( فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين     ) الفرق : الفلق والفصل بين الشيئين أو الأشياء ، ومنه فرق الشعر ، ويطلق على القضاء وفصل الخصومات ، وذلك قسمان حسي ومعنوي ، ومعنى الجملة هنا : فافصل بيننا - يعني نفسه وأخاه - وبين القوم الفاسقين عن الطاعة ، وهم جماعة بني إسرائيل  ، بقضاء تقضيه بيننا ، إذ صرنا خصما لهم وصاروا خصما لنا ، وقيل معناها : إذا أخذتهم بالعقاب على فسوقهم ، فلا تعاقبنا معهم في الدنيا ، وقيل الآخرة ، والأول هو المختار الموافق لقوله : ( قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض     ) أي قال الله لموسى  مجيبا لدعائه إجابة متصلة به : فإنها - أي الأرض المقدسة    - محرمة على بني إسرائيل  تحريما فعليا ، لا تكليفيا شرعيا ، مدة أربعين سنة يتيهون في الأرض ; أي يسيرون في برية من الأرض ، تائهين متحيرين ، لا يدرون أين ينتهون في سيرهم ، فالتيه : الحيرة ، يقال : تاه يتيه ، ويتوه لغة ، ويقال : مفازة تيهاء : إذا كان سالكوها يتحيرون فيها لعدم الأعلام التي يهتدى بها . والتحريم : المنع . ( فلا تأس على القوم الفاسقين     ) أي فلا تحزن عليهم لأنهم فاسقون مستحقون لهذا التأديب الإلهي ، وسنبين هذا وحكمة الله تعالى فيه . وقال الراغب    : الأسى : الحزن ، وحقيقته إتباع الفائت الغم ، يقال : أسيت عليه أسى ، وأسيت له . 
ذكرنا قبل أن هذه القصة مفصلة في الفصلين الثالث عشر والرابع عشر من سفر العدد ، وذكرنا شيئا منهما ، وفي الفصل الرابع عشر أن بني إسرائيل  لما تمردوا وعصوا أمر ربهم سقط موسى  وهارون  على وجوههما أمامهم ، وأن يوشع  وكالب  مزقا ثيابهما ونهيا الشعب عن التمرد ، وعن الخوف من الجبارين ليطيع ، فهم الشعب برجمهما ، وظهر مجد الرب لموسى  في خيمة الاجتماع ( 11 وقال الرب لموسى    : حتى متى يهينني هذا الشعب ؟   [ ص: 278 ] وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم ؟ 12 إني أضربهم بالوباء وأبيدهم ، وأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم ) فشفع موسى  فيهم لئلا يشمت بهم المصريون  وبه ، فقبل الرب شفاعته ، ثم قال ( 22 إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر  وفي البرية ، وجربوني الآن عشر مرات ، ولم يسمعوا قولي 23 لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم ، وجميع الذين أهانوني لا يرونها ) واستثنى الرب كالب  فقط ، ثم قال لموسى  وهارون    ( 27 حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي ؟ قد سمعت تذمر بني إسرائيل  الذي يتذمرونه علي 28 قل لهم " حي أنا " يقول الرب لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني 29 في هذا القفر تسقط جثثكم . جميع المعدودين منكم حسب عددكم ، من ابن عشرين سنة فصاعدا ، الذين تذمروا علي 30 لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لأسكننكم فيها ما عدا كالب بن يفنة  ويشوع بن نون    31 وأما أطفالكم الذين قلتم إنهم يكونون غنيمة فإني سأدخلهم ، فيعرفون الأرض التي احتقرتموها 32 فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر 33 ، وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة ، ويحملون فجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر 34 كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض أربعين يوما ، للسنة يوم تحملون ذنوبكم ; أي أربعين سنة ، فتعرفون ابتعادي 35 أنا الرب قد تكلمت لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة علي ، في هذا القفر يفنون ، وفيه يموتون ) . 
لا نبحث هنا في هذه العبارات التي أثبتناها ، ولا في ترك ما تركناه من الفصل في موضوعها ، لا من حيث التكرار ، ولا من حيث الاختلاف والتعارض ، ولا من حيث تنزيه الرب تعالى ولا نبحث عن كاتب هذه الأسفار بعد سبي بني إسرائيل  ؛ وإنما نكتفي بما ذكرناه شاهدا ، ونقول كلمة في حكمة هذا العقاب ، تبصرة وذكرى لأولي الألباب ، وهي : 
إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد  ، وتساس بالظلم والاضطهاد ، تفسد أخلاقها ، وتذل نفوسها ، ويذهب بأسها ، وتضرب عليها الذلة والمسكنة ، وتألف الخضوع ، وتأنس بالمهانة والخنوع ، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة حتى تكون كالغرائز الفطرية ، والطبائع الخلقية . إذا أخرجت صاحبها من بيئتها ورفعت عن رقبته نيرها ، ألفيته ينزع بطبعه إليها ، ويتفلت منك ليتقحم فيها ، وهذا شأن البشر في كل ما يألفونه ، ويجرون عليه من خير وشر ، وإيمان وكفر ، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا لهدايته وضلال الراسخين في الكفر من أمة الدعوة ، فقال " مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار   [ ص: 279 ] يقعن فيها ، ويجعل يحجزهن ، ويغلبنه فيتقحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تقحمون فيها   " رواه الشيخان . 
أفسد ظلم الفراعنة  فطرة بني إسرائيل  في مصر  ، وطبع عليها طابع المهانة والذل ، وقد أراهم الله تعالى ما لم ير أحدا من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى  عليه السلام ، وبين لهم أنه أخرجهم من مصر  لينقذهم من الذل والعبودية والعذاب إلى الحرية والاستقلال والعز والنعيم ، وكانوا على هذا كله إذا أصابهم نصب أو جوع أو كلفوا أمرا يشق عليهم يتطيرون بموسى  ويتململون منه ، ويذكرون مصر  ويحنون إلى العودة إليها ، ولما غاب عنهم أياما لمناجاة ربه ، اتخذوا لهم عجلا من حليهم الذي هو أحب شيء إليهم وعبدوه ، لما رسخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين  ، وإعظام معبودهم العجل ( أبيس ) وكان الله تعالى يعلم أنهم لا تطيعهم نفوسهم المهينة على دخول أرض الجبارين ، وأن وعده تعالى لأجدادهم إنما يتم على وفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري ، إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق ، ونشأ بعده جيل جديد في حرية البداوة وعدل الشريعة ونور الآيات الإلهية ، وما كان الله ليهلك قوما بذنوبهم حتى يبين لهم حجته عليهم ; ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم ، وعلى هذه السنة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل  بدخول الأرض المقدسة  بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم فأبوا واستكبروا ، فأخذهم الله تعالى بذنوبهم ، وأنشأ من بعدهم قوما آخرين ، جعلهم هم الأئمة الوارثين ، جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم الموافقة لسنته وشريعته المنزلة عليهم ; فهذا بيان حكمة عصيانهم لموسى  بعد ما جاءهم بالبينات ، وحكمة حرمان الله تعالى لذلك الجيل منهم من الأرض المقدسة    . 
فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا ، ونعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد ، إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها ، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها ، وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياء ، وإنما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء ، الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات ، ومن يضلل الله فما له من هاد    . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					