قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28976_28802ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ) علم مما سبق أن المراد بالولاية ولاية التناصر والمحالفة ، وقيده بعضهم بكونها على المؤمنين ، وأن النهي لأفراد المسلمين وجماعتهم دون جملتهم ، وأنه يشمل المؤمنين الصادقين وغيرهم ; لأنه مقدمة للإنكار على مرضى القلوب الذين يتخذون لهم اليد عندهم لعدم ثقتهم ببقاء الإسلام وثبات أهله . ولولا هذا لجوز أن يكون النهي لجملة المسلمين أيضا ، لا لأن من أصول الدين ألا يحالف أهله من يخالفهم فيه . كيف وقد كان
nindex.php?page=treesubj&link=29307النبي صلى الله عليه وسلم حالف يهود المدينة عقب الهجرة ؟ بل لأن القوم كانوا في حنق شديد على الإسلام وحسد للعرب على ما آتاهم الله من فضله ، فلا يوثق بوفائهم بعد ما كان من خيانتهم وغدرهم ، ولكن هذا غير مراد من الآية ، بل السياق يدل على الوجه الأول ؛ وهو أن يوالي أفراد أو جماعات من المسلمين أولئك
اليهود والنصارى المعادين للنبي والمؤمنين ، ويعاهدونهم على التناصر من دون المؤمنين ؛ رجاء أن يحتاجوا إلى نصرهم إذا خذل المسلمون وغلبوا على أمرهم . ونكتة التعبير عنهم
باليهود والنصارى دون أهل الكتاب هي أن معاداتهم للنبي والمؤمنين إنما كانت بحسب جنسياتهم السياسية ، لا من حيث أن كتابهم يأمرهم بذلك .
هذا النهي عن ولاية أهل الكتاب مثل النهي عن ولاية المشركين في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=1يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ) ( 60 : 1 ) . . . إلخ . وقد نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى
قريش يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على حربهم
[ ص: 353 ] ; لأن له عندهم مالا وأهلا ، فأراد أن يتخذ عندهم يدا ; لأجل حماية أهله . والنهي عن الشيء بسبب من الأسباب لا يتناول من لم يتحقق فيهم ، ولا ينافي زوال النهي بزوال سببه ; ولذلك قال تعالى بعد هذا النهي في هذه السورة " الممتحنة " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=7عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=8لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=9إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) ( 60 : 7 - 9 ) فهذه الآيات نص صريح في كون النهي عن الولاية لأجل العداوة ، وكون القوم حربا ، لا لأجل الخلاف في الدين لذاته ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حالف
اليهود كتب في كتابه "
لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم " كما أمره الله أن يقول لجميع المخالفين : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=6لكم دينكم ولي دين ) ( 109 : 6 ) .
وقد جعل المتأخرون من المفسرين -
nindex.php?page=showalam&ids=14423كالزمخشري والبيضاوي ومن تابعهما - الولاية بمعنى المودة وحسن المعاملة واستخدام المخالفين من أهل الكتاب ، واستدلوا بحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919435لا تتراءى ناراهما " ، ودعموا ذلك بأمر
عمر رضي الله عنه
nindex.php?page=showalam&ids=110لأبي موسى الأشعري بعزل كاتبه النصراني ، والسياق يأبى ذلك كما تقدم ، وقد حاول المتقدمون جعل النهي خاصا بمن نزل فيهم مع جعل الولاية ولاية النصرة ، وما أبعد الفرق بين الفريقين .
قال شيخ المفسرين
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري : " والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - نهى المؤمنين جميعا أن يتخذوا
اليهود والنصارى أنصارا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله ، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرا وحليفا ووليا من دون الله ورسوله فإنهم منهم في التخريب على الله وعلى رسوله والمؤمنين . وإن الله ورسوله منه بريئان . وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من
اليهود ، ويجوز أن تكون نزلت في
أبي لبابة بسبب فعله في
بني قريظة ، ويجوز أن تكون في شأن الرجلين اللذين ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي أن أحدهما أراد اللحاق بذلك
اليهودي ، والآخر بنصراني
بالشام ، ولم يصح بواحد من هذه الأقوال الثلاثة خبر يثبت بمثله حجته ، فيسلم لصحته القول ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه ، غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهود أو نصارى جزعا على نفسه من دوائر الدهر ; لأن الآية التي بعد هذه تدل على ذلك " اهـ .
وقال
البيضاوي في تفسير النهي عن اتخاذهم أولياء : فلا تعتمدوا عليهم ، ولا تعاشروهم
[ ص: 354 ] معاشرة الأحباب (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28976بعضهم أولياء بعض ) إيماء إلى علة النهي ; أي فإنهم متفقون على خلافكم ، يوالي بعضهم بعضا ، لاتحادهم في الدين ، واجتماعهم على مضادتكم (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28976_28802ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) أي ومن والاهم منكم فإنه من جملتهم ، وهذا التشديد في وجوب مجانبتهم كما قال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003259لا تتراءى ناراهما " ، أو لأن الموالين لهم كانوا منافقين . اهـ . هكذا خص
البيضاوي الولاية بمعاشرة المحبة ، والاعتماد على الأشخاص في الأمور ، وهو خطأ تتبرأ منه لغة الآية في مفرداتها وسياقها ، كما يتبرأ منه سبب النزول والحالة العامة التي كان عليها المسلمون والكتابيون في عصر التنزيل ، كما علم مما تقدم . وسبب وقوع
البيضاوي في مثل هذا الغلط ، اعتماده على مثل الكشاف في فهم الآيات دون الرجوع إلى تفاسير السلف على أن صاحب الكشاف أرسخ منه في اللغة قدما ، وأدق فهما وذوقا ; ولذلك بدأ تفسير الولاية بقوله : " تنصرونهم ، وتستنصرونهم " وهو المعنى الصحيح ، وعطف عليه ولاية الأخوة والمودة ، فأخذ
البيضاوي المعنى الثاني بعبارة تستحق من النقد ما لا تستحقه عبارة
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري .
وأخطأ كل منهما في إيراد حديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003260لا تتراءى ناراهما " في هذا المقام ، وكل منهما قليل البضاعة في علم الحديث ; فالحديث ورد في وجوب
nindex.php?page=treesubj&link=26066الهجرة من أرض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم لنصرته ، رواه أهل السنن ، أما
أبو داود فرواه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=97جرير بن عبد الله ، وذكر أن جماعة لم يذكروا
جريرا ; أي رووه مرسلا ، وهو الذي اقتصر
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي . وأخرجه
الترمذي مرسلا ، وقال : وهذا أصح . ونقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري تصحيح المرسل ، ولكنه لم يخرجه في صحيحه ، ولا هو على شرطه ،
nindex.php?page=treesubj&link=29109_21528والاحتجاج بالمرسل فيه الخلاف المشهور في علم الأصول ، ولفظ الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003261بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم ، فاعتصم ناس منهم بالسجود ، فأسرع فيهم القتل ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل ( أي الدية ) وقال : " nindex.php?page=treesubj&link=23227أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا : يا رسول الله لم ؟ قال : لا تتراءى ناراهما " ، فجعل لهم نصف الدية ، وهم مسلمون ; لأنهم أعانوا على أنفسهم ، وأسقطوا نصف حقهم بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وشدد في مثل هذه الإقامة بين المشركين المحاربين لله ولرسوله عن نصر الله ورسوله ، والله تعالى يقول في أمثال هؤلاء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=72والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) ( 8 : 72 ) فنفى تعالى ولاية المسلمين غير المهاجرين ; إذ كانت الهجرة واجبة ، فلأن ينفي ولاية
اليهود والنصارى - وقد كانوا محاربين أيضا - أولى . فذكر هذا الحديث في تفسير هذه الآية لا يصح وضعه في الموضع الذي وضعه فيه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري والبيضاوي ، إنما يناسبه ما قلنا آنفا ، فهو لا يدل - إذا صح الاحتجاج به - على ما ذكر من عدم
[ ص: 355 ] معاشرة الكتابي والإقامة معه ، وإن كان ذا ذمة أو عهد لا خوف من الإقامة معه ولا خطر ، وقد كان
اليهود يقيمون مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة في
المدينة ، وكانوا يعاملونهم بالمساواة التامة ، حتى إن
عليا المرتضى لما تحاكم مع يهودي إلى
عمر رضي الله عنهما وخاطبه
عمر أمام خصمه اليهودي بالكنية ( يا
أبا الحسن ) غضب وعاتب
عمر ; أنه عظمه أمام خصمه ،
وعمر لم يقصد تمييزه على خصمه ، وإنما جرى لسانه بذلك ; لتعوده تكريم
علي بمخاطبته بالكنية . على أن الحديث ورد في المشركين ، لا في أهل الكتاب ، وقد فرق الشرع بينهما في عدة مسائل . ألم تر أن الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب والتزوج بنسائهم دون المشركين ، وهو يقول في حكمة الزوجية وسرها : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=21وجعل بينكم مودة ورحمة ) ( 30 : 21 ) . وقد جرى الذين يفسرون القرآن من المتأخرين تصنيفا وتدريسا على آثار
البيضاوي ; إذ هو الذي يدرس الآن في أكثر الأمصار الإسلامية ، وقد اتفق أنني لما زرت مدينة
دار الفنون في
الآستانة سنة 1328 ، وطفت على حجرات المدرسين ألفيت مدرس التفسير يفسر هذه الآية ، فلما قرر ما قاله
البيضاوي قام أحد طلاب العلم من الترك وقال : إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا جعلت الدولة بعض الوزراء والأعيان والمبعوثين والموظفين من
النصارى واليهود ؟ فأرتج على المدرس ، وعرق جبينه ، وناهيك بعقاب الحكومة العرفية العسكرية هنالك لمن يطعن في دستورها ، فقلت للمدرس : أتأذن لي أن أجيب هذا السائل ؟ قال : نعم . فقمت ، فبينت له أن الولاية في الآية ولاية النصرة بنحو ما قدمته هنا ، وإنها لا تدل على عدم جواز استخدام الدولة لغير المحاربين لنا ، ولا هي من هذا السياق في شيء ، فاقتنع السائل والسامع ، وسر الأستاذ ، وسري عنه ، وكان لهذا الجواب أحسن الوقع عند مدير قسم الإلهيات والأدبيات من المدرسة ، وبلغه ناظر المعارف فارتاح إليه وأعجبه ، فاقترح المدير عليه أن يقرر جعل تدريس التفسير بالعربية ، وكذلك الحديث ؛ رجاء أن يعهد إلي به إن أقمت في
الآستانة ، فأجابه إلى ذلك .
أما
nindex.php?page=treesubj&link=28976قوله تعالى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51بعضهم أولياء بعض ) فهو استئناف بياني سيق لتعليل النهي كما قالوا ومعناه أن
اليهود بعضهم أولياء وأنصار بعض ،
والنصارى بعضهم أولياء وأنصار بعض ، لا أن
اليهود أولياء وحلفاء
النصارى ،
والنصارى أولياء وحلفاء
اليهود ، ولم يكن للمؤمنين منهم من ولي ولا نصير ; إذ كان
اليهود قد نقضوا ما عقده الرسول معهم من العهد كما تقدمت الإشارة إليه ; فصار الجميع حربا للرسول ومن معه من المؤمنين من غير أن يبدأهم بعدوان ولا قتال ، كما علمت من عبارة
ابن القيم السابقة .
[ ص: 356 ] وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28976_28802قوله : ( nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) . . . إلخ . فهو وعيد لمن يخالف النهي ; أي ومن ينصرهم ويستنصر بهم من دون المؤمنين ، وهم إلب واحد عليكم ، فإنه في الحقيقة منهم لا منكم ; لأنه معهم عليكم ، ولا يعقل أن يقع ذلك من مؤمن صادق ; فهو إما موافق لمن والاهم في عقيدتهم ، أو في عداوتهم لمن والاهم عليهم ، وعلى كلتا الحالتين يكون حكمه حكمهم ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : يقول فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راض ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى من خالفه وسخطه ، وصار حكمه حكمه انتهى . وبني على ذلك عد أهل العلم من الصحابة والتابعين (
nindex.php?page=showalam&ids=11كابن عباس والحسن )
بني تغلب من
النصارى لموالاتهم لهم ، وأجازوا أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم ، وهم مشركون لعدهم من
النصارى . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنه بعد أمره بأكل ذبائحهم وزواج نسائهم وتلاوة الآية : لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم ، وقد قيد
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الولاية بكونها لأجل الدين ، كما كانت الحال في ذلك العصر ; إذ قام المشركون وأهل الكتاب يعادون المسلمين ويقاتلونهم لأجل دينهم ، وقد تقع الموالاة والمحالفة والمناصرة بين المختلفين في الدين لمصالح دنيوية ، فإذا حالف المسلمون أمة غير مسلمة على أمة مثلها ; لاتفاق مصلحة المسلمين مع مصلحتها ، فهذه المحالفة لا تدخل في عموم كلامه ; لأنه اشترط أن يكون ذلك لمقاومة المسلمين .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28976_25987_30532إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) هذا تعليل للوعيد ، وبيان لسببه ؛ وهو أن من يوالي أعداء المؤمنين الذين نصبوا لهم الحرب ، وينصرهم أو يستنصر بهم فهو ظالم بوضعه الولاية في غير موضعها ، ولن يهتدي مثله إلى الحق والنجاة أبدا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28976_28802يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ) عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنِ الْمُرَادَ بِالْوِلَايَةِ وِلَايَةُ التَّنَاصُرِ وَالْمُحَالَفَةِ ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِكَوْنِهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنَّ النَّهْيَ لِأَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ وَجَمَاعَتِهِمْ دُونَ جُمْلَتِهِمْ ، وَأَنَّهُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ وَغَيْرَهُمْ ; لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَرْضَى الْقُلُوبِ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ لَهُمُ الْيَدَ عِنْدَهُمْ لِعَدَمِ ثِقَتِهِمْ بِبَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَثَبَاتِ أَهْلِهِ . وَلَوْلَا هَذَا لَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِجُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا ، لَا لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَلَّا يُحَالِفَ أَهْلُهُ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِيهِ . كَيْفَ وَقَدْ كَانَ
nindex.php?page=treesubj&link=29307النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَفَ يَهُودَ الْمَدِينَةِ عَقِبَ الْهِجْرَةِ ؟ بَلْ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي حَنَقٍ شَدِيدٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَحَسَدٍ لِلْعَرَبِ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، فَلَا يُوثَقُ بِوَفَائِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ خِيَانَتِهِمْ وَغَدْرِهِمْ ، وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنَ الْآيَةِ ، بَلِ السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ؛ وَهُوَ أَنْ يُوَالِيَ أَفْرَادٌ أَوْ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الْمُعَادِينَ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَيُعَاهِدُونَهُمْ عَلَى التَّنَاصُرِ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ رَجَاءَ أَنْ يَحْتَاجُوا إِلَى نَصْرِهِمْ إِذَا خُذِلَ الْمُسْلِمُونَ وَغُلِبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ . وَنُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ
بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ هِيَ أَنَّ مُعَادَاتِهِمْ لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا كَانَتْ بِحَسَبِ جِنْسِيَّاتِهِمُ السِّيَاسِيَّةِ ، لَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ كِتَابَهُمْ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ .
هَذَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلُ النَّهْيِ عَنْ وِلَايَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=1يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) ( 60 : 1 ) . . . إِلَخْ . وَقَدْ نَزَلَتْ فِي
nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ لَمَّا كَتَبَ إِلَى
قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِعَزْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَرْبِهِمْ
[ ص: 353 ] ; لِأَنَّ لَهُ عِنْدَهُمْ مَالًا وَأَهْلًا ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا ; لِأَجْلِ حِمَايَةِ أَهْلِهِ . وَالنَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِمْ ، وَلَا يُنَافِي زَوَالَ النَّهْيِ بِزَوَالِ سَبَبِهِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ " الْمُمْتَحَنَةِ " : (
nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=7عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=8لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=60&ayano=9إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( 60 : 7 - 9 ) فَهَذِهِ الْآيَاتُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ النَّهْيِ عَنِ الْوِلَايَةِ لِأَجْلِ الْعَدَاوَةِ ، وَكَوْنِ الْقَوْمِ حَرْبًا ، لَا لِأَجْلِ الْخِلَافِ فِي الدِّينِ لِذَاتِهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَالَفَ
الْيَهُودَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ "
لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ ، وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ " كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ لِجَمِيعِ الْمُخَالِفِينَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=6لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ ) ( 109 : 6 ) .
وَقَدْ جَعَلَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ -
nindex.php?page=showalam&ids=14423كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُمَا - الْوِلَايَةَ بِمَعْنَى الْمَوَدَّةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَاسْتِخْدَامِ الْمُخَالِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919435لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا " ، وَدَعَّمُوا ذَلِكَ بِأَمْرِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
nindex.php?page=showalam&ids=110لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِعَزْلِ كَاتِبِهِ النَّصْرَانِيِّ ، وَالسِّيَاقُ يَأْبَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ حَاوَلَ الْمُتَقَدِّمُونَ جَعْلَ النَّهْيِ خَاصًّا بِمَنْ نَزَلَ فِيهِمْ مَعَ جَعْلِ الْوِلَايَةِ وِلَايَةَ النُّصْرَةِ ، وَمَا أَبْعَدَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ .
قَالَ شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : " وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا ، أَنْ يُقَالَ : إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا أَنْ يَتَّخِذُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَنْصَارًا وَحُلَفَاءَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَهُمْ نَصِيرًا وَحَلِيفًا وَوَلَّيَا مَنْ دُونِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي التَّخْرِيبِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ . وَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ . وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ
nindex.php?page=showalam&ids=63عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَحُلَفَائِهِمَا مِنَ
الْيَهُودِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي
أَبِي لُبَابَةَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فِي
بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي شَأْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيُّ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرَادَ اللَّحَاقَ بِذَلِكَ
الْيَهُودِيِّ ، وَالْآخَرُ بِنَصْرَانِيٍّ
بِالشَّامِ ، وَلَمْ يَصِحَّ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ خَبَرٌ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ حُجَّتُهُ ، فَيَسْلَمَ لِصِحَّتِهِ الْقَوْلُ ، وَيَجُوزُ مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي لَا عِلْمَ عِنْدِنَا بِخِلَافِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُنَافِقٍ كَانَ يُوَالِي يَهُودَ أَوْ نَصَارَى جَزَعًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دَوَائِرِ الدَّهْرِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ " اهـ .
وَقَالَ
الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ النَّهْيِ عَنِ اتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ : فَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَيْهِمْ ، وَلَا تُعَاشِرُوهُمْ
[ ص: 354 ] مُعَاشَرَةَ الْأَحْبَابِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28976بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ النَّهْيِ ; أَيْ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى خِلَافِكُمْ ، يُوَالِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، لِاتِّحَادِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مُضَادَّتِكُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28976_28802وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) أَيْ وَمَنْ وَالَاهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مَنْ جُمْلَتِهِمْ ، وَهَذَا التَّشْدِيدُ فِي وُجُوبِ مُجَانَبَتِهِمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003259لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا " ، أَوْ لِأَنَّ الْمُوَالِينَ لَهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ . اهـ . هَكَذَا خَصَّ
الْبَيْضَاوِيُّ الْوِلَايَةَ بِمُعَاشَرَةِ الْمَحَبَّةِ ، وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَشْخَاصِ فِي الْأُمُورِ ، وَهُوَ خَطَأٌ تَتَبَرَّأُ مِنْهُ لُغَةُ الْآيَةِ فِي مُفْرَدَاتِهَا وَسِيَاقِهَا ، كَمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ سَبَبُ النُّزُولِ وَالْحَالَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْكِتَابِيُّونَ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ . وَسَبَبُ وُقُوعِ
الْبَيْضَاوِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْغَلَطِ ، اعْتِمَادُهُ عَلَى مِثْلِ الْكَشَّافِ فِي فَهْمِ الْآيَاتِ دُونَ الرُّجُوعِ إِلَى تَفَاسِيرَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ أَرْسَخُ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ قَدَمًا ، وَأَدَقُّ فَهْمًا وَذَوْقًا ; وَلِذَلِكَ بَدَأَ تَفْسِيرُ الْوِلَايَةِ بِقَوْلِهِ : " تَنْصُرُونَهُمْ ، وَتَسْتَنْصِرُونَهُمْ " وَهُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ وِلَايَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمَوَدَّةِ ، فَأَخَذَ
الْبَيْضَاوِيُّ الْمَعْنَى الثَّانِي بِعِبَارَةٍ تَسْتَحِقُّ مِنَ النَّقْدِ مَا لَا تَسْتَحِقُّهُ عِبَارَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيِّ .
وَأَخْطَأَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي إِيرَادِ حَدِيثِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003260لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا " فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ ; فَالْحَدِيثُ وَرَدَ فِي وُجُوبِ
nindex.php?page=treesubj&link=26066الْهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنُصْرَتِهِ ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ ، أَمَّا
أَبُو دَاوُدَ فَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=97جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً لَمْ يَذْكُرُوا
جَرِيرًا ; أَيْ رَوَوْهُ مُرْسَلًا ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=15397النَّسَائِيُّ . وَأَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ مُرْسَلًا ، وَقَالَ : وَهَذَا أَصَحُّ . وَنُقِلَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ تَصْحِيحُ الْمُرْسَلِ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُخَرِّجْهُ فِي صَحِيحِهِ ، وَلَا هُوَ عَلَى شَرْطِهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29109_21528وَالِاحْتِجَاجُ بِالْمُرْسَلِ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003261بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمَ ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالسُّجُودِ ، فَأَسْرَعَ فِيهِمُ الْقَتْلَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ ( أَيِ الدِّيَةِ ) وَقَالَ : " nindex.php?page=treesubj&link=23227أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ ؟ قَالَ : لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا " ، فَجَعَلَ لَهُمْ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَهُمْ مُسْلِمُونَ ; لِأَنَّهُمْ أَعَانُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَأَسْقَطُوا نِصْفَ حَقِّهِمْ بِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَدَّدَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْإِقَامَةِ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَنْ نَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=72وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وِلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) ( 8 : 72 ) فَنَفَى تَعَالَى وِلَايَةَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ ; إِذْ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً ، فَلَأَنْ يَنْفِيَ وِلَايَةَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - وَقَدْ كَانُوا مُحَارِبِينَ أَيْضًا - أَوْلَى . فَذِكْرُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَصِحُّ وَضْعُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ ، إِنَّمَا يُنَاسِبُهُ مَا قُلْنَا آنِفًا ، فَهُوَ لَا يَدُلُّ - إِذَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ - عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ
[ ص: 355 ] مُعَاشَرَةِ الْكِتَابِيِّ وَالْإِقَامَةِ مَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَا ذِمَّةٍ أَوْ عَهْدٍ لَا خَوْفَ مِنَ الْإِقَامَةِ مَعَهُ وَلَا خَطَرَ ، وَقَدْ كَانَ
الْيَهُودُ يُقِيمُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ الصَّحَابَةِ فِي
الْمَدِينَةِ ، وَكَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ بِالْمُسَاوَاةِ التَّامَّةِ ، حَتَّى إِنَّ
عَلِيًّا الْمُرْتَضَى لَمَّا تَحَاكَمَ مَعَ يَهُودِيٍّ إِلَى
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَخَاطَبَهُ
عُمَرُ أَمَامَ خَصْمِهِ الْيَهُودِيِّ بِالْكُنْيَةِ ( يَا
أَبَا الْحَسَنِ ) غَضِبَ وَعَاتَبَ
عُمَرَ ; أَنَّهُ عَظَّمَهُ أَمَامَ خَصْمِهِ ،
وَعُمَرُ لَمْ يَقْصِدْ تَمْيِيزَهُ عَلَى خَصْمِهِ ، وَإِنَّمَا جَرَى لِسَانُهُ بِذَلِكَ ; لِتَعَوُّدِهِ تَكْرِيمَ
عَلِيٍّ بِمُخَاطَبَتِهِ بِالْكُنْيَةِ . عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْمُشْرِكِينَ ، لَا فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَهُمَا فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَنَا طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّزَوُّجَ بِنِسَائِهِمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ ، وَهُوَ يَقُولُ فِي حِكْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَسِرِّهَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=21وَجَعَلَ بَيْنِكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ) ( 30 : 21 ) . وَقَدْ جَرَى الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَصْنِيفًا وَتَدْرِيسًا عَلَى آثَارِ
الْبَيْضَاوِيِّ ; إِذْ هُوَ الَّذِي يُدَرَّسُ الْآنَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَنَّنِي لَمَّا زُرْتُ مَدِينَةَ
دَارِ الْفُنُونِ فِي
الْآسِتَانَةِ سَنَةَ 1328 ، وَطُفْتُ عَلَى حُجُرَاتِ الْمُدَرِّسِينَ أَلْفَيْتُ مُدَرِّسَ التَّفْسِيرِ يُفَسِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ ، فَلَمَّا قَرَّرَ مَا قَالَهُ
الْبَيْضَاوِيُّ قَامَ أَحَدُ طُلَّابِ الْعِلْمِ مِنَ التُّرْكِ وَقَالَ : إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، فَلِمَاذَا جَعَلَتِ الدَّوْلَةُ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ وَالْمَبْعُوثِينَ وَالْمُوَظَّفِينَ مِنَ
النَّصَارَى وَالْيَهُودِ ؟ فَأُرْتِجَ عَلَى الْمُدَرِّسِ ، وَعَرِقَ جَبِينُهُ ، وَنَاهِيكَ بِعِقَابِ الْحُكُومَةِ الْعُرْفِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ هُنَالِكَ لِمَنْ يَطْعَنُ فِي دُسْتُورِهَا ، فَقُلْتُ لِلْمُدَرِّسِ : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُجِيبَ هَذَا السَّائِلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقُمْتُ ، فَبَيَّنْتُ لَهُ أَنَّ الْوِلَايَةَ فِي الْآيَةِ وِلَايَةُ النُّصْرَةِ بِنَحْوِ مَا قَدَّمْتُهُ هُنَا ، وَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِخْدَامِ الدَّوْلَةِ لِغَيْرِ الْمُحَارِبِينَ لَنَا ، وَلَا هِيَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي شَيْءٍ ، فَاقْتَنَعَ السَّائِلُ وَالسَّامِعُ ، وَسُرَّ الْأُسْتَاذُ ، وَسُرِّيَ عَنْهُ ، وَكَانَ لِهَذَا الْجَوَابِ أَحْسَنُ الْوَقْعِ عِنْدَ مُدِيرِ قِسْمِ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأَدَبِيَّاتِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ ، وَبَلَّغَهُ نَاظِرَ الْمَعَارِفِ فَارْتَاحَ إِلَيْهِ وَأَعْجَبَهُ ، فَاقْتَرَحَ الْمُدِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَرِّرَ جَعْلَ تَدْرِيسِ التَّفْسِيرِ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثِ ؛ رَجَاءَ أَنْ يُعْهَدَ إِلَيَّ بِهِ إِنْ أَقَمْتُ فِي
الْآسِتَانَةِ ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ .
أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28976قَوْلُهُ تَعَالَى : ( nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ سِيقَ لِتَعْلِيلِ النَّهْيِ كَمَا قَالُوا وَمَعْنَاهُ أَنَّ
الْيَهُودَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَنْصَارُ بَعْضٍ ،
وَالنَّصَارَى بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَأَنْصَارُ بَعْضٍ ، لَا أَنَّ
الْيَهُودَ أَوْلِيَاءُ وَحُلَفَاءُ
النَّصَارَى ،
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءُ وَحُلَفَاءُ
الْيَهُودِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مَنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ; إِذْ كَانَ
الْيَهُودُ قَدْ نَقَضُوا مَا عَقَدَهُ الرَّسُولُ مَعَهُمْ مِنَ الْعَهْدِ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ ; فَصَارَ الْجَمِيعُ حَرْبًا لِلرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِعُدْوَانٍ وَلَا قِتَالٍ ، كَمَا عَلِمْتَ مِنْ عِبَارَةِ
ابْنِ الْقَيِّمِ السَّابِقَةِ .
[ ص: 356 ] وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28976_28802قَوْلُهُ : ( nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) . . . إِلَخْ . فَهُوَ وَعِيدٌ لِمَنْ يُخَالِفُ النَّهْيَ ; أَيْ وَمَنْ يَنْصُرُهُمْ وَيَسْتَنْصِرُ بِهِمْ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَهُمْ إِلْبٌ وَاحِدٌ عَلَيْكُمْ ، فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْهُمْ لَا مِنْكُمْ ; لِأَنَّهُ مَعَهُمْ عَلَيْكُمْ ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْ مُؤْمِنٍ صَادِقٍ ; فَهُوَ إِمَّا مُوَافِقٌ لِمَنْ وَالَاهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ ، أَوْ فِي عَدَاوَتِهِمْ لِمَنْ وَالَاهُمْ عَلَيْهِمْ ، وَعَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَهُمْ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ : يَقُولُ فَإِنَّ مَنْ تَوَلَّاهُمْ وَنَصَرَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَلَّى مُتَوَلٍّ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ بِهِ وَبِدِينِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ رَاضٍ ، وَإِذَا رَضِيَهُ وَرَضِيَ دِينَهُ فَقَدْ عَادَى مَنْ خَالَفَهُ وَسَخِطَهُ ، وَصَارَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ انْتَهَى . وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ عَدُّ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ (
nindex.php?page=showalam&ids=11كَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ )
بَنِي تَغْلِبَ مِنَ
النَّصَارَى لِمُوَالَاتِهِمْ لَهُمْ ، وَأَجَازُوا أَكْلَ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ لِعَدِّهِمْ مِنَ
النَّصَارَى . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَمْرِهِ بِأَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ وَزَوَاجِ نِسَائِهِمْ وَتِلَاوَةِ الْآيَةِ : لَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ إِلَّا بِالْوِلَايَةِ لَكَانُوا مِنْهُمْ ، وَقَدْ قَيَّدَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ الْوِلَايَةَ بِكَوْنِهَا لِأَجْلِ الدِّينِ ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ ; إِذْ قَامَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُعَادُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيُقَاتِلُونَهُمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ ، وَقَدْ تَقَعُ الْمُوَالَاةُ وَالْمُحَالَفَةُ وَالْمُنَاصَرَةُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ لِمَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ ، فَإِذَا حَالَفَ الْمُسْلِمُونَ أُمَّةً غَيْرَ مُسْلِمَةٍ عَلَى أُمَّةٍ مِثْلِهَا ; لِاتِّفَاقِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مَصْلَحَتِهَا ، فَهَذِهِ الْمُحَالَفَةُ لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ ; لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمُقَاوَمَةِ الْمُسْلِمِينَ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28976_25987_30532إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْوَعِيدِ ، وَبَيَانٌ لِسَبَبِهِ ؛ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يُوَالِي أَعْدَاءَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَصَبُوا لَهُمُ الْحَرْبَ ، وَيَنْصُرُهُمْ أَوْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ فَهُوَ ظَالِمٌ بِوَضْعِهِ الْوِلَايَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، وَلَنْ يَهْتَدِيَ مِثْلُهُ إِلَى الْحَقِّ وَالنَّجَاةِ أَبَدًا .