( بحث في
nindex.php?page=treesubj&link=28803عدم الحكم بما أنزل الله وكونه كفرا وظلما وفسقا ) الكفر والظلم والفسق كلمات تتوارد في القرآن على حقيقة واحدة ، وترد بمعان مختلفة كما بيناه في تفسير (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=254والكافرون هم الظالمون 2 : 254 ) من سورة البقرة . وقد اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة ، وما ينافي دين الله الحق ، دون لفظي الظلم والفسق ، ولا يسع أحدا منهم إنكار إطلاق القرآن لفظ الكفر على ما ليس كفرا في عرفهم ، ولكنهم يقولون : " كفر دون كفر " ، ولا إطلاقه لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم ، وما كل ظلم أو فسق يعد كفرا عندهم ، بل لا يطلقون لفظ الكفر على شيء مما يسمونه ظلما أو فسقا ; لأجل هذا كان الحكم القاطع بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله محلا للبحث والتأويل عند من يوفق بين عرفه ونصوص القرآن .
وإذا رجعنا إلى المأثور في تفسير الآيات نراهم نقلوا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه أقوالا ، منها قوله : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، ومنها أن الآيات الثلاث في
اليهود خاصة ، ليس في أهل الإسلام منها شيء ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي أن الأولى والثانية في
اليهود ، والثالثة في
النصارى ، وهذا هو الظاهر ، ولكنه لا ينفي أن ينال هذا الوعيد كل من كان منا مثلهم ، وأعرض عن كتابه إعراضهم عن كتبهم ، والقرآن عبرة يعبر به العقل من فهم الشيء إلى مثله . وقد ذكرت هذه الآيات عند
nindex.php?page=showalam&ids=21حذيفة بن اليمان ، فقال رجل : إن هذا في
بني إسرائيل . قال
حذيفة : نعم الإخوة لكم
بنو إسرائيل ; أن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك ( أي سير النعل ) عزاه في الدر المنثور إلى
عبد الرزاق ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم ،
والحاكم ، وصححه .
( قال ) : وأخرج
ابن المنذر ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، قال : نعم القوم أنتم ; إن كان ما كان من حلو فهو لكم ، وما كان من مر فهو لأهل الكتاب ، كأنه يرى أن ذلك في المسلمين . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16298عبد بن حميد عن
حكيم بن جبير أنه سأل
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير عن قوله تعالى : " ومن لم يحكم . . . ومن لم يحكم . . . ومن لم يحكم " ، قال : فقلت : زعم قوم أنها نزلت على
بني إسرائيل ولم تنزل علينا ، قال : اقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال : لا بل نزلت علينا ، ثم لقيت
مقسما مولى ابن عباس فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة ، قلت : زعم قوم أنها نزلت على
بني إسرائيل ولم تنزل علينا ، قال : إنه نزل على
بني إسرائيل ونزل علينا ، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم . ثم دخلت على
علي بن الحسين فسألته ، وذكر أنه ذكر له ما قاله
سعيد ومقسم ، قال :
[ ص: 334 ] قال : صدق ، ولكنه كفر ليس ككفر الشرك ، وظلم ليس كظلم الشرك ، وفسق ليس كفسق الشرك ، فلقيت
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير فأخبرته بما قال ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير لابنه : كيف رأيته ؟ قال : لقد وجدت له فضلا عظيما عليك وعلى
مقسم " ، والمراد أن عدم الحكم بما أنزل الله أو تركه إلى غيره - وهو المراد - لا يعد كفرا بمعنى الخروج من الدين ، بل بمعنى أكبر المعاصي .
وأقول : إن قول من قال : إن هذه الآيات أو خواتم الآيات نزلت على
بني إسرائيل . يراد به أنها نزلت في شأنهم ، لا أنها في كتابهم ; إذ لا شيء يدل على أنها محكية ، وإلا فهو خطأ ، والأوليان منها في سياق الكلام على
اليهود ، والثالثة في سياق الكلام على
النصارى ، لا يجوز فيها غير ذلك ، وعبارتها عامة ، لا دليل فيها على الخصوصية ، ولا مانع يمنع من إرادة الكفر الأكبر في الأولى ، وكذا الأخريان ، إذا كان الإعراض عن الحكم بما أنزل الله ناشئا عن استقباحه وعدم الإذعان له ، وتفضيل غيره عليه ، وهذا هو المتبادر من السياق في الأولى بمعونة سبب النزول كما رأيت في تصويرنا للمعنى .
وإذا تأملت الآيات أدنى تأمل ، تظهر لك نكتة التعبير بوصف الكفر في الأولى ، وبوصف الظلم في الثانية ، وبوصف الفسوق في الثالثة ، فالألفاظ وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء . ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به ، والوصية بحفظه . وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له ، رغبة عن هدايته ونوره ، مؤثرا لغيره عليه ، فهو الكافر به ، وهذا واضح ، لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به ، أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى الله ، وهذا هو العاصي بترك الحكم ، الذي يتحامى أهل السنة القول بتكفيره ، والسياق يدل على ما ذكرنا من التعليل .
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين ، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة ، فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه ، كما هو ظاهر .
وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل ، وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته ، لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط ، فمن لم يحكم بهذه الهداية ، ممن خوطبوا بها ، فهم الفاسقون بالمعصية والخروج من محيط تأديب الشريعة .
وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين من قبلهم ، وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل الله عليهم ، فالذين يتركون ما أنزل الله في كتابه
[ ص: 335 ] من الأحكام ، من غير تأويل يعتقدون صحته ، فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى في الآيات الثلاث ، أو في بعضها ، كل بحسب حاله ، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له ; لاستقباحه إياه ، وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه ، فهو كافر قطعا ، ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم ، إن كان في ذلك إضاعة الحق ، أو ترك العدل والمساواة فيه ، وإلا فهو فاسق فقط ; إذ لفظ الفسق أعم هذه الألفاظ ، فكل كافر وكل ظالم فاسق ، ولا عكس ، وحكم الله العام - المطلق الشامل لما ورد فيه النص ولغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال هو العدل ، فحيثما وجد العدل فهناك حكم الله كما قال أحد الأعلام .
ولكن متى وجد النص القطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره ، إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه كنص رفع الحرج في باب الضرورات . وقد كان
مولوي نور الدين مفتي
بنجاب من
الهند ، سأل شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى عن أسئلة ، منها مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية ، فحولها إلي الأستاذ لأجيب عنها ، كما كان يفعل في أمثالها أحيانا ، وهذا نص جوابي عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية في
الهند ، وهو الفتوى الـ 77 من فتاوى المجلد السابع من المنار .
( بَحْثٌ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28803عَدَمِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَكَوْنِهِ كُفْرًا وَظُلْمًا وَفِسْقًا ) الْكُفْرُ وَالظُّلْمُ وَالْفِسْقُ كَلِمَاتٌ تَتَوَارَدُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَتَرِدُ بِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=254وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ 2 : 254 ) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ . وَقَدِ اصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ عَلَى التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الْكُفْرِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ ، وَمَا يُنَافِي دِينَ اللَّهِ الْحَقَّ ، دُونَ لَفْظَيِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِنْكَارُ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ لَفْظَ الْكُفْرِ عَلَى مَا لَيْسَ كُفْرًا فِي عُرْفِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ : " كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ " ، وَلَا إِطْلَاقِهِ لَفْظَيِ الظُّلْمِ وَالْفِسْقِ عَلَى مَا هُوَ كُفْرٌ فِي عُرْفِهِمْ ، وَمَا كُلُّ ظُلْمٍ أَوْ فِسْقٍ يُعَدُّ كُفْرًا عِنْدَهُمْ ، بَلْ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكُفْرِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ ظُلْمًا أَوْ فِسْقًا ; لِأَجْلِ هَذَا كَانَ الْحُكْمُ الْقَاطِعُ بِالْكُفْرِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مَحَلًّا لِلْبَحْثِ وَالتَّأْوِيلِ عِنْدَ مَنْ يُوَفِّقُ بَيْنَ عُرْفِهِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ .
وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ نَرَاهُمْ نَقَلُوا عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقْوَالًا ، مِنْهَا قَوْلُهُ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ فِي
الْيَهُودِ خَاصَّةً ، لَيْسَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَرُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ فِي
الْيَهُودِ ، وَالثَّالِثَةَ فِي
النَّصَارَى ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْفِي أَنْ يَنَالَ هَذَا الْوَعِيدُ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنَّا مِثْلَهُمْ ، وَأَعْرَضَ عَنْ كِتَابِهِ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ كُتُبِهِمْ ، وَالْقُرْآنُ عِبْرَةٌ يَعْبُرُ بِهِ الْعَقْلُ مِنْ فَهْمِ الشَّيْءِ إِلَى مِثْلِهِ . وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=21حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، فَقَالَ رَجُلٌ : إِنَّ هَذَا فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ . قَالَ
حُذَيْفَةُ : نِعْمَ الْإِخْوَةُ لَكُمْ
بَنُو إِسْرَائِيلَ ; أَنْ كَانَ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ ، كَلَّا وَاللَّهِ لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُمْ قَدَّ الشِّرَاكِ ( أَيْ سَيْرَ النَّعْلِ ) عَزَاهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ إِلَى
عَبْدِ الرَّزَّاقِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وَابْنِ جَرِيرٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ ،
وَالْحَاكِمِ ، وَصَحَّحَهُ .
( قَالَ ) : وَأَخْرَجَ
ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ ; إِنْ كَانَ مَا كَانَ مِنْ حُلْوٍ فَهُوَ لَكُمْ ، وَمَا كَانَ مِنْ مُرٍّ فَهُوَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ، كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ . وَأَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=16298عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ
حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سَأَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ . . . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ . . . وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ " ، قَالَ : فَقُلْتُ : زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْنَا ، قَالَ : اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا ، فَقَالَ : لَا بَلْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا ، ثُمَّ لَقِيتُ
مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ ، قُلْتُ : زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَنْزِلْ عَلَيْنَا ، قَالَ : إِنَّهُ نَزَلَ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَنَزَلَ عَلَيْنَا ، وَمَا نَزَلَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ فَهُوَ لَنَا وَلَهُمْ . ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَسَأَلْتُهُ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ مَا قَالَهُ
سَعِيدٌ وَمِقْسَمٌ ، قَالَ :
[ ص: 334 ] قَالَ : صَدَقَ ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ لَيْسَ كَكُفْرِ الشِّرْكِ ، وَظُلْمٌ لَيْسَ كَظُلْمِ الشِّرْكِ ، وَفِسْقٌ لَيْسَ كَفِسْقِ الشِّرْكِ ، فَلَقِيتُ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِابْنِهِ : كَيْفَ رَأَيْتَهُ ؟ قَالَ : لَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ فَضْلًا عَظِيمًا عَلَيْكَ وَعَلَى
مِقْسَمٍ " ، وَالْمُرَادُ أَنَّ عَدَمَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ تَرْكَهُ إِلَى غَيْرِهِ - وَهُوَ الْمُرَادُ - لَا يُعَدُّ كُفْرًا بِمَعْنَى الْخُرُوجِ مِنَ الدِّينِ ، بَلْ بِمَعْنَى أَكْبَرِ الْمَعَاصِي .
وَأَقُولُ : إِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أَوْ خَوَاتِمِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ . يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمْ ، لَا أَنَّهَا فِي كِتَابِهِمْ ; إِذْ لَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَحْكِيَّةٌ ، وَإِلَّا فَهُوَ خَطَأٌ ، وَالْأُولَيَانِ مِنْهَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى
الْيَهُودِ ، وَالثَّالِثَةُ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى
النَّصَارَى ، لَا يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ ، وَعِبَارَتُهَا عَامَّةٌ ، لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ ، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ إِرَادَةِ الْكُفْرِ الْأَكْبَرِ فِي الْأُولَى ، وَكَذَا الْأُخْرَيَانِ ، إِذَا كَانَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ نَاشِئًا عَنِ اسْتِقْبَاحِهِ وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ ، وَتَفْضِيلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ السِّيَاقِ فِي الْأُولَى بِمَعُونَةِ سَبَبِ النُّزُولِ كَمَا رَأَيْتَ فِي تَصْوِيرِنَا لِلْمَعْنَى .
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْآيَاتِ أَدْنَى تَأَمُّلٍ ، تَظْهَرُ لَكَ نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ بِوَصْفِ الْكُفْرِ فِي الْأُولَى ، وَبِوَصْفِ الظُّلْمِ فِي الثَّانِيَةِ ، وَبِوَصْفِ الْفُسُوقِ فِي الثَّالِثَةِ ، فَالْأَلْفَاظُ وَرَدَتْ بِمَعَانِيهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مُوَافِقَةً لِاصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ . فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى كَانَ الْكَلَامُ فِي التَّشْرِيعِ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْهُدَى وَالنُّورِ وَالْتِزَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَحُكَمَاءِ الْعُلَمَاءِ الْعَمَلَ وَالْحُكْمَ بِهِ ، وَالْوَصِيَّةَ بِحِفْظِهِ . وَخُتِمَ الْكَلَامُ بِبَيَانِ أَنَّ كُلَّ مُعْرِضٍ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ لِعَدَمِ الْإِذْعَانِ لَهُ ، رَغْبَةً عَنْ هِدَايَتِهِ وَنُورِهِ ، مُؤْثِرًا لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ الْكَافِرُ بِهِ ، وَهَذَا وَاضِحٌ ، لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ ، أَوْ مَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بِهِ عَنْ جَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ إِلَى اللَّهِ ، وَهَذَا هُوَ الْعَاصِي بِتَرْكِ الْحُكْمِ ، الَّذِي يَتَحَامَى أَهْلُ السُّنَّةِ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِهِ ، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَلَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ فِيهَا فِي أَصْلِ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْإِيمَانِ وَتُرْجُمَانُ الدِّينِ ، بَلْ فِي عِقَابِ الْمُعْتَدِينَ عَلَى الْأَنْفُسِ أَوِ الْأَعْضَاءِ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ ، فَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ الظَّالِمُ فِي حُكْمِهِ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ فِي بَيَانِ هِدَايَةِ الْإِنْجِيلِ ، وَأَكْثَرُهَا مَوَاعِظُ وَآدَابٌ وَتَرْغِيبٌ فِي إِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُطَابِقُ مُرَادَ الشَّارِعِ وَحِكْمَتَهُ ، لَا بِحَسَبِ ظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ فَقَطْ ، فَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ ، مِمَّنْ خُوطِبُوا بِهَا ، فَهُمُ الْفَاسِقُونَ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مُحِيطِ تَأْدِيبِ الشَّرِيعَةِ .
وَقَدِ اسْتَحْدَثَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ نَحْوَ مَا اسْتَحْدَثَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَتَرَكُوا بِالْحُكْمِ بِهَا بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، فَالَّذِينَ يَتْرُكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
[ ص: 335 ] مِنَ الْأَحْكَامِ ، مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَا قَالَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ ، أَوْ فِي بَعْضِهَا ، كُلٌّ بِحَسَبِ حَالِهِ ، فَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْحُكْمِ بِحَدِّ السَّرِقَةِ أَوِ الْقَذْفِ أَوِ الزِّنَا غَيْرَ مُذْعِنٍ لَهُ ; لِاسْتِقْبَاحِهِ إِيَّاهُ ، وَتَفْضِيلِ غَيْرِهِ مِنْ أَوْضَاعِ الْبَشَرِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى فَهُوَ ظَالِمٌ ، إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ إِضَاعَةُ الْحَقِّ ، أَوْ تَرْكُ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ ، وَإِلَّا فَهُوَ فَاسِقٌ فَقَطْ ; إِذْ لَفَظُ الْفِسْقِ أَعَمُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، فَكُلُّ كَافِرٍ وَكُلُّ ظَالِمٍ فَاسِقٌ ، وَلَا عَكْسَ ، وَحُكْمُ اللَّهِ الْعَامُّ - الْمُطْلَقُ الشَّامِلُ لِمَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَلِغَيْرِهِ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ هُوَ الْعَدْلُ ، فَحَيْثُمَا وُجِدَ الْعَدْلُ فَهُنَاكَ حُكْمُ اللَّهِ كَمَا قَالَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ .
وَلَكِنْ مَتَى وُجِدَ النَّصُّ الْقَطْعِيُّ الثُّبُوتِ وَالدَّلَالَةِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، إِلَّا إِذَا عَارَضَهُ نَصٌّ آخَرُ اقْتَضَى تَرْجِيحَهُ عَلَيْهِ كَنَصِّ رَفْعِ الْحَرَجِ فِي بَابِ الضَّرُورَاتِ . وَقَدْ كَانَ
مَوْلَوِيُّ نُورُ الدِّينِ مُفْتِي
بِنْجَابَ مِنَ
الْهِنْدِ ، سَأَلَ شَيْخَنَا الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَسْئِلَةٍ ، مِنْهَا مَسْأَلَةُ الْحُكْمِ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ ، فَحَوَّلَهَا إِلَيَّ الْأُسْتَاذُ لِأُجِيبَ عَنْهَا ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي أَمْثَالِهَا أَحْيَانًا ، وَهَذَا نَصُّ جَوَابِي عَنْ مَسْأَلَةِ الْحُكْمِ بِالْقَوَانِينِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ فِي
الْهِنْدِ ، وَهُوَ الْفَتْوَى الْـ 77 مِنْ فَتَاوَى الْمُجَلَّدِ السَّابِعِ مِنَ الْمَنَارِ .