ثم قال عز وجل :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3nindex.php?page=treesubj&link=28976_16905فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم الاضطرار هو دفع الإنسان إلى ما يضره وحمله عليه أو إلجاؤه إليه ; فهو صيغة افتعال من الضرر ، وأصل معناه : الضيق ، وهذه الصيغة تدل على التكلف ، فالاضطرار تكلف ما يضر بملجئ يلجئ إليه ، والملجئ إلى ذلك إما أن يكون من نفس الإنسان ، وحينئذ لا بد أن يكون ضررا حاصلا أو متوقعا يلجئ إلى التخلص منه بما هو أخف منه ، عملا بقاعدة : " ارتكاب أخف الضررين " الثابتة عقلا وطبعا وشرعا ، وإما أن يكون من غير نفسه ; كإكراه بعض الأقوياء بعض الضعفاء على ما يضرهم ، ومن هذا القبيل قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=126ثم أضطره إلى عذاب النار ( 2 : 126 ) وما نحن فيه من القسم الأول ، والضرر الملجئ فيه هو : المخمصة ، أي المجاعة ، وهي مأخوذة من خمص البطن ، أي ضموره لفقد الطعام ، فالجوع ضرر يدفع الإنسان إلى تكلف أكل الميتة ، وإن كان يعافها طبعا ويتضرر بها لو تكلف أكلها في حال الاختيار ، سواء أكان بها علة أم لا ، وقد وافق الشرع الفطرة فأباح للمضطر أكل الميتة وغيرها من المحرمات لهذه الضرورة ، ولا يبيح ذلك أي جوع يعرض للإنسان ، ولا الجوع الشديد مطلقا ، بل الجوع الذي لا يجد معه الجائع شيئا يسد به رمقه إلا المحرم مما ذكر . يدل على هذا المعنى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3في مخمصة أي : فمن اضطر فأكل مما ذكر حال كونه في مجاعة محيطة به إحاطة الظرف بالمظروف ، لا يجد منفذا منها إلا ما ذكر ، وحال كونه :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3غير متجانف لإثم أي : غير جائر فيه أو متمايل إليه متعمد له ، فالجنف : الميل والجور ، ويصدق بالميل إلى الأكل ابتداء ، وبالجور فيه بأكل الكثير ، وهو في معنى قوله في آيتي الأنعام والنحل :
[ ص: 140 ] nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145فمن اضطر غير باغ ولا عاد ( 6 : 145 ) أي غير طالب له ولا متعد ومتجاوز قدر الضرورة فيه ; فعبارة سورة المائدة أوجز ، وإنما اشترط هذا لأن الإباحة للضرورة ، فيشترط تحققها أولا وكونها هي الحامل على الأكل ، وأن تقدر بقدرها ، فيأكل بقدر ما يدفع الضرر لا يعدوه إلى الشبع ، وهذا الشرط معقول في حكم الضرورات ، فهو نافع للمضطر أدبا وطبعا ; لأنه يمنعه أن يتجرأ على تعود ما فيه مهانة له وضرر . والظاهر أن المضطر مخير بين تلك المحرمات ، أو يختار أقلها ضررا ، وقد يكون أشهاها إليه
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226فإن الله غفور رحيم أي فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر ، فأكل منه في مجاعة لا يجد فيها غيره ، وهو غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه متجاوز قدر الضرورة - فإن الله غفور لمثله لا يؤاخذه على ذلك ، رحيم به يرحمه ويحسن إليه .
الأصل في الأشياء الحل ; إذ من المعلوم بسنن الفطرة وآيات الكتاب أن الله سخر هذه الأرض وما فيها للناس ينتفعون بها ويظهرون أسرار خلق الله وحكمه فيها ، وإنما المحظور عليهم هو ما يضرهم . ولكن الناس لا يقفون عند حدود الفطرة واتقاء المضرة وجلب المنفعة ، بل دأبهم الجناية على فطرتهم ، والتصدي أحيانا لفعل ما يضرهم وترك ما ينفعهم ، ومن ذلك أن العرب استباحت أكل الميتة والدم المسفوح من الخبائث الضارة ، وحرمت على أنفسها بعض الطيبات من الأنعام بأوهام باطلة ; كالبحيرة والسائبة وغير ذلك ، كما سيأتي بيانه في أواخر هذه السورة وفي سورة الأنعام ، ولأجل هذا كانت الحاجة قاضية ببيان ما يحله الله مما حرموه ، بعد بيان ما حرمه مما أحلوه ، وذلك قوله تعالى :
ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3nindex.php?page=treesubj&link=28976_16905فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ الِاضْطِرَارُ هُوَ دَفْعُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا يَضُرُّهُ وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ أَوْ إِلْجَاؤُهُ إِلَيْهِ ; فَهُوَ صِيغَةُ افْتِعَالٍ مِنَ الضَّرَرِ ، وَأَصْلُ مَعْنَاهُ : الضِّيقُ ، وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ ، فَالِاضْطِرَارُ تَكَلُّفُ مَا يَضُرُّ بِمُلْجِئٍ يُلْجِئُ إِلَيْهِ ، وَالْمُلْجِئُ إِلَى ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ ، وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا حَاصِلًا أَوْ مُتَوَقَّعًا يُلْجِئُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ : " ارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ " الثَّابِتَةِ عَقْلًا وَطَبْعًا وَشَرْعًا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ نَفْسِهِ ; كَإِكْرَاهِ بَعْضِ الْأَقْوِيَاءِ بَعْضَ الضُّعَفَاءِ عَلَى مَا يَضُرُّهُمْ ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=126ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ( 2 : 126 ) وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَالضَّرَرُ الْمُلْجِئُ فِيهِ هُوَ : الْمَخْمَصَةُ ، أَيِ الْمَجَاعَةُ ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمْصِ الْبَطْنِ ، أَيْ ضُمُورِهِ لِفَقْدِ الطَّعَامِ ، فَالْجُوعُ ضَرَرٌ يَدْفَعُ الْإِنْسَانَ إِلَى تَكَلُّفِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَعَافُهَا طَبْعًا وَيَتَضَرَّرُ بِهَا لَوْ تَكَلَّفَ أَكْلَهَا فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِهَا عِلَّةٌ أَمْ لَا ، وَقَدْ وَافَقَ الشَّرْعُ الْفِطْرَةَ فَأَبَاحَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا يُبِيحُ ذَلِكَ أَيُّ جُوعٍ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ ، وَلَا الْجُوعُ الشَّدِيدُ مُطْلَقًا ، بَلِ الْجُوعُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَعَهُ الْجَائِعُ شَيْئًا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ إِلَّا الْمُحَرَّمَ مِمَّا ذُكِرَ . يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3فِي مَخْمَصَةٍ أَيْ : فَمَنِ اضْطُرَّ فَأَكَلَ مِمَّا ذُكِرَ حَالَ كَوْنِهِ فِي مَجَاعَةٍ مُحِيطَةٍ بِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ ، لَا يَجِدُ مَنْفَذًا مِنْهَا إِلَّا مَا ذُكِرَ ، وَحَالَ كَوْنِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ أَيْ : غَيْرَ جَائِرٍ فِيهِ أَوْ مُتَمَايِلٍ إِلَيْهِ مُتَعَمِّدٍ لَهُ ، فَالْجَنَفُ : الْمَيْلُ وَالْجَوْرُ ، وَيَصْدُقُ بِالْمَيْلِ إِلَى الْأَكْلِ ابْتِدَاءً ، وَبِالْجَوْرِ فِيهِ بِأَكْلِ الْكَثِيرِ ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَتَيِ الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ :
[ ص: 140 ] nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ ( 6 : 145 ) أَيْ غَيْرَ طَالِبٍ لَهُ وَلَا مُتَعَدٍّ وَمُتَجَاوِزٍ قَدْرَ الضَّرُورَةِ فِيهِ ; فَعِبَارَةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَوْجَزُ ، وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ هَذَا لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لِلضَّرُورَةِ ، فَيُشْتَرَطُ تَحَقُّقُهَا أَوَّلًا وَكَوْنُهَا هِيَ الْحَامِلَ عَلَى الْأَكْلِ ، وَأَنْ تُقَدَّرَ بِقَدْرِهَا ، فَيَأْكُلُ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ لَا يَعْدُوهُ إِلَى الشِّبَعِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ مَعْقُولٌ فِي حُكْمِ الضَّرُورَاتِ ، فَهُوَ نَافِعٌ لِلْمُضْطَرِّ أَدَبًا وَطَبْعًا ; لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ أَنْ يَتَجَرَّأَ عَلَى تَعَوُّدِ مَا فِيهِ مَهَانَةٌ لَهُ وَضَرَرٌ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُضْطَرَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ ، أَوْ يَخْتَارُ أَقَلَّهَا ضَرَرًا ، وَقَدْ يَكُونُ أَشْهَاهَا إِلَيْهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=226فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ ، فَأَكَلَ مِنْهُ فِي مَجَاعَةٍ لَا يَجِدُ فِيهَا غَيْرَهُ ، وَهُوَ غَيْرُ مَائِلٍ إِلَيْهِ لِذَاتِهِ وَلَا جَائِرٌ فِيهِ مُتَجَاوِزٌ قَدْرَ الضَّرُورَةِ - فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لِمِثْلِهِ لَا يُؤَاخِذُهُ عَلَى ذَلِكَ ، رَحِيمٌ بِهِ يَرْحَمُهُ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ .
الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِسُنَنِ الْفِطْرَةِ وَآيَاتِ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا لِلنَّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيُظْهِرُونَ أَسْرَارَ خَلْقِ اللَّهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا ، وَإِنَّمَا الْمَحْظُورُ عَلَيْهِمْ هُوَ مَا يَضُرُّهُمْ . وَلَكِنَّ النَّاسَ لَا يَقِفُونَ عِنْدَ حُدُودِ الْفِطْرَةِ وَاتِّقَاءِ الْمَضَرَّةِ وَجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ ، بَلْ دَأْبُهُمُ الْجِنَايَةُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ ، وَالتَّصَدِّي أَحْيَانًا لِفِعْلِ مَا يَضُرُّهُمْ وَتَرْكِ مَا يَنْفَعُهُمْ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَبَاحَتْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ مِنَ الْخَبَائِثِ الضَّارَّةِ ، وَحَرَّمَتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْأَنْعَامِ بِأَوْهَامٍ بَاطِلَةٍ ; كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِبَيَانِ مَا يُحِلُّهُ اللَّهُ مِمَّا حَرَّمُوهُ ، بَعْدَ بَيَانِ مَا حَرَّمَهُ مِمَّا أَحَلُّوهُ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :