[ ص: 3 ] الجزء السابع
( بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=84وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=85فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ) .
ختم الله هذا السياق في محاجة
أهل الكتاب وبيان شأنهم ، بهذه الآيات التي بين فيها حالتهم النفسية في عداوة المؤمنين ومودتهم ، ودرجة قربهم منهم وبعدهم عنهم ، وكذا حالة المشركين فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82nindex.php?page=treesubj&link=28976لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ) العداوة : بغضاء يظهر أثرها في القول والعمل ، والمودة : محبة يظهر أثرها في القول والعمل ، خلافا للجمهور الذين فسروها بالمحبة مطلقا ، وفي
[ ص: 4 ] كلمة " لتجدن " تأكيدان : لام القسم في أول الكلمة ، ونون التوكيد في آخرها ، وفي الخطاب بها وجهان أحدهما : أنه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وثانيهما : أنه لكل من يوجه إليه الكلام ، وفي " الناس " الذين نزل فيهم هذا التفصيل قولان أحدهما : أنهم يهود
الحجاز ومشركو العرب ونصارى
الحبشة في عصر التنزيل ، والثاني : أنه عام لكل شعب وجيل ، ولكن يرد على عموم الأزمنة ما سيأتي .
وأما صدقه على أهل العصر الأول فظاهر أتم الظهور ، ولا سيما إذا جعلنا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن أشد ما لاقى بأبي هو وأمي من العداوة والإيذاء قد كان من يهود
الحجاز في
المدينة وما حولها ، ومشركي العرب ، ولا سيما
مكة وما قرب منها ، ولم ير من العداوة مثل تلك العداوة والإيذاء ، بل رأى من نصارى
الحبشة أحسن المودة بحماية
المهاجرين الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام من
مكة إلى
الحبشة ; خوفا عليهم من مشركيها الذين كانوا يؤذونهم أشد الإيذاء; ليفتنوهم عن دينهم ، حتى قال أكثر أهل التفسير المأثور : إن الآية نزلت فيهم أولا وبالذات ، ولا ينفي هذا القول كون العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وسيأتي ما روي في ذلك في آخر تفسير الآيات .
لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=treesubj&link=29383كتب الدعوة الإسلامية إلى الملوك ورؤساء الشعوب ، كان
النصارى منهم أحسنهم ردا;
فهرقل nindex.php?page=treesubj&link=30937ملك الروم في الشام حاول إقناع رعيته بقبول الإسلام ، فلما لم يقبلوا لجمودهم على التقليد ، وعدم فقههم حقيقة الدين الجديد ، اكتفى بالرد الحسن ،
والمقوقس عظيم
القبط في
مصر كان أحسن منه ردا ، وإن لم يكن أكثر إلى الإسلام ميلا ، وأرسل للنبي صلى الله عليه وسلم هدية حسنة ، ثم لما فتحت
مصر والشام عرف أهلها مزية الإسلام ، دخلوا في دين الله أفواجا ، وكان
القبط أسرع له قبولا .
nindex.php?page=treesubj&link=33976_33983وقد كان nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب بن أبي بلتعة رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ، وكان مما قاله له بعد أن أعطاه الكتاب : إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى (
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=25فأخذه الله نكال الآخرة والأولى 79 : 25 ) فانتقم به ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك غيرك ، فقال (
المقوقس ) : إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه ، فقال
حاطب : ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فقد سواه ، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه
قريش ، وأعداهم له
اليهود ، وأقربهم منه
النصارى ، ولعمري ما بشارة
موسى بعيسى إلا كبشارة
عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن ، إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكل نبي أدرك قوما فهم أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، ولسنا ننهاك عن دين
المسيح ولكنا نأمرك به ( أي هو الإسلام عينه ) فقال
المقوقس : إني قد نظرت في أمر هذا
[ ص: 5 ] النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء ، والإخبار بالنجوى ، وسأنظر إلخ .
ومما يشهد لما ذكرناه أيضا حديث
nindex.php?page=showalam&ids=59عمرو بن العاص رسول النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك
عمان جيفر بن الجلندى وأخيه
عبد بن الجلندى ، فإن
عمرا عمد أولا إلى
عبد ; لأنه أحلم الرجلين وأميلهما خلقا ، فبلغه دعوة الإسلام ، فقال له
عبد : يا
عمرو ، إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك ؟ ( قال
عمرو ) قلت : مات ولم يؤمن
بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ووددت أنه كان أسلم به وصدق به ، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام ، قال : فمتى تبعته ؟ قلت : قريبا ، فسألني : أين كان إسلامك ؟ قلت : عند
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي ، وأخبرته أن
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي قد أسلم ، قال : فكيف صنع قومه بملكه ؟ فقلت : أقروه واتبعوه ، قال : والأساقفة والرهبان تبعوه ؟ قلت : نعم ، قال : انظر يا
عمرو ما تقول ، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح من الكذب ، قلت : ما كذبت وما نستحله في ديننا ، قال : ما أرى
هرقل علم بإسلام
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي ، قلت : بلى ، قال : بأي شيء علمت ذلك ؟ قلت : كان
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي يخرج له خرجا فلما أسلم وصدق
بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قال : لا والله لو سألني درهما واحدا ما أعطيته ، فبلغ
هرقل قوله ، فقال له
اليناق أخوه : أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ويدين بدين غيرك دينا محدثا ؟ قال
هرقل : رجل رغب في دين فاختاره لنفسه ما أصنع به ؟ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع ، قال : انظر ما تقول يا
عمرو ، قلت : والله صدقتك ، قال
عبد : فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه ؟ قلت : يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معصيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم ، وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنا وعن الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب ، قال : ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ، ولو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن
بمحمد ونصدق به ، ولكن أخي يضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا ، انتهى المراد منه ( وقد أسلم الرجلان بعد ) .
فعلم من هذه الشواهد أن
nindex.php?page=treesubj&link=32431_29257النصارى الذين كانوا مجاورين للحجاز كانوا في زمن البعثة أقرب مودة للمؤمنين ، وأقرب قبولا للإسلام ، وأن من توقف من ملوكهم عن الإسلام فما كان توقفه إلا ضنا بملكه ، وأن
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي ( أصحمة ) ملك
الحبشة قد أسلمت معه بطانته من رجال الدين والدنيا ، ولكن يظهر أن الإسلام لم ينتشر في
الحبشة بعد موته رضي الله عنه ، ولم يعن المسلمون بإقامة أحكامهم في تلك البلاد كما فعلوا في
مصر والشام مثلا وهذا بحث تاريخي ليس من موضوعنا هنا ، ولكن ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919449دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم " عزاه
السيوطي في الجامع الصغير إلى
أبي [ ص: 6 ] داود عن رجل من الصحابة وعلم عليه بالصحة ، وقد رواه
أبو داود بهذا اللفظ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي بلفظه في آخر حديث طويل ملخصه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما معناه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003266إن الله تعالى أراه وهو يحفر في الخندق في وقعة الأحزاب بلاد nindex.php?page=showalam&ids=16848كسرى فسئل أن يدعو الله تعالى بأن يفتحها لأمته فدعا ، ثم ذكر أن الله أراه ملك قيصر وديار الشام فسئل أن يدعو الله تعالى أن يفتحها لهم فدعا ، ثم ذكر أن الله أراه الحبشة ، وقال هذا الحديث قبل أن يسألوه الدعاء بفتحها .
وجملة القول : أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به رأوا في عصره من مودة
النصارى وقربهم من الإسلام بقدر ما رأوا من عداوة
اليهود والمشركين ، وقد يظن بعض الناس أن سبب ذلك بعد
النصارى عنهم ، وقرب
اليهود منهم في
المدينة والمشركين في
مكة والمدينة معا ، ومن بلغته الدعوة أبى ترك دينه إلى دين آخر من بعيد ، لا يعني بعداوة أهلها ومقاومتهم كما يعنى القريب الذي توجه إليه الدعوة مواجهة ومشافهة ، ولذلك كان
اليهود في
الشام والأندلس يعطفون على المسلمين عند الفتح ويرغبون في نصرهم على نصارى الروم والقوط ، ثم صار بين المسلمين
والنصارى من العداوة على الملك والحروب لأجله ما هو أشد مما كان من عداوة
اليهود والمشركين; لسلفهم في أول الإسلام .
والقاعدة لهذا الرأي أن
nindex.php?page=treesubj&link=29435_28645العداوة والمودة كانت ولم تزل أثر التنازع على المنافع والسيادة باسم الدين أو الدنيا ، ولا دخل لطبيعة الدين فيها ، وقد يؤيد هذا بما يثيره دعاة النصرانية في نفوس المسلمين في هذا الزمان ، وما بين الدول الإسلامية والنصرانية من البغي والعدوان ، على أنه ليس من بين
اليهود والمسلمين من ذلك شيء ، ولكن قد يوجد مثله بين مسلمي
الهند ومشركيها; لتعارض مصالحهم ومنافعهم فيها ، فعلة العداوة والمودة خارجية لا دينية ولا جنسية .
هذا كلام صحيح في جملته لا تفصيله ، وينطبق على المختلفين في الدين والمتفقين فيه ، فقد حارب نصارى البلقان بعضهم بعضا كما حاربوا العثمانيين ، بل أهل المذهب الواحد من
النصارى يحارب الآن بعضهم بعضا; كالإنجليز والألمان ، وليس هو المراد بالآية ، وإنما القرآن يبين هنا معنى أعلى منهم وأعم لا خاصا بالتنازع .
وهو أن العلة الصحيحة لعداوة المعادين ومودة الموادين هي الحالة الروحية التي هي أثر تقاليدهم الدينية والعادية ، وتربيتهم الأدبية والاجتماعية ، وقد نبه القرآن إلى ذلك في بيان سبب مودة
النصارى من هذه الآية ، وترك
nindex.php?page=treesubj&link=32423_32424سبب شدة عداوة اليهود والمشركين ، لأن حالتهم الروحية مبينة في القرآن أتم البيان في عدة سور ، ومن أوسعها بيانا لأحوال
اليهود هذه السورة وما قبلها من السور الطوال المدنية ، وأوسعها بيانا لأحوال المشركين سورة الأنعام التي تليها ، وهي السورة المكية .
[ ص: 7 ] كان
اليهود والمشركون مشتركين في بعض الصفات والأخلاق التي اقتضت شدة العداوة للمؤمنين; فمنها الكبر ، والعتو ، والبغي ، وحب العلو ، ومنها العصبية الجنسية ، والحمية القومية ، ومنها غلبة الحياة المادية ، ومنها الأثرة ، والقسوة ، وضعف عاطفة الحنان والرحمة ، وكان مشركو العرب على جاهليتهم أرق من
اليهود قلوبا ، وأكثر سخاء وإيثارا ، وأشد حرية في الفكر والاستقلال ، وما قدم الله ذكر
اليهود في الآية إلا لإفادة أصالتهم وتمكنهم فيما وصفوا به ، وتبريزهم على مشركي العرب فيه ، وناهيك بما سبق لهم من قتل بعض الأنبياء وإيذاء بعض ، واستحلال أكل أموال غيرهم بالباطل ، وأما ما كان من ضلعهم مع المسلمين في البلاد المقدسة
والشام والأندلس فإنما كان لأجل تفيؤ ظل عدلهم ، والاستراحة من اضطهاد نصارى تلك البلاد لهم ، فهم لم يعدوا في ذلك في عادتهم ، ولم يتركوا ما عرف من شنشتهم ، وهي أنهم لا يعملون شيئا إلا لمصلحتهم .
ويمكن أن يستنبط ما تركه الله هنا من بيان سبب شدة عداوة هؤلاء وأولئك مما بينه من سبب قرب مودة
النصارى بقوله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82nindex.php?page=treesubj&link=28976_32431ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) أي ذلك الذي ذكر من كون
النصارى أقرب مودة للذين آمنوا بسبب أن منهم قسيسين يتولون تعليمهم وتربيتهم الدينية ، ورهبانا يمثلون فيهم الزهد ، وترك نعيم الدنيا ، والخوف من الله عز وجل ، والانقطاع لعبادته ، وأنهم لا يستكبرون عن الإذعان للحق إذا ظهر لهم أنه الحق ، لأنه أشهر آداب دينهم التواضع والتذلل ، وقبول كل سلطة والخضوع لكل حاكم ، بل من المشهور فيها : الأمر بمحبة الأعداء ، وإدارة الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن ، فتداول هذه الوصايا ووجود أولئك القسيسين والرهبان ، لا بد أن يؤثر في نفوس جمهور الأمة وسوادها ، فيضعف صفة الاستكبار عن قبول الحق فيها ، وقد عهد من
النصارى قبول سلطة المخالف لهم طوعا واختيارا والرضاء بها سرا وجهارا ، وأما
اليهود فإذا أظهروا الرضا بذلك اضطرارا ، وأسروا الكيد إسرارا ، ومكروا مكرا كبارا .
فتلك كانت صفات الفريقين الغالبة لا أخلاق أفراد الأمتين كافة ، ففي كل قوم خبيثون وطيبون (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=159ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) ( 7 : 159 ) ولكن
nindex.php?page=treesubj&link=32425_32423شريعة اليهود نفسها تربي في نفوسهم الأثرة الجنسية ، لأنها خاصة بشعب
إسرائيل ، وكل أحكامها ونصوصها مبنية على ذلك :
وحكمة ذلك : المراد منها تربية أمة موحدة بين أمم الوثنية الكثيرة بعد إنقاذها من استعباد أشد الوثنيين بطشا ، وأضرهم بالاستبداد وهي أمة الفراعنة ولو أذن الله
لبني إسرائيل بعد إنجائهم من
مصر إلى الأرض المقدسة أن يخالطوا الأمم التي كانت
[ ص: 8 ] فيها ، وجعل شريعتهم عامة مبنية على قواعد المساواة بين الإسرائيليين وغيرهم كالشريعة الإسلامية لغلبت تعاليم أولئك الوثنيين ، وشرورهم على الإسرائيليين لقرب عهدهم بالتوحيد مع استعدادهم الوراثي لقبول تقاليد غيرهم والخضوع لهم ، ولذلك أمروا بألا يبقوا في الأرض المقدسة نسمة ما ممن كان فيها قبلهم ، وكان
موسى عليه السلام يحذرهم أشد التحذير من مفاسد الوثنيين بعده .
فإن قلت : إن هذا الإصلاح بتربية أمة واحدة على هذه الطريقة ، بمثل هذه الشريعة يترتب عليه مفاسد أخرى في أخلاق هذه الأمة ، ولو لم يكن من مفاسده إلا ما هو معروف من أخلاق
اليهود إلى الآن ، التي كانت سبب اضطهاد الأمم لهم في كل مكان ، ومن حرصهم على الانتفاع من غيرهم وعدم نفع أحد بشيء منهم ، إلا إذا كان وسيلة لمنفعة لهم أكبر منه ، أو دفع ضرر ، وتجرد السواد الأعظم منهم عن إيثار أحد غريب عنهم بشيء لكفى ، وكان شبهة عظيمة على كون دينهم ليس من عند الله تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205والله لا يحب الفساد ) ( 2 : 105 ) .
والجواب عن هذه الشبهة سهل على المسلمين ، وبيانه أن تلك الشريعة كانت مؤقتة لا دائمة ، فكانت في العصر الأول هي الوسيلة إلى تكوين أمة موحدة بين أمم الوثنية ، وكان المصلحون من الأنبياء صلوات الله عليهم يتعاهدون أهلها زمنا بعد زمن بالإصلاح المعنوي ، كإلهيات زبور
داود ، وأدبيات حكم
سليمان عليهما السلام; حتى لا تغلب على القوم المادية وتفسدهم الأثرة ، ثم جاء مصلح إسرائيل الأعظم
عيسى المسيح صلوات الله وسلامه عليه ينقض ما كانوا عليه من ذلك بدعوتهم إلى نقيضه أو ضده ، فقابل مبالغتهم في المادية بالمبالغة في الروحانية ، ومبالغتهم في الأثرة بالمبالغة في الإيثار الذي تعبر عنه
النصارى بإنكار الذات ومبالغتهم في الجمود على ظواهر الشريعة بالمبالغة في النظر إلى مقاصدها ، فكره إليهم السيادة والغنى ، وذم التمتع بنعيم الدنيا ، وأمر بمحبة الأعداء وعدم الجزاء على الإيذاء ، وكان ذلك كله تمهيدا لإكمال الله تعالى دينه بإرسال خاتم النبيين والمرسلين
محمد المبعوث رحمة للعالمين ، البارقليط روح الحق الذي يعلمهم ويعلم غيرهم كل شيء ، فيجمع للبشر بين مصالح الروح والجسد ، ويأمر بالعدل والإحسان لا بالإحسان فقط .
فمن لم يؤثر فيهم إصلاح
المسيح من
اليهود ظلوا على جمودهم وعصبيتهم ، وكانوا أشد عداوة لهذا النبي ومن آمن به ممن أثر فيهم ذلك الإصلاح وكان فيهم بقية من القسيسين والرهبان ، سواء كان أصلهم من
اليهود أو غيرهم من الأقوام ، فكانوا أقرب مودة لهم ، وكانوا أسرع إلى الإيمان من غيرهم ، فصدق عليهم قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) ( 7 : 157 )
[ ص: 9 ] وما كان ذلك الإصر والأغلال إلا شدة أحكام التوراة في الطعام والشراب والأحكام المدنية والجنائية ، وشدة أحكام الإنجيل في الزهد وإذلال النفس وحرمانها .
ومما يدل على كون
nindex.php?page=treesubj&link=32431النصارى أقرب من اليهود إلى الإسلام بطبيعة دين كل منهما - وفاقا لتعليل الآية الكريمة - كثرة من يسلم من
النصارى في كل زمان وقلة من يسلم من
اليهود ، ولولا ضعف المسلمين في هذا الزمان ، وإعراضهم عن هداية القرآن ، ولولا إهمالهم الدعوة إلى الإسلام ، وإبرازه بصورته الصحيحة للأنام ، ولولا فساد حكوماتهم وعجز رجالهم في السياسة ، وتخلفهم عن مجاراة الأمم في العلم والحضارة ، ولولا بلوغ دول الإفرنج النصرانية فيه أوج العزة والقوة ، وسبق أممهم في حلبة المدنية والثروة ، واستمالتهم لنصارى الشرق وجذبهم إليهم ، واعتزاز هؤلاء بهم ، وتلقيهم أساليب التربية الدينية والمدنية عنهم ، وجعل الدين فيها من المقومات الجنسية للأقوام والشعوب تربى على أن تحافظ عليها كما تحافظ على لغتها ، فلا تستبدل بها غيرها وإن كانت خيرا منها إلى غير ذلك من قوانين هذه التربية وأساليبها ولولا ما أشرنا إليه من التنازع السياسي الدنيوي بين دولنا ودولهم ، لولا ذلك كله لكانت المودة بين الفريقين أتم وانتشار الإسلام فيهم أعم ، لأن الإسلام إصلاح في النصرانية ، كما أن النصرانية إصلاح في
اليهودية ،
فاليهود الذين عادوا النصرانية كانوا أحذر ممن صلحوا بها بعداوة الإسلامية ودين الله على ألسنة
موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنه جرى مع البشر على سنة الارتقاء ، إلى أن بلغ سن الكمال .
فإن قيل : إذا كنت تزعم أن
nindex.php?page=treesubj&link=32431سبب ما ذكره الله تعالى من كون النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين هو تعاليم دينهم وتقاليده ، وأنه لذلك يجب أن يكون عاما فيهم ، وإن نزل في طائفة معينة منهم ، وإذا انتفت الموانع فبماذا تجيب عن
nindex.php?page=treesubj&link=33882الحرب الصليبية التي أوقد النصارى نارها باسم الدين ، ولم يلق المسلمون مثلها من
اليهود ولا من المشركين ، ويقرب من ذلك سائر الحروب بين المسلمين
والنصارى ؟ فإن عندي جوابين عن هذا السؤال أو جوابا من وجهين :
( أحدهما ) أن ما كان عليه المسلمون من الدين القريب من النصرانية ، بل الذي هو إصلاح فيها وإكمال لها كما قررنا ، لم يكن معروفا عند أولئك الصليبين ، بل كان المسلمون صورة في مخيلاتهم غير صورتهم الصحيحة التي طبعها في قلوبهم أعداء الإسلام ، صورة وثنية وحشية مشوهة أقبح التشويه ، منعكسة عن الكتب والرسائل والخطب التي كان ينشئها بطرس الراهب وأمثاله ، ولو وصف المسلمين يومئذ قوم بما وصفهم به مثيرو الحرب الصليبية ودعوا إلى قتالهم لنفروا خفافا وثقالا .
[ ص: 10 ] ( ثانيهما ) أن ما في الإنجيل من روح السلام والمحبة والتواضع والإيثار ، والخضوع لكل سلطان ، لم ينتصر في
أوربة على روح الحرب والأثرة والكبرياء وحب السيادة في الأرض تلك الصفات التي كانت قد بلغت في عهد السلطة الرومانية أشدها ، وكانت سبب إبادة الوثنيين من أوربة كلها ، ثم سبب الحرب الصليبية ، ومحاولة إبادة المسلمين من البلاد المقدسة أو الشرق كله ، بل كانت ولا تزال سبب الحروب القاسية بين
النصارى أنفسهم بسبب اختلاف المذاهب ، أو التنازع على الممالك ، وكل هذا من تعاليم روح الشيطان لا من تأثير تعليم روح الله عليه السلام ، وإن رووا عنه أنه قال : ما جئت لألقي سلاما على الأرض إنما جئت لألقي سيفا .
فعلم من هذا أن
nindex.php?page=treesubj&link=29435_28645_32431ما كان بين المسلمين والنصارى من عداء فإنما سببه بعد أحد الفريقين أو كل منهما عن هداية دينه ، أو جهالة وسوء فهم وقع بينهما ، وأمر المتأخر من دولهما ظاهر ، ولا ينسبه إلى طبيعة دينهما إلا جاهل أو مكابر ، فالدولة العثمانية كانت قد فتحت كثيرا من بلادهم بالقوة القاهرة ، فلما دالت لهم القوة تأثروا لأنفسهم ، فإن كان الساسة البلقانيون قد هاجوا شعوبهم على قتالها باسم الصليب والمسيح ، فلم يلبثوا أن كذب الله تعالى دعواهم المسيحية بإيقادهم نار القتال بينهم ، فما زال أئمة السياسة المضلون من الفريقين يتخذون الدين أخدوعة يخدعون بها العامة لتأييد سياستهم ، حتى في الجناية على الدين وأهله .
فإن قيل : إن
nindex.php?page=treesubj&link=32423_29435_32422اليهودية أقرب إلى الإسلام من النصرانية لأنها ديانة توحيد ، والنصرانية ديانة تثليث ، والتوحيد هو أساس دين الله على ألسنة جميع رسله ، وهو منتهى الكمال في العقائد ولذلك يغفر الله كل ذنب إلا الشرك .
فالجواب عن هذا : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29434عقيدة التثليث الدخيلة في المسيحية لما كانت لا تفهم ولا تعقل لم يكن لها تأثير في أنفس أهلها ببعدهم عن الإسلام ، بل ربما كانت من أسباب قبول دعوة الإسلام ، وإنما التأثير الأعظم في تقريب الناس بعضهم من بعض أو ضده للأخلاق والآداب . وإننا نرى في كل عصر من المودة بين المسلمين
والنصارى ما لا نرى مثله بين غيرهما من المختلفين في الدين ، وما ضعفت هذه المودة في بلد إلا بفتن السياسة ، وعصبيات أهل الرياسة ، فلعنة الله على مثيري العداوة والبغضاء بين عباد الله اتباعا لأهوائهم ، أو إرضاء لرؤسائهم .
ومن مباحث الألفاظ في الآية أن الرهبان جمع راهب ( كركبان جمع راكب ) وهو المتبتل المنقطع في دير أو صومعة للعبادة وحرمان النفس من التنعم بالزوج والولد
[ ص: 11 ] ولذات الطعام والزينة ، فهو من الرهبة بمعنى الخوف ، أو من رهب الإبل وهو هزالها وكلالها من طول السير ، وأن القسيسين جمع قسيس ومثلها قس وجمعه قسوس وهو رئيس ديني في عرف الكنيسة فوق الشماس ودون الأسقف ، مأخوذ من قولهم قس الإبل يقسها من باب نصر قسا ( بتثليث القاف ) إذا أحسن رعيها وسقيها ، والأصل في القسيسين أن يكونوا من أهل العلم بدينهم وكتبهم لأنهم رعاة ومفتون ، فيكون ذكر الرهبان والقسيسين جمعا بين العباد والعلماء ، وكون
nindex.php?page=treesubj&link=8911_8917الرهبانية بدعة في النصرانية لا ينافي تأثيرها في تقريب
النصارى من مودة المسلمين .
وروى أهل التفسير المأثور قولا بأن المراد بالقسيسين والرهبان من آمن
بعيسى في عهده
كالحواريين وقولا آخر : المراد بهم جماعة
nindex.php?page=showalam&ids=888النجاشي ، وسيأتي بعض ما ورد في ذلك ومن الناس من يجعل هذه الآية آخر الجزء السادس ، لأن التجزئة لا تراعى فيها المعاني ، ويبدأ الجزء السابع بقوله عز وجل :
[ ص: 3 ] الْجُزْءُ السَّابِعُ
( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=83وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=84وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=85فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ) .
خَتَمَ اللَّهُ هَذَا السِّيَاقَ فِي مُحَاجَّةِ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ شَأْنِهِمْ ، بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا حَالَتَهُمُ النَّفْسِيَّةَ فِي عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَوَدَّتِهِمْ ، وَدَرَجَةِ قُرْبِهِمْ مِنْهُمْ وَبُعْدِهِمْ عَنْهُمْ ، وَكَذَا حَالَةُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82nindex.php?page=treesubj&link=28976لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) الْعَدَاوَةُ : بَغْضَاءُ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَالْمَوَدَّةُ : مَحَبَّةٌ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ فَسَّرُوهَا بِالْمَحَبَّةِ مُطْلَقًا ، وَفِي
[ ص: 4 ] كَلِمَةِ " لَتَجِدَنَّ " تَأْكِيدَانِ : لَامُ الْقَسَمِ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ ، وَنُونُ التَّوْكِيدِ فِي آخِرِهَا ، وَفِي الْخِطَابِ بِهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَثَانِيهُمَا : أَنَّهُ لِكُلِّ مَنْ يُوَجَّهُ إِلَيْهِ الْكَلَامُ ، وَفِي " النَّاسِ " الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ هَذَا التَّفْصِيلُ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ يَهُودُ
الْحِجَازِ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ وَنَصَارَى
الْحَبَشَةِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ شَعْبٍ وَجِيلٍ ، وَلَكِنْ يَرِدُ عَلَى عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ مَا سَيَأْتِي .
وَأَمَّا صِدْقُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ أَتَمَّ الظُّهُورِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَعَلْنَا الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّ أَشَدَّ مَا لَاقَى بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ قَدْ كَانَ مِنْ يَهُودِ
الْحِجَازِ فِي
الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا ، وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ ، وَلَا سِيَّمَا
مَكَّةُ وَمَا قَرُبَ مِنْهَا ، وَلَمْ يَرَ مِنَ الْعَدَاوَةِ مِثْلَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ وَالْإِيذَاءِ ، بَلْ رَأَى مِنْ نَصَارَى
الْحَبَشَةِ أَحْسَنَ الْمَوَدَّةِ بِحِمَايَةِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ
مَكَّةَ إِلَى
الْحَبَشَةِ ; خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مُشْرِكِيهَا الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُمْ أَشَدَّ الْإِيذَاءِ; لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، حَتَّى قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ : إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ ، وَلَا يَنْفِي هَذَا الْقَوْلَ كَوْنُ الْعِبْرَةِ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ ، وَسَيَأْتِي مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ .
لَمَّا أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=treesubj&link=29383كُتُبَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى الْمُلُوكِ وَرُؤَسَاءِ الشُّعُوبِ ، كَانَ
النَّصَارَى مِنْهُمْ أَحْسَنَهُمْ رَدًّا;
فَهِرَقْلُ nindex.php?page=treesubj&link=30937مَلِكُ الرُّومِ فِي الشَّامِ حَاوَلَ إِقْنَاعَ رَعِيَّتِهِ بِقَبُولِ الْإِسْلَامِ ، فَلَمَّا لَمَّ يَقْبَلُوا لِجُمُودِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ ، وَعَدَمِ فِقْهِهِمْ حَقِيقَةَ الدِّينِ الْجَدِيدِ ، اكْتَفَى بِالرَّدِّ الْحَسَنِ ،
وَالْمُقَوْقِسُ عَظِيمُ
الْقِبْطِ فِي
مِصْرَ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ رَدًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ إِلَى الْإِسْلَامِ مَيْلًا ، وَأَرْسَلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً حَسَنَةً ، ثُمَّ لَمَّا فُتِحَتْ
مِصْرُ وَالشَّامُ عَرَفَ أَهْلُهَا مَزِيَّةَ الْإِسْلَامِ ، دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ، وَكَانَ
الْقِبْطُ أَسْرَعَ لَهُ قَبُولًا .
nindex.php?page=treesubj&link=33976_33983وَقَدْ كَانَ nindex.php?page=showalam&ids=195حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ رَسُولَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ ، وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُ الْكِتَابَ : إِنَّهُ كَانَ قَبْلَكَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ الرَّبُّ الْأَعْلَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=79&ayano=25فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى 79 : 25 ) فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ ، فَاعْتَبِرْ بِغَيْرِكَ وَلَا يَعْتَبِرُ بِكَ غَيْرُكَ ، فَقَالَ (
الْمُقَوْقِسُ ) : إِنَّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إِلَّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، فَقَالَ
حَاطِبٌ : نَدْعُوكَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْكَافِي بِهِ اللَّهُ فَقْدَ سِوَاهُ ، إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ دَعَا النَّاسَ فَكَانَ أَشَدَّهُمْ عَلَيْهِ
قُرَيْشٌ ، وَأَعْدَاهُمْ لَهُ
الْيَهُودُ ، وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ
النَّصَارَى ، وَلَعَمْرِي مَا بِشَارَةُ
مُوسَى بِعِيسَى إِلَّا كَبِشَارَةِ
عِيسَى بِمُحَمَّدٍ ، وَمَا دُعَاؤُنَا إِيَّاكَ إِلَى الْقُرْآنِ ، إِلَّا كَدُعَائِكَ أَهْلَ التَّوْرَاةِ إِلَى الْإِنْجِيلِ ، وَكُلُّ نَبِيٍّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ أُمُّتُهُ ، فَالْحَقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، وَلَسْنَا نَنْهَاكَ عَنْ دِينِ
الْمَسِيحِ وَلَكِنَّا نَأْمُرُكَ بِهِ ( أَيْ هُوَ الْإِسْلَامُ عَيْنُهُ ) فَقَالَ
الْمُقَوْقِسُ : إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا
[ ص: 5 ] النَّبِيِّ فَوَجَدْتُهُ لَا يَأْمُرُ بِمَزْهُودٍ فِيهِ ، وَلَا يَنْهَى عَنْ مَرْغُوبٍ فِيهِ ، وَلَمْ أَجِدْهُ بِالسَّاحِرِ الضَّالِّ وَلَا الْكَاهِنِ الْكَاذِبِ ، وَوَجَدْتُ مَعَهُ آيَةَ النُّبُوَّةِ بِإِخْرَاجِ الْخَبْءِ ، وَالْإِخْبَارِ بِالنَّجْوَى ، وَسَأَنْظُرُ إِلَخْ .
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا حَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=59عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَسُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلِكِ
عُمَانَ جَيْفَرِ بْنِ الْجُلَنْدَى وَأَخِيهِ
عَبْدِ بْنِ الْجُلَنْدَى ، فَإِنَّ
عَمْرًا عَمَدَ أَوَّلًا إِلَى
عَبْدٍ ; لِأَنَّهُ أَحْلُمُ الرَّجُلَيْنِ وَأَمْيَلُهُمَا خُلُقًا ، فَبَلَّغَهُ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ لَهُ
عَبْدٌ : يَا
عَمْرُو ، إِنَّكَ ابْنُ سَيِّدِ قَوْمِكَ فَكَيْفَ صَنَعَ أَبُوكَ ؟ ( قَالَ
عَمْرٌو ) قُلْتُ : مَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ حَتَّى هَدَانِي اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ ، قَالَ : فَمَتَى تَبِعْتَهُ ؟ قُلْتُ : قَرِيبًا ، فَسَأَلَنِي : أَيْنَ كَانَ إِسْلَامُكَ ؟ قُلْتُ : عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيِّ ، وَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيَّ قَدْ أَسْلَمَ ، قَالَ : فَكَيْفَ صَنَعَ قَوْمُهُ بِمُلْكِهِ ؟ فَقُلْتُ : أَقَرُّوهُ وَاتَّبَعُوهُ ، قَالَ : وَالْأَسَاقِفَةُ وَالرُّهْبَانُ تَبِعُوهُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : انْظُرْ يَا
عَمْرُو مَا تَقُولُ ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ خَصْلَةٍ فِي رَجُلٍ أَفْضَحُ مِنَ الْكَذِبِ ، قُلْتُ : مَا كَذَبْتُ وَمَا نَسْتَحِلُّهُ فِي دِينِنَا ، قَالَ : مَا أَرَى
هِرَقْلَ عَلِمَ بِإِسْلَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيِّ ، قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : بِأَيِّ شَيْءٍ عَلِمْتَ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ : كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيُّ يُخْرِجُ لَهُ خَرْجًا فَلَمَّا أَسْلَمَ وَصَدَّقَ
بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : لَا وَاللَّهِ لَوْ سَأَلَنِي دِرْهَمًا وَاحِدًا مَا أَعْطَيْتُهُ ، فَبَلَغَ
هِرَقْلَ قَوْلُهُ ، فَقَالَ لَهُ
الْيَنَّاقُ أَخُوهُ : أَتَدَعُ عَبْدَكَ لَا يُخْرِجُ لَكَ خَرْجًا وَيَدِينُ بِدِينِ غَيْرِكَ دِينًا مُحْدَثًا ؟ قَالَ
هِرَقْلُ : رَجُلٌ رَغِبَ فِي دِينٍ فَاخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ مَا أَصْنَعُ بِهِ ؟ وَاللَّهِ لَوْلَا الضَّنُّ بِمُلْكِي لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ ، قَالَ : انْظُرْ مَا تَقُولُ يَا
عَمْرُو ، قُلْتُ : وَاللَّهِ صَدَقْتُكَ ، قَالَ
عَبْدٌ : فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ؟ قُلْتُ : يَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَنْهَى عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَيَأْمُرُ بِالْبَرِّ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَيَنْهَى عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَعَنِ الزِّنَا وَعَنِ الْخَمْرِ وَعَنْ عِبَادَةِ الْحَجَرِ وَالْوَثَنِ وَالصَّلِيبِ ، قَالَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ أَخِي يُتَابِعُنِي عَلَيْهِ لَرَكِبْنَا حَتَّى نُؤْمِنَ
بِمُحَمَّدٍ وَنُصَدِّقَ بِهِ ، وَلَكِنَّ أَخِي يَضِنُّ بِمُلْكِهِ مِنْ أَنْ يَدَعَهُ وَيَصِيرَ ذَنَبًا ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ ( وَقَدْ أَسْلَمَ الرَّجُلَانِ بَعْدُ ) .
فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32431_29257النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا مُجَاوِرِينَ لِلْحِجَازِ كَانُوا فِي زَمَنِ الْبِعْثَةِ أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَأَقْرَبَ قَبُولًا لِلْإِسْلَامِ ، وَأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْ مُلُوكِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ فَمَا كَانَ تَوَقُّفُهُ إِلَّا ضَنَّا بِمُلْكِهِ ، وَأَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيَّ ( أَصْحَمَةَ ) مَلِكَ
الْحَبَشَةِ قَدْ أَسْلَمَتْ مَعَهُ بِطَانَتُهُ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَنْتَشِرْ فِي
الْحَبَشَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَعْنِ الْمُسْلِمُونَ بِإِقَامَةِ أَحْكَامِهِمْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ كَمَا فَعَلُوا فِي
مِصْرَ وَالشَّامِ مَثَلًا وَهَذَا بَحْثٌ تَارِيخِيٌّ لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِنَا هُنَا ، وَلَكِنْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919449دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ " عَزَاهُ
السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى
أَبِي [ ص: 6 ] دَاوُدَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَعَلَّمَ عَلَيْهِ بِالصِّحَّةِ ، وَقَدْ رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ بِهَذَا اللَّفْظِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِهِ فِي آخِرِ حَدِيثٍ طَوِيلٍ مُلَخَّصُهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مَعْنَاهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003266إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ وَهُوَ يَحْفِرُ فِي الْخَنْدَقِ فِي وَقْعَةِ الْأَحْزَابِ بِلَادَ nindex.php?page=showalam&ids=16848كِسْرَى فَسُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى بِأَنْ يَفْتَحَهَا لِأُمَّتِهِ فَدَعَا ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَرَاهُ مُلْكَ قَيْصَرَ وَدِيَارَ الشَّامِ فَسُئِلَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَفْتَحَهَا لَهُمْ فَدَعَا ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ أَرَاهُ الْحَبَشَةَ ، وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلُوهُ الدُّعَاءَ بِفَتْحِهَا .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ رَأَوْا فِي عَصْرِهِ مِنْ مَوَدَّةِ
النَّصَارَى وَقُرْبِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ مَا رَأَوْا مِنْ عَدَاوَةِ
الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ ، وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ بُعْدُ
النَّصَارَى عَنْهُمْ ، وَقُرْبُ
الْيَهُودِ مِنْهُمْ فِي
الْمَدِينَةِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَعًا ، وَمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ أَبَى تَرْكَ دِينِهِ إِلَى دِينٍ آخَرَ مِنْ بَعِيدٍ ، لَا يَعْنِي بِعَدَاوَةِ أَهْلِهَا وَمُقَاوَمَتِهِمْ كَمَا يُعْنَى الْقَرِيبُ الَّذِي تُوَجَّهُ إِلَيْهِ الدَّعْوَةُ مُوَاجَهَةً وَمُشَافَهَةً ، وَلِذَلِكَ كَانَ
الْيَهُودُ فِي
الشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ يَعْطِفُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْفَتْحِ وَيَرْغَبُونَ فِي نَصْرِهِمْ عَلَى نَصَارَى الرُّومِ وَالْقُوطِ ، ثُمَّ صَارَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالنَّصَارَى مِنَ الْعَدَاوَةِ عَلَى الْمُلْكِ وَالْحُرُوبِ لِأَجْلِهِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَ مِنْ عَدَاوَةِ
الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ; لِسَلَفِهِمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ .
وَالْقَاعِدَةُ لِهَذَا الرَّأْيِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29435_28645الْعَدَاوَةَ وَالْمَوَدَّةَ كَانَتْ وَلَمْ تَزَلْ أَثَرَ التَّنَازُعِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالسِّيَادَةِ بِاسْمِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا ، وَلَا دَخْلَ لِطَبِيعَةِ الدِّينِ فِيهَا ، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا بِمَا يُثِيرُهُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَمَا بَيْنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَيْنِ
الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، وَلَكِنْ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُهُ بَيْنَ مُسْلِمِي
الْهِنْدِ وَمُشْرِكِيهَا; لِتَعَارُضِ مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ فِيهَا ، فَعِلَّةُ الْعَدَاوَةِ وَالْمَوَدَّةِ خَارِجِيَّةٌ لَا دِينِيَّةٌ وَلَا جِنْسِيَّةٌ .
هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي جُمْلَتِهِ لَا تَفْصِيلِهِ ، وَيَنْطَبِقُ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ وَالْمُتَّفِقِينَ فِيهِ ، فَقَدْ حَارَبَ نَصَارَى الْبَلْقَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَمَا حَارَبُوا الْعُثْمَانِيِّينَ ، بَلْ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ مِنَ
النَّصَارَى يُحَارِبُ الْآنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا; كَالْإِنْجِلِيزِ وَالْأَلْمَانِ ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ هُنَا مَعْنًى أَعْلَى مِنْهُمْ وَأَعَمَّ لَا خَاصًّا بِالتَّنَازُعِ .
وَهُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَاوَةِ الْمُعَادِينَ وَمَوَدَّةِ الْمُوَادِّينَ هِيَ الْحَالَةُ الرُّوحِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَثَرُ تَقَالِيدِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ ، وَتَرْبِيَتِهِمُ الْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ ، وَقَدْ نَبَّهَ الْقُرْآنُ إِلَى ذَلِكَ فِي بَيَانِ سَبَبِ مَوَدَّةِ
النَّصَارَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَتَرْكِ
nindex.php?page=treesubj&link=32423_32424سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ الْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ ، لِأَنَّ حَالَتَهُمُ الرُّوحِيَّةَ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ أَتَمَّ الْبَيَانِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ ، وَمِنْ أَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ
الْيَهُودِ هَذِهِ السُّورَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِنَ السُّوَرِ الطُّوَالِ الْمَدَنِيَّةِ ، وَأَوْسَعِهَا بَيَانًا لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ سُورَةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي تَلِيهَا ، وَهِيَ السُّورَةُ الْمَكِّيَّةُ .
[ ص: 7 ] كَانَ
الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ مُشْتَرِكِينَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي اقْتَضَتْ شِدَّةَ الْعَدَاوَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ; فَمِنْهَا الْكِبْرُ ، وَالْعُتُوُّ ، وَالْبَغْيُ ، وَحُبُّ الْعُلُوِّ ، وَمِنْهَا الْعَصَبِيَّةُ الْجِنْسِيَّةُ ، وَالْحَمِيَّةُ الْقَوْمِيَّةُ ، وَمِنْهَا غَلَبَةُ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ ، وَمِنْهَا الْأَثَرَةُ ، وَالْقَسْوَةُ ، وَضَعْفُ عَاطِفَةِ الْحَنَانِ وَالرَّحْمَةِ ، وَكَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ عَلَى جَاهِلِيَّتِهِمْ أَرَقَّ مِنَ
الْيَهُودِ قُلُوبًا ، وَأَكْثَرَ سَخَاءً وَإِيثَارًا ، وَأَشَدَّ حُرِّيَّةً فِي الْفِكْرِ وَالِاسْتِقْلَالِ ، وَمَا قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ
الْيَهُودِ فِي الْآيَةِ إِلَّا لِإِفَادَةِ أَصَالَتِهِمْ وَتَمَكُّنِهِمْ فِيمَا وُصِفُوا بِهِ ، وَتَبْرِيزِهِمْ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ فِيهِ ، وَنَاهِيكَ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنْ قَتْلِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِيذَاءِ بَعْضٍ ، وَاسْتِحْلَالِ أَكْلِ أَمْوَالِ غَيْرِهِمْ بِالْبَاطِلِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ضَلْعِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ
وَالشَّامِ وَالْأَنْدَلُسِ فَإِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَفَيُّؤِ ظِلِّ عَدْلِهِمْ ، وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنَ اضْطِهَادِ نَصَارَى تِلْكَ الْبِلَادِ لَهُمْ ، فَهُمْ لَمْ يَعُدُّوا فِي ذَلِكَ فِي عَادَتِهِمْ ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَا عُرِفَ مِنْ شِنْشِتَهِمْ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا إِلَّا لِمَصْلَحَتِهِمْ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مَا تَرَكَهُ اللَّهُ هُنَا مِنْ بَيَانِ سَبَبِ شِدَّةِ عَدَاوَةِ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ مِنْ سَبَبِ قُرْبَ مَوَدَّةِ
النَّصَارَى بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=82nindex.php?page=treesubj&link=28976_32431ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ
النَّصَارَى أَقْرَبَ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا بِسَبَبِ أَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ وَتَرْبِيَتَهُمُ الدِّينِيَّةَ ، وَرُهْبَانًا يُمَثِّلُونَ فِيهِمُ الزُّهْدَ ، وَتَرْكَ نَعِيمِ الدُّنْيَا ، وَالْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالِانْقِطَاعَ لِعِبَادَتِهِ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْإِذْعَانِ لِلْحَقِّ إِذَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، لِأَنَّهُ أَشْهَرُ آدَابِ دِينِهِمُ التَّوَاضُعُ وَالتَّذَلُّلُ ، وَقَبُولُ كُلِّ سُلْطَةٍ وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ حَاكِمٍ ، بَلْ مِنَ الْمَشْهُورِ فِيهَا : الْأَمْرُ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ ، وَإِدَارَةُ الْخَدِّ الْأَيْسَرِ لِمَنْ ضَرَبَ الْخَدَّ الْأَيْمَنَ ، فَتَدَاوُلُ هَذِهِ الْوَصَايَا وَوُجُودُ أُولَئِكَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ ، لَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي نُفُوسِ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ وَسَوَادِهَا ، فَيُضْعِفُ صِفَةَ الِاسْتِكْبَارِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ فِيهَا ، وَقَدْ عُهِدَ مِنَ
النَّصَارَى قَبُولُ سُلْطَةِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا وَالرِّضَاءُ بِهَا سِرًّا وَجِهَارًا ، وَأَمَّا
الْيَهُودُ فَإِذَا أَظْهَرُوا الرِّضَا بِذَلِكَ اضْطِرَارًا ، وَأَسَرُّوا الْكَيْدَ إِسْرَارًا ، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا .
فَتِلْكَ كَانَتْ صِفَاتِ الْفَرِيقَيْنِ الْغَالِبَةَ لَا أَخْلَاقَ أَفْرَادِ الْأُمَّتَيْنِ كَافَّةً ، فَفِي كُلِّ قَوْمٍ خَبِيثُونَ وَطَيِّبُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=159وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) ( 7 : 159 ) وَلَكِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32425_32423شَرِيعَةَ الْيَهُودِ نَفْسَهَا تُرَبِّي فِي نُفُوسِهِمُ الْأَثَرَةَ الْجِنْسِيَّةَ ، لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِشَعْبِ
إِسْرَائِيلَ ، وَكُلُّ أَحْكَامِهَا وَنُصُوصِهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ :
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ : الْمُرَادُ مِنْهَا تَرْبِيَةُ أَمَةٍ مُوَحِّدَةٍ بَيْنَ أُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ الْكَثِيرَةِ بَعْدَ إِنْقَاذِهَا مِنَ اسْتِعْبَادِ أَشَدِّ الْوَثَنِيِّينَ بَطْشًا ، وَأَضَرِّهُمْ بِالِاسْتِبْدَادِ وَهِيَ أُمَّةُ الْفَرَاعِنَةِ وَلَوْ أَذِنَ اللَّهُ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِنْجَائِهِمْ مِنْ
مِصْرَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَنْ يُخَالِطُوا الْأُمَمَ الَّتِي كَانَتْ
[ ص: 8 ] فِيهَا ، وَجَعَلَ شَرِيعَتَهُمْ عَامَّةً مَبْنِيَّةً عَلَى قَوَاعِدِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَغَلَبَتْ تَعَالِيمَ أُولَئِكَ الْوَثَنِيِّينَ ، وَشُرُورِهِمْ عَلَى الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالتَّوْحِيدِ مَعَ اسْتِعْدَادِهِمُ الْوِرَاثِيِّ لِقَبُولِ تَقَالِيدِ غَيْرِهِمْ وَالْخُضُوعِ لَهُمْ ، وَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِأَلَّا يُبْقُوا فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ نَسْمَةً مَا مِمَّنْ كَانَ فِيهَا قَبْلَهُمْ ، وَكَانَ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحَذِّرُهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ مِنْ مَفَاسِدَ الْوَثَنِيِّينَ بَعْدَهُ .
فَإِنْ قُلْتَ : إِنَّ هَذَا الْإِصْلَاحَ بِتَرْبِيَةِ أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ، بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ أُخْرَى فِي أَخْلَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَفَاسِدِهِ إِلَّا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ أَخْلَاقِ
الْيَهُودِ إِلَى الْآنِ ، الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ اضْطِهَادِ الْأُمَمِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، وَمِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الِانْتِفَاعِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَدَمِ نَفْعِ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنْهُمْ ، إِلَّا إِذَا كَانَ وَسِيلَةً لِمَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَكْبَرَ مِنْهُ ، أَوْ دَفْعَ ضَرَرٍ ، وَتَجَرُّدُ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ عَنْ إِيثَارِ أَحَدٍ غَرِيبٌ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ لَكَفَى ، وَكَانَ شُبْهَةً عَظِيمَةً عَلَى كَوْنِ دِينِهِمْ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=205وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) ( 2 : 105 ) .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ سَهْلٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ تِلْكَ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً لَا دَائِمَةً ، فَكَانَتْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى تَكْوِينِ أُمَّةٍ مُوَحِّدَةٍ بَيْنَ أُمَمِ الْوَثَنِيَّةِ ، وَكَانَ الْمُصْلِحُونَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَعَاهَدُونَ أَهْلَهَا زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ بِالْإِصْلَاحِ الْمَعْنَوِيِّ ، كَإِلَهِيَّاتِ زَبُورِ
دَاوُدَ ، وَأَدَبِيَّاتِ حُكْمِ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ; حَتَّى لَا تَغْلِبَ عَلَى الْقَوْمِ الْمَادِّيَّةُ وَتُفْسِدَهُمُ الْأَثَرَةُ ، ثُمَّ جَاءَ مُصْلِحُ إِسْرَائِيلَ الْأَعْظَمُ
عِيسَى الْمَسِيحُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ يَنْقُضُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى نَقِيضِهِ أَوْ ضِدِّهِ ، فَقَابَلَ مُبَالَغَتَهُمْ فِي الْمَادِّيَّةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الرُّوحَانِيَّةِ ، وَمُبَالَغَتَهُمْ فِي الْأَثَرَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِيثَارِ الَّذِي تُعَبِّرُ عَنْهُ
النَّصَارَى بِإِنْكَارِ الذَّاتِ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي الْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَرِ إِلَى مَقَاصِدِهَا ، فَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ السِّيَادَةَ وَالْغِنَى ، وَذَمَّ التَّمَتُّعَ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا ، وَأَمَرَ بِمَحَبَّةِ الْأَعْدَاءِ وَعَدَمِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيذَاءِ ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمْهِيدًا لِإِكْمَالِ اللَّهِ تَعَالَى دِينَهُ بِإِرْسَالِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ
مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، الْبَارَقْلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ وَيُعَلِّمُ غَيْرَهُمْ كُلَّ شَيْءٍ ، فَيَجْمَعُ لِلْبَشَرِ بَيْنَ مَصَالِحِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ ، وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ لَا بِالْإِحْسَانِ فَقَطْ .
فَمَنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ إِصْلَاحُ
الْمَسِيحِ مِنَ
الْيَهُودِ ظَلُّوا عَلَى جُمُودِهِمْ وَعَصَبِيَّتِهِمْ ، وَكَانُوا أَشَدَّ عَدَاوَةً لِهَذَا النَّبِيِّ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِمَّنْ أَثَّرَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْإِصْلَاحُ وَكَانَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ ، سَوَاءٌ كَانَ أَصْلُهُمْ مِنَ
الْيَهُودِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْوَامِ ، فَكَانُوا أَقْرَبَ مَوَدَّةً لَهُمْ ، وَكَانُوا أَسْرَعَ إِلَى الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=157الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ( 7 : 157 )
[ ص: 9 ] وَمَا كَانَ ذَلِكَ الْإِصْرُ وَالْأَغْلَالُ إِلَّا شِدَّةَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ ، وَشِدَّةِ أَحْكَامِ الْإِنْجِيلِ فِي الزُّهْدِ وَإِذْلَالِ النَّفْسِ وَحِرْمَانِهَا .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ
nindex.php?page=treesubj&link=32431النَّصَارَى أَقْرَبَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِطَبِيعَةِ دِينِ كُلٍّ مِنْهُمَا - وِفَاقًا لِتَعْلِيلِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - كَثْرَةُ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ
النَّصَارَى فِي كُلِّ زَمَانٍ وَقِلَّةِ مَنْ يُسْلِمُ مِنَ
الْيَهُودِ ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَإِعْرَاضُهُمْ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ ، وَلَوْلَا إِهْمَالُهُمُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِبْرَازَهُ بِصُورَتِهِ الصَّحِيحَةِ لِلْأَنَامِ ، وَلَوْلَا فَسَادُ حُكُومَاتِهِمْ وَعَجْزُ رِجَالِهِمْ فِي السِّيَاسَةِ ، وَتَخَلُّفُهُمْ عَنْ مُجَارَاةِ الْأُمَمِ فِي الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ ، وَلَوْلَا بُلُوغُ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ النَّصْرَانِيَّةِ فِيهِ أَوْجَ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ ، وَسَبْقُ أُمَمِهِمْ فِي حَلَبَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَالثَّرْوَةِ ، وَاسْتِمَالَتُهُمْ لِنَصَارَى الشَّرْقِ وَجَذْبُهُمْ إِلَيْهِمْ ، وَاعْتِزَازُ هَؤُلَاءِ بِهِمْ ، وَتَلَقِّيهِمْ أَسَالِيبَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ عَنْهُمْ ، وَجَعْلُ الدِّينِ فِيهَا مِنَ الْمُقَوِّمَاتِ الْجِنْسِيَّةِ لِلْأَقْوَامِ وَالشُّعُوبِ تُرَبَّى عَلَى أَنْ تُحَافِظَ عَلَيْهَا كَمَا تُحَافِظُ عَلَى لُغَتِهَا ، فَلَا تَسْتَبْدِلُ بِهَا غَيْرَهَا وَإِنَّ كَانَتْ خَيْرًا مِنْهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوَانِينِ هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَأَسَالِيبِهَا وَلَوْلَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ التَّنَازُعِ السِّيَاسِيِّ الدُّنْيَوِيِّ بَيْنَ دُوَلِنَا وَدُوَلِهِمْ ، لَوْلَا ذَلِكَ كُلُّهُ لَكَانَتِ الْمَوَدَّةُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَتَمَّ وَانْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ أَعَمَّ ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ إِصْلَاحٌ فِي النَّصْرَانِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ إِصْلَاحٌ فِي
الْيَهُودِيَّةِ ،
فَالْيَهُودُ الَّذِينَ عَادَوُا النَّصْرَانِيَّةَ كَانُوا أَحْذَرَ مِمَّنْ صَلَحُوا بِهَا بِعَدَاوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَدِينِ اللَّهِ عَلَى أَلْسِنَةِ
مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّهُ جَرَى مَعَ الْبَشَرِ عَلَى سُنَّةِ الِارْتِقَاءِ ، إِلَى أَنْ بَلَغَ سِنَّ الْكَمَالِ .
فَإِنْ قِيلَ : إِذَا كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32431سَبَبَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كَوْنِ النَّصَارَى أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ هُوَ تَعَالِيمُ دِينِهِمْ وَتَقَالِيدُهُ ، وَأَنَّهُ لِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيهِمْ ، وَإِنْ نَزَلَ فِي طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمْ ، وَإِذَا انْتَفَتِ الْمَوَانِعُ فَبِمَاذَا تُجِيبُ عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=33882الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ الَّتِي أَوْقَدَ النَّصَارَى نَارَهَا بِاسْمِ الدِّينِ ، وَلَمْ يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهَا مِنَ
الْيَهُودِ وَلَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ سَائِرُ الْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالنَّصَارَى ؟ فَإِنَّ عِنْدِي جَوَابَيْنِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَوْ جَوَابًا مِنْ وَجْهَيْنِ :
( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدِّينِ الْقَرِيبِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ ، بَلِ الَّذِي هُوَ إِصْلَاحٌ فِيهَا وَإِكْمَالٌ لَهَا كَمَا قَرَّرْنَا ، لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا عِنْدَ أُولَئِكَ الصَّلِيبِينَ ، بَلْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ صُورَةً فِي مُخَيِّلَاتِهِمْ غَيْرَ صُورَتِهِمُ الصَّحِيحَةِ الَّتِي طَبَعَهَا فِي قُلُوبِهِمْ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ ، صُورَةً وَثَنِيَّةً وَحْشِيَّةً مُشَوَّهَةً أَقْبَحَ التَّشْوِيهِ ، مُنْعَكِسَةً عَنِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ الَّتِي كَانَ يُنْشِئُهَا بُطْرُسُ الرَّاهِبُ وَأَمْثَالُهُ ، وَلَوْ وَصَفَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ قَوْمٌ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مُثِيرُو الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ وَدَعَوْا إِلَى قِتَالِهِمْ لَنَفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا .
[ ص: 10 ] ( ثَانِيهُمَا ) أَنَّ مَا فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ رُوحِ السَّلَامِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْإِيثَارِ ، وَالْخُضُوعِ لِكُلِّ سُلْطَانٍ ، لَمْ يَنْتَصِرْ فِي
أُورُبَّةَ عَلَى رُوحِ الْحَرْبِ وَالْأَثَرَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَحُبِّ السِّيَادَةِ فِي الْأَرْضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ فِي عَهْدِ السُّلْطَةِ الرُّومَانِيَّةِ أَشُدَّهَا ، وَكَانَتْ سَبَبَ إِبَادَةِ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ أُورُبَّةَ كُلِّهَا ، ثُمَّ سَبَبَ الْحَرْبِ الصَّلِيبِيَّةِ ، وَمُحَاوَلَةَ إِبَادَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ أَوِ الشَّرْقِ كُلِّهِ ، بَلْ كَانَتْ وَلَا تَزَالُ سَبَبَ الْحُرُوبِ الْقَاسِيَةِ بَيْنَ
النَّصَارَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ ، أَوِ التَّنَازُعِ عَلَى الْمَمَالِكِ ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَعَالِيمِ رُوحِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ تَأْثِيرِ تَعْلِيمِ رُوحِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنْ رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلَامًا عَلَى الْأَرْضِ إِنَّمَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَيْفًا .
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29435_28645_32431مَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى مِنْ عَدَاءٍ فَإِنَّمَا سَبَبُهُ بُعْدُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ هِدَايَةِ دِينِهِ ، أَوْ جَهَالَةٍ وَسُوءِ فَهْمٍ وَقَعَ بَيْنَهُمَا ، وَأَمْرُ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ دُوَلِهِمَا ظَاهِرٌ ، وَلَا يَنْسُبُهُ إِلَى طَبِيعَةِ دِينِهِمَا إِلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُكَابِرٌ ، فَالدَّوْلَةُ الْعُثْمَانِيَّةُ كَانَتْ قَدْ فَتَحَتْ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِهِمْ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ ، فَلَمَّا دَالَتْ لَهُمُ الْقُوَّةُ تَأَثَّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ السَّاسَةُ الْبَلْقَانِيُّونَ قَدْ هَاجُوا شُعُوبَهُمْ عَلَى قِتَالِهَا بِاسْمِ الصَّلِيبِ وَالْمَسِيحِ ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ كَذَّبَ اللَّهُ تَعَالَى دَعْوَاهُمُ الْمَسِيحِيَّةَ بِإِيقَادِهِمْ نَارَ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ ، فَمَا زَالَ أَئِمَّةُ السِّيَاسَةِ الْمُضِلُّونَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يَتَّخِذُونَ الدِّينَ أُخْدُوعَةً يَخْدَعُونَ بِهَا الْعَامَّةَ لِتَأْيِيدِ سِيَاسَتِهِمْ ، حَتَّى فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32423_29435_32422الْيَهُودِيَّةَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ لِأَنَّهَا دِيَانَةُ تَوْحِيدٍ ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ دِيَانَةُ تَثْلِيثٍ ، وَالتَّوْحِيدُ هُوَ أَسَاسُ دِينِ اللَّهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ ، وَهُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ فِي الْعَقَائِدِ وَلِذَلِكَ يَغْفِرُ اللَّهُ كُلَّ ذَنْبٍ إِلَّا الشِّرْكَ .
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29434عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ الدَّخِيلَةَ فِي الْمَسِيحِيَّةِ لَمَّا كَانَتْ لَا تُفْهَمُ وَلَا تُعْقَلُ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي أَنْفُسِ أَهْلِهَا بِبُعْدِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ ، بَلْ رُبَّمَا كَانَتْ مِنْ أَسْبَابِ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ الْأَعْظَمُ فِي تَقْرِيبِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَوْ ضِدِّهِ لِلْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ . وَإِنَّنَا نَرَى فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالنَّصَارَى مَا لَا نَرَى مِثْلَهُ بَيْنَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الدِّينِ ، وَمَا ضَعُفَتْ هَذِهِ الْمَوَدَّةُ فِي بَلَدٍ إِلَّا بِفِتَنِ السِّيَاسَةِ ، وَعَصَبِيَّاتِ أَهْلِ الرِّيَاسَةِ ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى مُثِيرِي الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ عِبَادِ اللَّهِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ ، أَوْ إِرْضَاءً لِرُؤَسَائِهِمْ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْأَلْفَاظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الرُّهْبَانَ جَمْعُ رَاهِبٍ ( كَرُكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ ) وَهُوَ الْمُتَبَتِّلُ الْمُنْقَطِعُ فِي دَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلْعِبَادَةِ وَحِرْمَانِ النَّفْسِ مِنَ التَّنَعُّمِ بِالزَّوجِ وَالْوَلَدِ
[ ص: 11 ] وَلَذَّاتِ الطَّعَامِ وَالزِّينَةِ ، فَهُوَ مِنَ الرَّهْبَةِ بِمَعْنَى الْخَوْفِ ، أَوْ مِنْ رَهَبِ الْإِبِلِ وَهُوَ هُزَالُهَا وَكَلَالُهَا مِنْ طُولِ السَّيْرِ ، وَأَنَّ الْقِسِّيسِينَ جَمْعُ قِسِّيسٍ وَمِثْلُهَا قَسٌّ وَجَمْعُهُ قُسُوسٌ وَهُوَ رَئِيسٌ دِينِيٌّ فِي عُرْفِ الْكَنِيسَةِ فَوْقَ الشَّمَّاسِ وَدُونَ الْأَسْقُفِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ قَسَّ الْإِبِلَ يَقُسُّهَا مِنْ بَابِ نَصَرَ قَسًّا ( بِتَثْلِيثِ الْقَافِ ) إِذَا أَحْسَنَ رَعْيَهَا وَسَقْيَهَا ، وَالْأَصْلُ فِي الْقِسِّيسِينَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ لِأَنَّهُمْ رُعَاةٌ وَمُفْتُونَ ، فَيَكُونُ ذِكْرُ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادِ وَالْعُلَمَاءِ ، وَكَوْنُ
nindex.php?page=treesubj&link=8911_8917الرَّهْبَانِيَّةِ بِدْعَةً فِي النَّصْرَانِيَّةِ لَا يُنَافِي تَأْثِيرَهَا فِي تَقْرِيبِ
النَّصَارَى مِنْ مَوَدَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَرَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَوْلًا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانَ مَنْ آمَنَ
بِعِيسَى فِي عَهْدِهِ
كَالْحَوَارِيِّينَ وَقَوْلًا آخَرَ : الْمُرَادُ بِهِمْ جَمَاعَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=888النَّجَاشِيِّ ، وَسَيَأْتِي بَعْضُ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةَ آخِرَ الْجُزْءِ السَّادِسِ ، لِأَنَّ التَّجْزِئَةَ لَا تُرَاعَى فِيهَا الْمَعَانِي ، وَيَبْدَأُ الْجُزْءُ السَّابِعُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :