثل هذه الشدة القصوى يدعون الله وحده دون غيره لا يخطر في بالهم سواه ، وهذا هو الإيمان الوجداني الذي فطر الله عليه الناس فأضلتهم عنه الوساوس الوهمية ، والتقاليد الموروثة ( راجع تفسير هذه الآيات في ص317 - 345 ج 7 ط الهيئة ) .
ولا تغفل عند مراجعة ما ذكر من الآيات في هذا الأسلوب عما يمازجها أو يقارنها من الآيات في الأسلوب الآخر المناسب له ، وهو التذكير بأحوال الأمم في كفرهم وعنادهم ، وقيام حجج الرسل عليهم . فإنما غرضنا هذا التنبيه والتذكير ، وإذا أحيانا الله تعالى ووفقنا لإنجاز ما وعدنا به من وضع كتاب في فقه القرآن وهدايته مرتب على أبواب العقائد والآداب
[ ص: 242 ] والأعمال الدينية والمدنية فهناك نستوفي بيان هذه الأساليب في إثبات العقائد بالشواهد من القرآن كله .
ولا حاجة إلى ذكر شيء من الشواهد على أسلوب إنذار العاقبة وسوء المصير في الدنيا والآخرة فإنها جلية واضحة الأساليب في عقيدة الوحي والرسل .
أَسَالِيبُ الْقُرْآنِ فِي الْعَقَائِدِ الْإِلَهِيَّةِ :
أَمَّا مَسَائِلُ الْعَقَائِدِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ فَقَدْ فُصِّلَتْ أَبْلَغَ تَفْصِيلٍ بِأَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْعَالِيَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ ، كَبَيَانَ صِفَاتِ اللَّهِ فِي سِيَاقِ بَيَانِ أَفْعَالِهِ وَسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ ، وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ . وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ، وَطَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَمَلَكَاتِ الْأَخْلَاقِ ، وَتَأْثِيرِ الْعَقَائِدِ فِي الْأَعْمَالِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي الدَّارَيْنِ مِنَ الْجَزَاءِ ، وَنَاهِيكَ بِإِيرَادِ الْحَقِيقَةِ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ ، أَوْ وُرُودِهَا جَوَابًا بَعْدَ سُؤَالٍ ، أَوْ تَجَلِّيهَا فِي وُرُودِ الْوَقَائِعِ وَضُرُوبِ الْأَمْثَالِ ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ أَعْلَى الْأَسَالِيبِ وَأَكْمَلُهَا جَمْعًا بَيْنَ إِقْنَاعِ الْعُقُولِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْقُلُوبِ ، فَيَقْتَرِنُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ ، بِحُبِّ التَّعْظِيمِ وَخُشُوعِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ . وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ يَذْكُرُ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ ، فَيَكُونُ مَثَلُهَا فِيهِ كَقِطْعَةٍ مِنَ الطِّينِ الْآسِنِ تُلْقَى فِي غَدِيرٍ صَافٍ . يَتَدَفَّقُ مِنْ صَخْرٍ . عَلَى حَصْبَاءَ كَالدُّرِّ . لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتَضَاءَلَ وَتَخْفَى . وَلَا تُكَدِّرَ لَهُ صَفْوًا . حَتَّى إِنَّهُ لَيُسْتَغْنَى ، بِمُجَرَّدِ بَيَانِهَا ، عَنْ وَصْفِ قُبْحِهَا وَالْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهَا ، فَكَيْفَ وَهِيَ تُقْرَنُ غَالِبًا بِالْوَصْفِ الْكَاشِفِ لِمَا غَشِيَهَا مِنَ التَّلْبِيسِ . أَوْ يُقَفَّى عَلَيْهَا بِالْبُرْهَانِ الدَّامِغِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَبَاطِيلِ . وَلَا تَغْفَلُ عَنْ أُسْلُوبِ إِحَالَةِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى مَا أُوْدِعَ فِي غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ . وَتَذْكِيرِهِمْ بِمُعَارَضَتِهِ لِمَا أَلِفُوا مِنْ تَقَالِيدِهِمْ وَفَسَادِ نَظَرِهِمْ . وَلَا عَنْ أُسْلُوبِ إِنْذَارِ سُوءِ الْمَغَبَّةِ فِي الْعَاجِلَةِ . وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ وَالْمَصِيرِ فِي الْآخِرَةِ .
أَضَلَّتِ الْفَلْسَفَةُ الْيُونَانِيَّةُ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ عَنْ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ الْعُلْيَا فَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَا وَلَا اقْتَدَوْا بِشَيْءٍ مِنْهَا ، بَلْ طَفِقُوا يُلَقِّنُونَ النَّشْءَ الْإِسْلَامِيَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَسْرُودَةً سَرْدًا مَعْدُودَةً عَدًّا .
[ ص: 240 ] مُعَرَّفَةً بِحُدُودٍ نَاقِصَةٍ ، أَوْ رُسُومٍ دَارِسَةٍ مَقْرُونَةٍ بِأَدِلَّةٍ نَظَرِيَّةٍ وَتَشْكِيكَاتٍ جَدَلِيَّةٍ . لَا تُثْمِرُ إِيمَانَ الْإِذْعَانِ ، وَلَا خَشْيَةَ الدَّيَّانِ ، وَلَا حُبَّ الرَّحْمَنِ ، بَلْ تُثِيرُ رَوَاكِدَ الشُّبُهَاتِ . وَتَتَعَارَضُ فِي إِثْبَاتِهَا دَلَائِلُ النَّظَرِيَّاتِ .
تَأَمَّلْ كَيْفَ بُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ . ثُمَّ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ النَّاسِ وَقَضَاءِ الْآجَالِ ، وَكَيْفَ عُطِفَ عَلَى الْأَوَّلِ ذِكْرُ شِرْكِ الْكَافِرِينَ بِرَبِّهِمْ بِجَعْلِ بَعْضِ خَلْقِهِ عَدْلًا لَهُ . مَعَ أَنَّ الْبَدَاهَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ لَا يُعَادِلُهُ أَحَدٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ . وَعُطِفَ عَلَى الثَّانِي التَّنْبِيهُ لِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَقِّ ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَانِعُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ . تَذْكِيرًا لِلْمُسْتَعِدِّ لِلْفَهْمِ بِالْمَانِعِ لِيُجْتَنَبَ ، وَالْمُقْتَضِي لِيُتَّبَعَ ، وَإِيذَانًا لِلْعَاقِلِ بِأَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ مُؤَيَّدَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ .
وَلَمَّا كَانَ التَّوْحِيدُ الَّذِي هُوَ لُبَابُ الدِّينِ وَرُوحُهُ نَوْعَيْنِ -
nindex.php?page=treesubj&link=28658_28663تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ - بَيَّنَ كُلًّا مِنْهُمَا بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ ، وَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ فِي الرُّبُوبِيَّةِ قَلِيلًا فِي النَّاسِ
nindex.php?page=treesubj&link=29433وَالشَّرَكُ فِي الْإِلَهِيَّةِ دُونَ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْكَثِيرَ الْفَاشِيَ ، وَعَلَيْهِ سَوَادُ جَاهِلِيَّةِ الْعَرَبِ الْأَعْظَمِ ، بُنِيَ الْقَوْلُ بِبُطْلَانِ هَذَا عَلَى بُطْلَانِ ذَاكَ ، كَمَا بُنِيَتْ حُجَجُ إِثْبَاتِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُعْتَرَفِ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْآخَرِ ، رَاجِعْ فِي فِهْرَسَيِ الْجُزْءَيْنِ السَّابِعِ وَالثَّامِنِ مِنَ التَّفْسِيرِ بَحْثَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالشَّفَاعَةِ وَالرَّبِّ وَالْإِلَهِ وَالْجَزَاءِ ، وَفِي آخِرِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ بِحَثَ نَجَاةِ النَّاسِ وَسَعَادَتِهِمْ أَوْ شَقَاوَتِهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ .
وَأَنْتَقِلُ بِكَ مِنْ هَذَا التَّذْكِيرِ إِلَى قِصَّةِ
إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِمَا وَسَلَّمَ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ الْأَصْنَامِ آلِهَةً أَيْ مَعْبُودِينَ . وَاتِّخَاذَ الْكَوَاكِبِ أَرْبَابًا أَيْ مُدَبِّرِينَ لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا خَالِقِينَ ، وَهُوَ بَحْثٌ جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ فِي قِصَّةٍ وَاقِعَةٍ تَعَدَّدَتْ فِيهَا الْحُجَجُ عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مَعًا ، فَكَانَ أَجْدَرَ بِأَنْ يُوعَى فَيُحْفَظَ ، وَيُعْقَلَ فَيُقْبَلَ . وَقَدْ أَسْهَبْنَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِهِ بِمَا لَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمَعْرُوفِينَ فَاسْتَغْرَقَ خَمْسِينَ صَفْحَةً أَوْ أَكْثَرَ ص435 - 486 ج 7 ط الْهَيْئَةِ .
وَمِنْ أَبْلَغِ مَا فِي السُّورَةِ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29433تَقْرِيرِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ وَسُوءِ حَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي ضَلَالِهِمْ عَنْهَا وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِهَا بِأُسْلُوبِ التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=39وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ) ( 39 ) فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِهَا ( فِي ص336 - 339 مِنْ ج7 تَفْسِيرٌ ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=71قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ ) ( 71 ) إِلَخْ . فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا ( ص 435 - 442 ط الْهَيْئَةِ مِنْهُ أَيْضًا ) .
[ ص: 241 ] وَلَا حَاجَةَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى شَوَاهِدِ بَيَانِ التَّوْحِيدِ مِنْ طَرِيقِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لِكَثْرَتِهَا مَعَ ظُهُورِهَا لِكُلِّ قَارِئٍ بِصِيغَتِهَا .
وَلَعَلَّ أَرَقَّ أَسَالِيبِ الْإِقْنَاعِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=20759_28899_29568وَأَبْلَغَ وَسَائِلِ الْإِذْعَانِ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ ، إِحَالَةُ الْمُخَاطَبِينَ إِلَى غَرَائِزِهِمْ وَفِطَرِهِمْ ، وَتَذْكِيرُهُمْ بِتَأْثِيرِ التَّرْبِيَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَمَنَاشِئِ عُرُوضِ الشُّبَهَاتِ لِأَذْهَانِهِمْ ، وَإِلْزَامُهُمُ الْحُجَّةَ بِمُحَاسَبَةِ عُقُولِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى تَعَارُضِ الْأَفْكَارِ وَتَنَاقُضِ الْأَقْوَالِ ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ ، وَمُخَالَفَةِ التَّقَالِيدِ وَالْمُسَلَّمَاتِ ، لِلْغَرَائِزِ وَالْمَلَكَاتِ . وَيَتْلُو هَذَا الْأُسْلُوبَ إِحَالَتُهُمْ عَلَى مِثَالِ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الْمُعَاصِرِينَ ، وَالِاعْتِبَارِ بِسِيَرِ الْغَابِرِينَ . فَآيَاتُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ أَقْوَى مِنْ آيَاتِهِ فِي غَيْرِهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=20وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=21وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) ( 51 : 20 ، 21 ) . تَأَمَّلْ
nindex.php?page=treesubj&link=28899_29435وَصْفَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ التَّاسِعَةِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي تَأْتِيهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ لِمَّا جَاءَهُمْ ، وَالْحَزْمِ بِأَنَّهُمْ يُكَابِرُونَ الْحِسَّ وَيَشْتَبِهُونَ فِي اللَّمْسِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ مُحِيطِ اللَّبْسِ ، وَقَابَلَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=109وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ) ( 109 ) إِلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=111وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( 111 ) ثُمَّ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَطْعِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ لِاعْتِذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَنْ شِرْكِهِمْ وَضَلَالِهِمْ بِأَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا غَافِلِينَ عَنْ دِرَاسَتِهِ ، جَاهِلِينَ لِهِدَايَتِهِ ، وَأَنَّهُ لَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ لَكَانُوا أَهْدَى مِنْهُمْ لِذَكَاءِ عُقُولِهِمْ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِمْ - فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ 154 - 157 .
ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الْمُعْرِضِينَ بَعْدَ تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُحُودِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=35وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ ) ( 35 ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ( 39 ) تَرَ كَيْفَ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الْجَهْلَ وَالْحِرْمَانَ مِنَ الْعِلْمِ ، وَشَبَّهَهُمْ بِالصُّمِّ الْبُكْمِ ، ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِ الرَّسُولِ إِلَى خِطَابِهِمْ ، سَائِلًا إِيَّاهُمْ أَنْ يُرَاجِعُوا عُقُولَهُمْ وَضَمَائِرَهُمْ وَيُخْبِرُوا كَيْفَ حَالُهَا إِذَا أَتَاهَا عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْهَا السَّاعَةُ ؟ أَغَيْرَ اللَّهِ يَدْعُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ؟ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُمْ بِمَا يَعْلَمُونَهُ حَقَّ الْعِلْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الشِّدَّةِ الْقُصْوَى يَدْعُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ لَا يَخْطُرُ فِي بَالِهِمْ سِوَاهُ ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْوُجْدَانِيُّ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّاسَ فَأَضَلَّتْهُمْ عَنْهُ الْوَسَاوِسُ الْوَهْمِيَّةُ ، وَالتَّقَالِيدُ الْمَوْرُوثَةُ ( رَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي ص317 - 345 ج 7 ط الْهَيْئَةِ ) .
وَلَا تَغْفَلْ عِنْدَ مُرَاجَعَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ عَمَّا يُمَازِجُهَا أَوْ يُقَارِنُهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي الْأُسْلُوبِ الْآخَرِ الْمُنَاسِبِ لَهُ ، وَهُوَ التَّذْكِيرُ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ فِي كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ ، وَقِيَامِ حُجَجِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ . فَإِنَّمَا غَرَضُنَا هَذَا التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ ، وَإِذَا أَحْيَانَا اللَّهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا لِإِنْجَازِ مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ وَضْعِ كِتَابٍ فِي فِقْهِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ مُرَتَّبٍ عَلَى أَبْوَابِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ
[ ص: 242 ] وَالْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ فَهُنَاكَ نَسْتَوْفِي بَيَانَ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ فِي إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ .
وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى أُسْلُوبِ إِنْذَارِ الْعَاقِبَةِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهَا جَلِيَّةٌ وَاضِحَةُ الْأَسَالِيبِ فِي عَقِيدَةِ الْوَحْيِ وَالرُّسُلِ .