قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48nindex.php?page=treesubj&link=28976_28783ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) أي ولو شاء تعالى أن يجعلكم أيها الناس أمة واحدة ، ذات شريعة واحدة ومنهاج واحد في سلوكها والعمل بها ، لفعل بأن خلقكم على استعداد واحد ، وألزمكم حالة واحدة في أخلاقكم وأطوار معيشتكم ، بحيث تصلح لها شريعة واحدة في كل زمن ، وحينئذ تكونون كسائر أنواع الخلق التي يقف استعدادها عند حد معين ; كالطير أو النمل أو النحل .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ) أي ولكن لم يشأ ذلك ، بل جعلكم نوعا ممتازا يرتقي في أطوار الحياة بالتدريج ، وعلى سنة الارتقاء ، فلا تصلح له شريعة واحدة في كل طور من أطوار حياته في جميع أقوامه وجماعاته ، وآتاكم من الشرائع والمناهج في الفهم والهداية في طور طفولية النوع وغلبة المادية عليه ما يصلح له ، وفي طور تمييزه وغلبة الوجدانات النفسية عليه ما يصلح له ، حتى إذا ما بلغ النوع سن الرشد ومستوى استقلال العقل بظهور ذلك في بعض الأقوام بالقوة ، وفي بعضها بالفعل ، ختم له الشرائع والمناهج بالشريعة المحمدية المبنية على أصل الاجتهاد ، وجعل أمره في القضاء والسياسة والاجتماع شورى بين أولي الأمر من أهل المكانة والعلم والرأي (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48ليبلوكم ) أي ليعاملكم بذلك معاملة المختبر لاستعدادكم ( فيما آتاكم ) أي أعطاكم من الشرائع والمناهج ، فتظهر حكمته في تمييزكم على غيركم من أنواع الخلق في أرضكم ، وهو كونكم جامعين بين الحيوانية والملكية .
[ ص: 347 ] يظهر مثال ما حققناه في الشرائع والمناهج الأخيرة : اليهودية والنصرانية والإسلامية ، فاليهودية شريعة مبنية على الشدة في تربية قوم ألفوا العبودية والذل ، وفقدوا الاستقلال في الإرادة والرأي ; فهي مادية جسدية شديدة ليس لأهلها فيها رأي ولا اجتهاد ، فالقائم بتنفيذها كالمربي للطفل العارم الشكس .
والمسيحية يهودية من جهة وروحانية شديدة من جهة أخرى ، فهي تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم الجسدية والاجتماعية للمتغلبين من أهل السلطة والحكم ، مهما كانوا عليه من الفساد والظلم ، وأن يقبلوا كل ما يسامون به من الخسف والذل ، ويجعلوا عنايتهم كلها بالأمور الروحية ، وتربية العواطف والوجدانات النفسية ; فهي تربية للنوع في طور التمييز عندما كان كالغلام اليافع الذي تؤثر في نفسه الخطابيات والشعريات .
وأما الإسلامية فهي القائمة على أساس العقل والاستقلال ، المحققة لمعنى الإنسانية بالجمع بين مصالح الروح والجسد ، وبهذا يصدق عليها قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ( 2 : 143 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=110كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ( 3 : 110 ) فهي مبنية على أساس الاستقلال البشري اللائق بسن الرشد وطور ارتقاء العقل ; ولذلك كانت الأحكام الدنيوية في كتابها قليلة ، وفرض فيها الاجتهاد ; لأن الراشد يفوض إليه أمر نفسه ، فلا يقيد إلا بما يمكن أن يعقله من الأصول القطعية ، ومن مقومات أمته الملية التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان ، ومن أحب زيادة التفصيل في هذا البحث فليرجع إلى تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين ) ( 2 : 213 ) الآية ( راجع ص22 وما بعدها ج 2 ط الهيئة ) وتفسير : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=33ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ) ( 43 : 33 ) في ( ص827 م 15 من المنار ) وإلى فصل ( الدين الإسلامي أو الإسلام ) من رسالة التوحيد لشيخنا الأستاذ الإمام .
ومن فقه ما حققناه علم أن حجة الله تعالى بإكمال الله الدين بالقرآن ، وختمه النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وجعل شريعته عامة دائمة ، لا تظهر إلا ببناء هذا الدين على أساس العقل ، وبناء على هذه الشريعة على أساس الاجتهاد وطاعة أولي الأمر ، الذين هم جماعة أهل الحل والعقد ، فمن منع الاجتهاد فقد منع حجة الله تعالى وأبطل مزية هذه الشريعة على غيرها ، وجعلها غير صالحة لكل الناس في كل زمان ، فما أشد جناية هؤلاء الجهال على الإسلام ، على أنهم يسمون أنفسهم علماء الإسلام .
قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48nindex.php?page=treesubj&link=28976_28783وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) أَيْ وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ، ذَاتَ شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَمِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي سُلُوكِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا ، لَفَعَلَ بِأَنْ خَلَقَكُمْ عَلَى اسْتِعْدَادٍ وَاحِدٍ ، وَأَلْزَمَكُمْ حَالَةً وَاحِدَةً فِي أَخْلَاقِكُمْ وَأَطْوَارِ مَعِيشَتِكُمْ ، بِحَيْثُ تَصْلُحُ لَهَا شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُونَ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ الَّتِي يَقِفُ اسْتِعْدَادُهَا عِنْدَ حَدٍّ مُعَيَّنٍ ; كَالطَّيْرِ أَوِ النَّمْلِ أَوِ النَّحْلِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ ) أَيْ وَلَكِنْ لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ ، بَلْ جَعَلَكُمْ نَوْعًا مُمْتَازًا يَرْتَقِي فِي أَطْوَارِ الْحَيَاةِ بِالتَّدْرِيجِ ، وَعَلَى سُنَّةِ الِارْتِقَاءِ ، فَلَا تَصْلُحُ لَهُ شَرِيعَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَامِهِ وَجَمَاعَاتِهِ ، وَآتَاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ فِي الْفَهْمِ وَالْهِدَايَةِ فِي طَوْرِ طُفُولِيَّةِ النَّوْعِ وَغَلَبَةِ الْمَادِّيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ ، وَفِي طَوْرِ تَمْيِيزِهِ وَغَلَبَةِ الْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ ، حَتَّى إِذَا مَا بَلَغَ النَّوْعُ سِنَّ الرُّشْدِ وَمُسْتَوَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِظُهُورِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَقْوَامِ بِالْقُوَّةِ ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْفِعْلِ ، خَتَمَ لَهُ الشَّرَائِعَ وَالْمَنَاهِجَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَجَعَلَ أَمْرَهُ فِي الْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ وَالِاجْتِمَاعِ شُورَى بَيْنَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْمَكَانَةِ وَالْعِلْمِ وَالرَّأْيِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=48لِيَبْلُوَكُمْ ) أَيْ لِيُعَامِلَكُمْ بِذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ لِاسْتِعْدَادِكُمْ ( فِيمَا آتَاكُمْ ) أَيْ أَعْطَاكُمْ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ ، فَتَظْهَرُ حِكْمَتُهُ فِي تَمْيِيزِكُمْ عَلَى غَيْرِكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ فِي أَرْضِكُمْ ، وَهُوَ كَوْنُكُمْ جَامِعِينَ بَيْنَ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ .
[ ص: 347 ] يَظْهَرُ مِثَالُ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي الشَّرَائِعِ وَالْمَنَاهِجِ الْأَخِيرَةِ : الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ ، فَالْيَهُودِيَّةُ شَرِيعَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشِّدَّةِ فِي تَرْبِيَةِ قَوْمٍ أَلِفُوا الْعُبُودِيَّةَ وَالذُّلَّ ، وَفَقَدُوا الِاسْتِقْلَالَ فِي الْإِرَادَةِ وَالرَّأْيِ ; فَهِيَ مَادِّيَّةٌ جَسَدِيَّةٌ شَدِيدَةٌ لَيْسَ لِأَهْلِهَا فِيهَا رَأْيٌ وَلَا اجْتِهَادٌ ، فَالْقَائِمُ بِتَنْفِيذِهَا كَالْمُرَبِّي لِلطِّفْلِ الْعَارِمِ الشَّكِسِ .
وَالْمَسِيحِيَّةُ يَهُودِيَّةٌ مِنْ جِهَةٍ وَرُوحَانِيَّةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَهِيَ تَأْمُرُ أَهْلَهَا بِأَنْ يُسَلِّمُوا أُمُورَهُمُ الْجَسَدِيَّةَ وَالِاجْتِمَاعِيَّةَ لِلْمُتَغَلِّبِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلْطَةِ وَالْحُكْمِ ، مَهْمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ ، وَأَنْ يَقْبَلُوا كُلَّ مَا يُسَامُونَ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَالذُّلِّ ، وَيَجْعَلُوا عِنَايَتَهُمْ كُلَّهَا بِالْأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ ، وَتَرْبِيَةِ الْعَوَاطِفِ وَالْوِجْدَانَاتِ النَّفْسِيَّةِ ; فَهِيَ تَرْبِيَةٌ لِلنَّوْعِ فِي طَوْرِ التَّمْيِيزِ عِنْدَمَا كَانَ كَالْغُلَامِ الْيَافِعِ الَّذِي تُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ الْخَطَابِيَّاتُ وَالشِّعْرِيَّاتُ .
وَأَمَّا الْإِسْلَامِيَّةُ فَهِيَ الْقَائِمَةُ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ وَالِاسْتِقْلَالِ ، الْمُحَقِّقَةُ لِمَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ ، وَبِهَذَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=143وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) ( 2 : 143 ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=110كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ( 3 : 110 ) فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَسَاسِ الِاسْتِقْلَالِ الْبَشَرِيِّ اللَّائِقِ بِسِنِّ الرُّشْدِ وَطَوْرِ ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ ; وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ فِي كِتَابِهَا قَلِيلَةً ، وَفُرِضَ فِيهَا الِاجْتِهَادُ ; لِأَنَّ الرَّاشِدَ يُفَوَّضُ إِلَيْهِ أَمْرُ نَفْسِهِ ، فَلَا يُقَيَّدُ إِلَّا بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْقِلَهُ مِنَ الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ ، وَمِنْ مُقَوِّمَاتِ أُمَّتِهِ الْمِلِّيَّةِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، وَمَنْ أَحَبَّ زِيَادَةَ التَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْبَحْثِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعْثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ) ( 2 : 213 ) الْآيَةَ ( رَاجِعْ ص22 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 ط الْهَيْئَةِ ) وَتَفْسِيرَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=33وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ( 43 : 33 ) فِي ( ص827 م 15 مِنَ الْمَنَارِ ) وَإِلَى فَصْلِ ( الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ أَوِ الْإِسْلَامِ ) مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ .
وَمِنْ فِقْهِ مَا حَقَّقْنَاهُ عُلِمَ أَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِكْمَالِ اللَّهِ الدِّينَ بِالْقُرْآنِ ، وَخَتْمِهِ النُّبُوَّةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعْلِ شَرِيعَتِهِ عَامَّةً دَائِمَةً ، لَا تَظْهَرُ إِلَّا بِبِنَاءِ هَذَا الدِّينِ عَلَى أَسَاسِ الْعَقْلِ ، وَبِنَاءً عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَسَاسِ الِاجْتِهَادِ وَطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ ، الَّذِينَ هُمْ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ ، فَمَنْ مَنَعَ الِاجْتِهَادَ فَقَدْ مَنَعَ حُجَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَبْطَلَ مَزِيَّةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِهَا ، وَجَعَلَهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِكُلِّ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، فَمَا أَشَدُّ جِنَايَةَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، عَلَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ .