nindex.php?page=treesubj&link=8_24774شبهات الملاحدة على جعل الطهارة عبادة : تلك فوائد الطهارة الذاتية لها التي شعرت لأجلها ، وأما فوائدها الدينية ، وجعلها عبادة ودينا ، فإننا قبل بيانها ننبه أذهان المؤمنين إلى جهالة بعض المعطلين ، الذين ينتقدون جعل الطهارة من الدين ، ويزعمون أنهم ينطقون بحقائق الفلسفة ، ولا نصيب لهم منها إلا السفه والتقليد في الكفر من غير بينة ولا عذر : عمي القلوب عموا عن كل فائدة لأنهم كفروا بالله تقليدا
[ ص: 219 ] يقول هؤلاء العميان المنكوسون والأغبياء المركسون : إن الطهارة والآداب يجب أن تؤتى لمنفعتها وفائدتها المترتبة عليها ; لا لأن الله تعالى أمر بها ويثيب على فعلها ويعاقب على تركها ، ويزعمون أن الدين يحول دون هذه الفلسفة العالية التي ارتقوا إليها ، ويفسد نفس الإنسان بتخويفه من العقاب ، ويحجبه عن معرفة الواجب والعمل به لأنه الواجب - أي حجاب - ويحتجون على ذلك بأنهم هم وأمثالهم ، ممن لا دين لهم ، أنظف ثيابا وأبدانا من جمهور المتدينين ، حتى المتنطعين منهم في الطهارة والموسوسين ، ومن يعدهم الجمهور من الأولياء والقديسين . ونقول في كشف شبهتهم وإظهار جهالتهم : ( أولا ) : إن الدين الإسلامي الذى لا يوجد في الأرض دين سماوي سواه ثابت الأصل ، سامق الفرع ، لم يشرع للناس شيئا إلا ما كان فيه دفع لضرر أو مفسدة ، أو جلب لنفع أو مصلحة ، وهو يهدي الناس إلى معرفة أحكامه مع معرفة حكمها الكاشفة لهم عن فوائدها ومنافعها (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) ( 2 : 151 ) فما يتبجحون به من الاهتداء إلى وجوب القيام بالأعمال والآداب ، مع مراعاة منافعها وفوائدها ، هو مما هدى إليه الإسلام الذى عظم أمر حسن النية في جميع الأمور ، وحث على طلب الحكمة في كل عمل .
و ( ثانيا ) : إن أمر الأمم بالأعمال والآداب التي تفيدها في مصالحها الاجتماعية ، ومنافع أفرادها الشخصية ، ونهيها عن الأفعال التي تضر الأفراد والجمهور لا يقبلان ويمتثلان بمجرد تعليلهما بدفع الضر وجلب النفع كما يزعمون ; لأمرين : ( أحدهما ) أن إقناعك جميع أفراد الأمة أو أكثرها بضرر كل ما تراه ضارا ونفع كل ما تراه نافعا متعذر ، ولم يتفق لأحد من العقلاء والحكماء إرجاع أمة من الأمم عن عمل ضار ، ولا حملها على عمل نافع بمجرد دعوتهم إلى ذلك بالدليل على نفع النافع وضرر الضار ، ولا ترى أمة ولا قبيلة من البشر متفقة على شيء من ذلك إلا بسبب دعوة دينية أو تقاليد أوصلهم إليها اختبارهم الموافق لطبيعة معاشهم ، وكثيرا ما تكون هذه التقاليد المتفق عليها بين قوم مختلفا فيها عند آخرين ، أو متفقا على ضرر ما يراه أولئك نافعا ، ونفع ما يرونه ضارا .
( ثاني الأمر ) : أن مجرد الإقناع والاقتناع بضرر الضار ونفع النافع لا يوجب العمل ولا الترك ; لأنه قد يعارضه هوى النفس ولذتها فيرجح الكثيرون أو الأكثرون الهوى على المنفعة ، خصوصا إذا كانت لأمتهم لا لأشخاصهم ، وإننا نرى هؤلاء المعترضين المساكين يشربون الخمر ، وهم يعتقدون أنها ضارة ، وقد أفقر القمار بيوت أمثلهم وأشهرهم ، وأذل من أذل منهم بالدين والحجز على ما يملك ، وبيعه حتى قيل
[ ص: 220 ] إنه أمات بعضهم غما وكمدا ، ونراهم مع ذلك مفتونين به لا يتركونه ، فإذا كان هذا شأن أرقاهم علما وفهما وأدبا وفلسفة في اتباع أهوائهم التي ثبت لهم ضررها بالاختبار والعيان ، وليس وراء ذلك برهان ؛ فكيف يزعمون أنه يمكن تهذيب الأمة بالإقناع العقلي على تعذره ، وما عرفوا من أثره ؟ ! وأما ما يعنون به من النظافة وبعض الآداب ، فإنهم لا يأتونه لما عندهم من الفلسفة والعلم بنفعه ، بل قلدوا فيه قوما اهتدوا إليه بأسباب اجتماعية علمية وعملية ، وتجارب واختبارات عدة قرون . حدثني رجل من أرقى الأمة الإنكليزية أخلاقا وأدبا وعلما واستقلالا - وهو مستر
متشل أنس الذي كان وكيل نظارة المالية
بمصر - أنه لا يزال يوجد في
أوربا من لا يغتسل في سنته أو في عمره ولا مرة واحدة ، وأن الشعب الإنكليزي هو أشد الشعوب الأوربية عناية بالنظافة ، والقدوة لها فيها ، كما يظهر ذلك لكل مسافر في البواخر التي يسافر فيها كثير من الأوروبيين المختلفي الأجناس ، وأن
الإنكليز قد تعلموا الاستحمام وكثرة الغسل من
أهل الهند .
ومن دلائل تقليد هؤلاء المتفرنجين المساكين في النظافة الظاهرة ، وأنهم ليسوا فيها على شيء من العقل والفلسفة ، أنهم في غسل الأطراف يستبدلون ما يسمونه " التواليت " بالوضوء الذي هو أكمل منه وأنفع ، وأن من يعنى منهم بأسنانه يستبدل في تنظيفها " الفرشة " بمسواك الأراك ، وهو أنفع منها بشهادة أئمتهم الإفرنج ، كما قال أحد الأطباء الألمانيين لمن أوصاه بأسنانه : " عليك بشجرة
محمد " صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء في مجلة ( غازتة باريس الطبية ) تحت عنوان " عناية العرب بالفم " : " بتأثير
nindex.php?page=treesubj&link=32570السواك تصير الأسنان ناصعة البياض ، واللثة والشفتان جميلة اللون الأحمر ، إلى أن قالت : وإنه ليسوؤنا ألا تكون عنايتنا بأفواهنا ، ونحن أهل المدنية ، كعناية العرب بها ، وقالوا : إن ما في عود الأراك من المادة العفصية العطرة يشد اللثة ، ويحول دون حفر الأسنان ، وإنه يقوي المعدة على الهضم ، ويدر البول ، وقد فاتنا أن نذكر هذا عند الكلام على السواك .
و ( ثالثا ) : إذا ثبت بالعقل والبرهان والاختبار والعيان أن إقناع أمة من الأمم بالنفع والضرر متعذر ، وأن حملها على ترك الضار وعمل النافع للأفراد وللجمهور ; لأنه نافع ، غير كاف في هدايتها ، ثبت أن إصلاح شأنها بالفضيلة والآداب ، وترك المضار ، والاجتهاد في سبيل المنافع ، يتوقف على تأثير مؤثر آخر يكون له السلطان الأعلى على النفس ؛ وهو الدين ، فثبت بهذا أن الجمع بين معرفة حكم الأعمال ، وكونها طاعة لله تعالى تؤهل العامل لسعادة النفس في الآخرة ، كما يستفيد بها ما يترتب عليها من المنفعة في الدنيا ، هو الذي يرجى أن يذعن له جمهور الأمة ، فمن الناس من لا يطمئن قلبه بالإيمان والإذعان لأحكام الدين إلا إذا عرف حكمة كل أصل من أصوله ، وكل حكم من كليات
[ ص: 221 ] أحكامه ، ومنهم من يذعن لكل ما يأمره به دينه ، ولا يهمه البحث عن حكمته ; لأن استعداده لطلب الحكمة ضعيف ، ولكنه إذا قبل ذلك ، بادئ بدء ، من غير معرفة حكمته لا يلبث أن ينال حظا من هذه الحكمة عندما يتفقه في دينه كما يجب عليه ، ومهما ضعف الدين فهو أعم تأثيرا من الإقناع العقلي ، فقلما يوجد مسلم متدين لا يغتسل من الجنابة ، وما نراه من ترك كثير ممن يسمون مسلمين للكثير من مهمات الإسلام ، فسببه أنه ليس لهم من الإسلام إلا الاسم ، فلا تعلموا حقيقته ، ولا تربوا على تزكيته .
و ( رابعا ) : أن معنى كون الطهارة ، وغيرها من الأعمال الأدبية والفضائل ، دينا هو أن الوحي الإلهي يأمرنا بها لما فيها من الخير والفوائد الذاتية التي تنفعنا ، وتدرأ الضر عنا ، وهو ما بيناه أولا ، ولفوائد أخرى لا ندركها إلا بجعلها من أحكام الدين .
و ( خامسا ) : - وهذا هو المقصد ، وما قبله تمهيد ومقدمات - أن الفوائد من جعل الطهارة من أحكام الدين وعبادته أربع ، وهي كما نرى :
nindex.php?page=treesubj&link=8_24774شُبَهَاتُ الْمَلَاحِدَةِ عَلَى جَعْلِ الطَّهَارَةِ عِبَادَةً : تِلْكَ فَوَائِدُ الطَّهَارَةِ الذَّاتِيَّةِ لَهَا الَّتِي شُعِرَتْ لِأَجْلِهَا ، وَأَمَّا فَوَائِدُهَا الدِّينِيَّةُ ، وَجَعْلُهَا عِبَادَةً وَدِينًا ، فَإِنَّنَا قَبْلَ بَيَانِهَا نُنَبِّهُ أَذْهَانَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى جَهَالَةِ بَعْضِ الْمُعَطِّلِينَ ، الَّذِينَ يَنْتَقِدُونَ جَعْلَ الطَّهَارَةِ مِنَ الدِّينِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِحَقَائِقِ الْفَلْسَفَةِ ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا السَّفَهَ وَالتَّقْلِيدَ فِي الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا عُذْرٍ : عُمْيُ الْقُلُوبِ عَمُوا عَنْ كُلِّ فَائِدَةٍ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ تَقْلِيدًا
[ ص: 219 ] يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْعُمْيَانُ الْمَنْكُوسُونَ وَالْأَغْبِيَاءُ الْمَرْكِسُونَ : إِنَّ الطَّهَارَةَ وَالْآدَابَ يَجِبُ أَنْ تُؤْتَى لِمَنْفَعَتِهَا وَفَائِدَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا ; لَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا وَيُثِيبُ عَلَى فِعْلِهَا وَيُعَاقِبُ عَلَى تَرْكِهَا ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الدِّينَ يَحُولُ دُونَ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْعَالِيَةِ الَّتِي ارْتَقَوْا إِلَيْهَا ، وَيُفْسِدُ نَفْسَ الْإِنْسَانِ بِتَخْوِيفِهِ مِنَ الْعِقَابِ ، وَيَحْجُبُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْوَاجِبِ وَالْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ - أَيْ حِجَابٌ - وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ هُمْ وَأَمْثَالُهُمْ ، مِمَّنْ لَا دِينَ لَهُمْ ، أَنْظَفُ ثِيَابًا وَأَبْدَانًا مِنْ جُمْهُورِ الْمُتَدَيِّنِينَ ، حَتَّى الْمُتَنَطِّعِينَ مِنْهُمْ فِي الطَّهَارَةِ وَالْمُوَسْوِسِينَ ، وَمَنْ يَعُدُّهُمُ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ . وَنَقُولُ فِي كَشْفِ شُبْهَتِهِمْ وَإِظْهَارِ جَهَالَتِهِمْ : ( أَوَّلًا ) : إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ الذى لَا يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ دِينٌ سَمَاوِيٌّ سِوَاهُ ثَابِتُ الْأَصْلِ ، سَامِقُ الْفَرْعِ ، لَمْ يُشَرِّعْ لِلنَّاسِ شَيْئًا إِلَّا مَا كَانَ فِيهِ دَفْعٌ لِضَرَرٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ ، أَوْ جَلْبٌ لِنَفْعٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ ، وَهُوَ يَهْدِي النَّاسَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ مَعَ مَعْرِفَةِ حِكَمِهَا الْكَاشِفَةِ لَهُمْ عَنْ فَوَائِدِهَا وَمَنَافِعِهَا (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=151كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) ( 2 : 151 ) فَمَا يَتَبَجَّحُونَ بِهِ مِنْ الِاهْتِدَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ وَالْآدَابِ ، مَعَ مُرَاعَاةِ مَنَافِعِهَا وَفَوَائِدِهَا ، هُوَ مِمَّا هَدَى إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ الذى عَظَّمَ أَمْرَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ ، وَحَثَّ عَلَى طَلَبِ الْحِكْمَةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ .
وَ ( ثَانِيًا ) : إِنَّ أَمْرَ الْأُمَمِ بِالْأَعْمَالِ وَالْآدَابِ الَّتِي تُفِيدُهَا فِي مَصَالِحِهَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ ، وَمَنَافِعِ أَفْرَادِهَا الشَّخْصِيَّةِ ، وَنَهْيَهَا عَنِ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّ الْأَفْرَادَ وَالْجُمْهُورَ لَا يُقْبَلَانِ وَيُمْتَثَلَانِ بِمُجَرَّدِ تَعْلِيلِهِمَا بِدَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ كَمَا يَزْعُمُونَ ; لِأَمْرَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ إِقْنَاعَكَ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ أَوْ أَكْثَرَهَا بِضَرَرِ كُلِّ مَا تَرَاهُ ضَارًّا وَنَفْعِ كُلِّ مَا تَرَاهُ نَافِعًا مُتَعَذِّرٌ ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَالْحُكَمَاءِ إِرْجَاعُ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ عَنْ عَمَلٍ ضَارٍّ ، وَلَا حَمْلُهَا عَلَى عَمَلٍ نَافِعٍ بِمُجَرَّدِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ عَلَى نَفْعِ النَّافِعِ وَضَرَرِ الضَّارِّ ، وَلَا تَرَى أُمَّةً وَلَا قَبِيلَةً مِنَ الْبَشَرِ مُتَّفِقَةً عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِسَبَبِ دَعْوَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ تَقَالِيدَ أَوْصَلَهُمْ إِلَيْهَا اخْتِبَارُهُمُ الْمُوَافِقُ لِطَبِيعَةِ مَعَاشِهِمْ ، وَكَثِيرًا مَا تَكُونُ هَذِهِ التَّقَالِيدُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ قَوْمٍ مُخْتَلَفًا فِيهَا عِنْدَ آخَرِينَ ، أَوْ مُتَّفَقًا عَلَى ضَرَرِ مَا يَرَاهُ أُولَئِكَ نَافِعًا ، وَنَفْعِ مَا يَرَوْنَهُ ضَارًّا .
( ثَانِي الْأَمْرِ ) : أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِقْنَاعِ وَالِاقْتِنَاعِ بِضَرَرِ الضَّارِّ وَنَفْعِ النَّافِعِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَا التَّرْكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُعَارِضُهُ هَوَى النَّفْسِ وَلَذَّتُهَا فَيُرَجِّحُ الْكَثِيرُونَ أَوِ الْأَكْثَرُونَ الْهَوَى عَلَى الْمَنْفَعَةِ ، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ لِأُمَّتِهِمْ لَا لِأَشْخَاصِهِمْ ، وَإِنَّنَا نَرَى هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِضِينَ الْمَسَاكِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا ضَارَّةٌ ، وَقَدْ أَفْقَرَ الْقِمَارُ بُيُوتَ أَمْثَلِهِمْ وَأَشْهَرِهِمْ ، وَأَذَلَّ مَنْ أَذَلَّ مِنْهُمْ بِالدَّيْنِ وَالْحَجْزِ عَلَى مَا يَمْلِكُ ، وَبَيْعِهِ حَتَّى قِيلَ
[ ص: 220 ] إِنَّهُ أَمَاتَ بَعْضَهُمْ غَمًّا وَكَمَدًا ، وَنَرَاهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَفْتُونِينَ بِهِ لَا يَتْرُكُونَهُ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ أَرْقَاهُمْ عِلْمًا وَفَهْمًا وَأَدَبًا وَفَلْسَفَةً فِي اتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمُ الَّتِي ثَبَتَ لَهُمْ ضَرَرُهَا بِالِاخْتِبَارِ وَالْعِيَانِ ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ بُرْهَانٌ ؛ فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَهْذِيبُ الْأُمَّةِ بِالْإِقْنَاعِ الْعَقْلِيِّ عَلَى تَعَذُّرِهِ ، وَمَا عَرَفُوا مِنْ أَثَرِهِ ؟ ! وَأَمَّا مَا يَعْنُونَ بِهِ مِنَ النَّظَافَةِ وَبَعْضِ الْآدَابِ ، فَإِنَّهُمْ لَا يَأْتُونَهُ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْفَلْسَفَةِ وَالْعِلْمِ بِنَفْعِهِ ، بَلْ قَلَّدُوا فِيهِ قَوْمًا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِأَسْبَابٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ عِلْمِيَّةٍ وَعَمَلِيَّةٍ ، وَتَجَارِبَ وَاخْتِبَارَاتٍ عِدَّةَ قُرُونٍ . حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَرْقَى الْأُمَّةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ أَخْلَاقًا وَأَدَبًا وَعِلْمًا وَاسْتِقْلَالًا - وَهُوَ مِسْتَرْ
مِتْشِل أَنَس الَّذِي كَانَ وَكِيلَ نِظَارَةِ الْمَالِيَّةِ
بِمِصْرَ - أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُوجَدُ فِي
أُورُبَّا مَنْ لَا يَغْتَسِلُ فِي سَنَتِهِ أَوْ فِي عُمْرِهِ وَلَا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَأَنَّ الشَّعْبَ الْإِنْكِلِيزِيَّ هُوَ أَشَدُّ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ عِنَايَةً بِالنَّظَافَةِ ، وَالْقُدْوَةُ لَهَا فِيهَا ، كَمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ فِي الْبَوَاخِرِ الَّتِي يُسَافِرُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْأُورُوبِّيِّينَ الْمُخْتَلِفِي الْأَجْنَاسِ ، وَأَنَّ
الْإِنْكِلِيزَ قَدْ تَعَلَّمُوا الِاسْتِحْمَامَ وَكَثْرَةَ الْغُسْلِ مِنْ
أَهْلِ الْهِنْدِ .
وَمِنْ دَلَائِلَ تَقْلِيدِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الْمَسَاكِينِ فِي النَّظَافَةِ الظَّاهِرَةِ ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِيهَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَلْسَفَةِ ، أَنَّهُمْ فِي غَسْلِ الْأَطْرَافِ يَسْتَبْدِلُونَ مَا يُسَمُّونَهُ " التُّوَالِيتَّ " بِالْوُضُوءِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَنْفَعُ ، وَأَنَّ مَنْ يُعْنَى مِنْهُمْ بِأَسْنَانِهِ يَسْتَبْدِلُ فِي تَنْظِيفِهَا " الْفُرْشَةَ " بِمِسْوَاكِ الْأَرَاكِ ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْهَا بِشَهَادَةِ أَئِمَّتِهِمُ الْإِفْرِنْجِ ، كَمَا قَالَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ الْأَلْمَانِيِّينَ لِمَنْ أَوْصَاهُ بِأَسْنَانِهِ : " عَلَيْكَ بِشَجَرَةِ
مُحَمَّدٍ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ ( غَازِتَةِ بَارِيسَ الطِّبِّيَّةِ ) تَحْتَ عُنْوَانِ " عِنَايَةِ الْعَرَبِ بِالْفَمِ " : " بِتَأْثِيرِ
nindex.php?page=treesubj&link=32570السِّوَاكِ تَصِيرُ الْأَسْنَانُ نَاصِعَةَ الْبَيَاضِ ، وَاللِّثَةُ وَالشَّفَتَانِ جَمِيلَةَ اللَّوْنِ الْأَحْمَرِ ، إِلَى أَنْ قَالَتْ : وَإِنَّهُ لَيَسُوؤُنَا أَلَّا تَكُونَ عِنَايَتُنَا بِأَفْوَاهِنَا ، وَنَحْنُ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ ، كَعِنَايَةِ الْعَرَبِ بِهَا ، وَقَالُوا : إِنَّ مَا فِي عُودِ الْأَرَاكِ مِنَ الْمَادَّةِ الْعَفَصِيَّةِ الْعَطِرَةِ يَشُدُّ اللِّثَةَ ، وَيَحُولُ دُونَ حَفْرِ الْأَسْنَانِ ، وَإِنَّهُ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ عَلَى الْهَضْمِ ، وَيَدِرُّ الْبَوْلَ ، وَقَدْ فَاتَنَا أَنَّ نَذْكُرَ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى السِّوَاكِ .
وَ ( ثَالِثًا ) : إِذَا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالِاخْتِبَارِ وَالْعِيَانِ أَنَّ إِقْنَاعَ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ مُتَعَذِّرٌ ، وَأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى تَرْكِ الضَّارِّ وَعَمَلِ النَّافِعِ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْجُمْهُورِ ; لِأَنَّهُ نَافِعٌ ، غَيْرُ كَافٍ فِي هِدَايَتِهَا ، ثَبَتَ أَنَّ إِصْلَاحَ شَأْنِهَا بِالْفَضِيلَةِ وَالْآدَابِ ، وَتَرْكِ الْمَضَارِّ ، وَالِاجْتِهَادِ فِي سَبِيلِ الْمَنَافِعِ ، يَتَوَقَّفُ عَلَى تَأْثِيرِ مُؤَثِّرٍ آخَرَ يَكُونُ لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى النَّفْسِ ؛ وَهُوَ الدِّينُ ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْأَعْمَالِ ، وَكَوْنِهَا طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى تُؤَهِّلُ الْعَامِلَ لِسَعَادَةِ النَّفْسِ فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا يَسْتَفِيدُ بِهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّنْيَا ، هُوَ الَّذِي يُرْجَى أَنْ يُذْعِنَ لَهُ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ لِأَحْكَامِ الدِّينِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ حِكْمَةَ كُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِ ، وَكُلِّ حُكْمٍ مِنْ كُلِّيَّاتِ
[ ص: 221 ] أَحْكَامِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُذْعِنُ لِكُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ دِينُهُ ، وَلَا يُهِمُّهُ الْبَحْثُ عَنْ حِكْمَتِهِ ; لِأَنَّ اسْتِعْدَادَهُ لِطَلَبِ الْحِكْمَةِ ضَعِيفٌ ، وَلَكِنَّهُ إِذَا قَبِلَ ذَلِكَ ، بَادِئَ بَدْءٍ ، مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنَالَ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ عِنْدَمَا يَتَفَقَّهُ فِي دِينِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَمَهْمَا ضَعُفَ الدِّينُ فَهُوَ أَعَمُّ تَأْثِيرًا مِنَ الْإِقْنَاعِ الْعَقْلِيِّ ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ مُتَدَيِّنٌ لَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ ، وَمَا نَرَاهُ مِنْ تَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ لِلْكَثِيرِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْإِسْلَامِ ، فَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الِاسْمُ ، فَلَا تَعَلَّمُوا حَقِيقَتَهُ ، وَلَا تَرَبَّوْا عَلَى تَزْكِيَتِهِ .
وَ ( رَابِعًا ) : أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْفَضَائِلَ ، دِينًا هُوَ أَنَّ الْوَحْيَ الْإِلَهِيَّ يَأْمُرُنَا بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَوَائِدِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي تَنْفَعُنَا ، وَتَدْرَأُ الضُّرَّ عَنَّا ، وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا ، وَلِفَوَائِدَ أُخْرَى لَا نُدْرِكُهَا إِلَّا بِجَعْلِهَا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ .
وَ ( خَامِسًا ) : - وَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ ، وَمَا قَبْلُهُ تَمْهِيدٌ وَمُقْدِمَاتٌ - أَنَّ الْفَوَائِدَ مِنْ جَعْلِ الطَّهَارَةِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَعِبَادَتِهِ أَرْبَعٌ ، وَهِيَ كَمَا نَرَى :