[ ص: 128 ] إبطال  ابن حزم  القياس والرأي    : 
( مسألة ) ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي ; لأن أمر الله تعالى بالرد عند التنازع إلى كتابه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد صح ، فمن رد إلى قياس أو إلى تعليل يدعيه أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المتعلق بالإيمان ، ورد إلى غير ما أمره الله تعالى بالرد إليه ، وفي هذا ما فيه . 
( قال علي    ) : وقول الله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء    ) ( 6 : 38 ) وقوله تعالى : ( تبيانا لكل شيء    ) ( 16 : 89 ) وقوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم    ) ( 16 : 44 ) وقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم    ) ( 5 : 3 ) إبطال للقياس والرأي; لأنه لا يختلف أهل القياس والرأي في أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نص . وقد شهد الله تعالى بأن النص لم يفرط فيه شيئا ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين للناس كل ما نزل إليهم ، وأن الدين قد كمل فصح أن النص قد استوفى جميع الدين . فإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بأحد إلى قياس ولا إلى رأي ولا إلى رأي غيره . 
ونسأل من قال بالقياس : هل كل قياس قاسه قائس حق ؟ أم منه حق ومنه باطل ؟ فإن قال : كل قياس حق أحال; لأن المقاييس تتعارض ويبطل بعضها بعضا ، ومن المحال أن يكون الشيء وضده من التحريم والتحليل حقا معا ، وليس هذا مكان نسخ ولا تخصيص كالأخبار المتعارضة التي ينسخ بعضها بعضا ويخصص بعضها بعضا . وإن قال : بل منها حق ومنها باطل قيل له : فعرفنا بماذا يعرف القياس الصحيح من الفاسد ؟ ولا سبيل لهم إلى وجود ذلك . 
وإذا لم يوجد دليل على تصحيح الصحيح من القياس من الباطل منه فقد بطل كله ، وصار دعوى بلا برهان . 
فإن ادعوا أن القياس قد أمر الله تعالى به ، سئلوا : أين وجدوا ذلك ؟ فإن قالوا : قال الله عز وجل : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار    ) ( 59 : 2 ) قيل لهم : إن الاعتبار ليس هو كلام العرب الذي نزل به القرآن إلا التعجب قال الله تعالى : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة    )   [ ص: 129 ] أي تعجبا ، وقال تعالى : ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب    ) ( 12 : 111 ) أي عجب . ومن الباطل أن يكون معنى الاعتبار القياس ، ويقول الله تعالى لنا : قيسوا ، ثم لا يبين لنا ماذا نقيس ؟ ولا كيف نقيس ؟ ولا على ماذا نقيس ؟ هذا ما لا سبيل إليه; لأنه ليس في وسع أحد أن يعلم شيئا من الدين إلا بتعليم الله تعالى إياه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها    ) ( 2 : 286 ) . 
فإن ذكروا أحاديث وآيات فيها تشبيه شيء بشيء ، وأن الله قضى وحكم بأمر كذا من أجل أمر كذا ، قلنا لهم : كل ما قاله الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو حق ، لا يحل لأحد خلافه ، وهو نص به نقول ، وكيفما تريدون أنتم أن تشبهوه في الدين ، وأن تعلقوه مما لم ينص عليه الله تعالى ، ولا رسوله عليه السلام فهو باطل وإفك ، وشرع لم يأذن الله تعالى به . وهذا يبطل عليهم تمويههم بذكر آية جزاء الصيد ، و " أرأيت لو مضمضت " و ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل    ) ( 5 : 32 ) وكل آية وحديث موهوا بإيراده ، وهو مع ذلك حجة عليهم ، على ما بيناه في ( كتاب الإحكام لأصول الأحكام ) وفي ( كتاب النكت ) وفي ( كتاب الدرة ) و ( كتاب النبذ ) . 
( قال علي    ) : وقد عارضناهم في كل قياس قاسوه بقياس مثله أو أوضح منه على أصولهم لنريهم فساد القياس جملة ، فموه منهم مموهون . فإن قالوا : أنتم دابا تبطلون القياس بالقياس ، وهذا منكم رجوع إلى القياس واحتجاج به ، وأنتم في ذلك بمنزلة المحتج بحجة العقل ليبطل حجة العقل ، وبدليل من النظر ليبطل به النظر . 
( قال علي    ) فقلنا : هذا شغب يسهل إفساده ولله الحمد ، ونحن لم نحتج بالقياس في إبطال القياس ، ومعاذ الله من هذا ، لكن أريناكم أن أصلكم الذي أتيتموه من تصحيح القياس يشهد بفساد قياساتكم ، ولا قول أظهر باطلا من قول أكذب نفسه ، وقد نص الله تبارك وتعالى على هذا فقال : ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم    ) ( 5 : 18 ) فليس هذا تصحيحا لقولهم : إنهم أبناء الله وأحباؤه ، ولكن إلزاما لهم ما يفسد به قولهم . ولسنا في ذلك كمن ذكرتم ممن يحتج في إبطال حجة العقل بحجة العقل; لأن فاعل ذلك مصحح القضية العقلية التي يحتج بها ، فظهر تناقضه من قرب ، ولا حجة له غيرها ، فقد ظهر بطلان قوله . وأما نحن فلم نحتج قط في إبطال القياس بقياس نصححه ، ولكنا نبطل القياس بالنصوص وبراهين العقل . ثم نزيد بيانا في فساده منه نفسه بأن نرى تناقضه جملة فقط ، والقياس الذي نعارض به قياسكم نحن نقر بفساده وفساد قياسكم الذي   [ ص: 130 ] هو مثله أو أضعف منه ، كما نحتج على أهل كل مقالة من معتزلة  ، ورافضة  ، ومرجئة  ، وخوارج  ، ويهود  ، ونصارى  ، ودهرية  ، من أقوالهم التي يشهدون بصحتها ، فنريهم فسادها وتناقضها ، وأنتم تحتجون عليهم معنا بذلك ولسنا نحن ولا أنتم ممن يقر بتلك الأقوال التي نحتج عليهم منها ، بل هي عندنا في غاية البطلان والفساد كاحتجاجنا على اليهود  والنصارى  من كتبهم التي بأيديهم ونحن لا نصححها ، بل نقول : إنها محرفة مبدلة ؛ لكن لنريهم تناقض أصولهم وفروعهم ، لا سيما وجميع أصحاب القياس مختلفون في قياساتهم ، لا تكاد توجد مسألة إلا وكل طائفة منهم تأتي بقياس تدعي صحته تعارض به قياس الأخرى . 
وهم كلهم مقرون مجمعون على أنه ليس كل قياس صحيحا ولا كل رأي حقا ، فقلنا لهم : فهاتوا حد القياس الصحيح والرأي الصحيح الذين يتميزان به من القياس الفاسد . وهاتوا حد العلة الصحيحة التي لا تقيسون إلا عليها من العلة الفاسدة ، فلجلجوا . 
( قال علي    ) : وهذا مكان إن زم عليهم فيه ظهر فساد قولهم جملة ولم يكن لهم إلى جواب يفهم سبيل أبدا ، وبالله تعالى التوفيق . 
فإن أتوا في شيء من ذلك بنص قلنا : النص حق ، والذي تريدون أنتم إضافته إلى النص بآرائكم باطل ، وفي هذا خولفتم ، وهكذا أبدا . 
فإن ادعوا أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على القول بالقياس قيل لهم : كذبتم ، بل الحق أنهم كلهم أجمعوا على بطلانه . برهان كذبهم : أنه لا سبيل لهم إلى وجود حديث عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه أطلق الأمر بالقول بالقياس أبدا ، إلا في الرسالة المكذوبة الموضوعة على عمر  رضي الله عنه فإن فيها : " واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور " وهذه رسالة لم يروها إلا عبد الملك بن الوليد بن معدان  عن أبيه ، وهو ساقط بلا خلاف ، وأبوه أسقط منه أو ممن هو مثله في السقوط ، فكيف وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر  رضي الله عنه ؟ منها قوله فيها : " والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو ظنينا في ولاء أو نسب " وهم لا يقولون بهذا ، يعني جميع الحاضرين من أصحاب القياس حنفيهم ومالكيهم وشافعيهم ، فإن كان قول عمر  لو صح في تلك الرسالة في القياس حجة ، فقوله في أن المسلمين عدول كلهم إلا مجلودا في حد حجة . فليس قوله في القياس حجة لو صح ، فكيف ولم يصح ؟   [ ص: 131 ] وأما برهان صحة قولنا في إجماع الصحابة رضي الله عنهم على إبطال القياس ، فإنه لا يختلف اثنان في أن جميع الصحابة رضي الله عنهم مصدقون بالقرآن وفيه : ( اليوم أكملت لكم دينكم    ) ( 5 : 3 ) ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر    ) ( 4 : 59 ) فمن الباطل المحال أن يكون الصحابة رضي الله عنهم يعلمون هذا ويؤمنون به ثم يردون عند التنازع إما إلى قياس أو رأي . هذا ما لا يظنه بهم ذو عقل . 
فكيف وقد ثبت عن  الصديق  رضي الله عنه أنه قال : " أي أرض تقلني أو أي سماء تظلني ، إن قلت في آية من كتاب الله برأيي ، أو بما لا أعلم   " وصح عن  الفاروق  رضي الله عنه أنه قال : " اتهموا الرأي على الدين ، وإن الرأي منا هو الظن والتكلف   " وعن عثمان  رضي الله عنه في فتيا أفتاها " إنما كان رأيا رأيته فمن شاء أخذه ومن شاء تركه   " وعن علي  رضي الله عنه : " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه   " وعن  سهل بن حنيف  رضي الله عنه : " أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم   " وعن  ابن عباس  رضي الله عنه : " من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من جهنم   " وعن  ابن مسعود  رضي الله عنه : " سأقول فيها بجهد رأيي   " . وعن  معاذ بن جبل  في حديث : " تبتدع كلاما ليس من كتاب الله عز وجل ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإياكم وإياه; فإنه بدعة وضلالة   " فعلى هذا النحو هو كل رأي . 
وروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم لا على أنه إلزام ولا أنه حق ، ولكنه إشارة بعفو أو صلح أو تورع فقط لا على سبيل الإيجاب . . . وحديث معاذ  الذي فيه : " أجتهد رأيي ولا آلو   " لا يصح لأنه لم يروه أحد إلا الحارث بن عمرو  وهو مجهول لا يدرى من هو ، عن رجال من أهل حمص  لم يسمهم عن معاذ    . وقد تقصينا إسناد هذه الأحاديث كلها في كتبنا المذكورة ولله تعالى الحمد . 
حدثنا أحمد بن قاسم  ، نا ابن قاسم بن محمد بن قاسم  ، نا جدي  قاسم بن أصبغ  ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي  ، نا  نعيم بن حماد  ، نا  عبد الله بن المبارك  ، نا  عيسى بن يونس  ، عن  أبي إسحاق السبيعي  ، عن  جرير بن عثمان  ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نصير  ، عن أبيه ، عن  عوف بن مالك الأشجعي  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم ، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال   " . 
قال علي    : والشريعة كلها إما فرض يعصي من تركه ، وإما حرام يعصي من فعله ،   [ ص: 132 ] وإما مباح لا يعصي من فعله ولا من تركه . وهذا المباح ينقسم ثلاثة أقسام : إما مندوب إليه يؤجر من فعله ولا يعصي من تركه ، وإما مكروه يؤجر من تركه ولا يعصي من فعله ، وإما مطلق لا يؤجر من فعله ولا من تركه ، ولا يعصي من تركه ولا من فعله . وقال الله عز وجل : ( خلق لكم ما في الأرض جميعا    ) ( 2 : 29 ) وقال تعالى : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم    ) ( 6 : 119 ) فصح أن كل شيء حلال إلا ما فصل تحريمه في القرآن والسنة . حدثنا عبد الله بن يوسف  ، نا أحمد بن فتح  ، نا عبد الوهاب بن عيسى  ، نا أحمد بن محمد  ، نا أحمد بن علي  ، نا  مسلم بن الحجاج  ، نا  زهير بن حرب  ، نا  يزيد بن هارون  ، نا  الربيع بن مسلم القرشي  ، عن  محمد بن زياد  ، عن  أبي هريرة  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : " أيها الناس ! إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى أعادها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه   " . 
( قال علي    ) : فجمع هذا الحديث جميع أحكام الدين أولها عن آخرها . ففيه أن ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح وليس حراما ولا فرضا ، وأن ما أمر به فهو فرض ، وما نهى عنه فهو حرام ، وأن ما أمرنا ( به ) فإنما يلزمنا منه ما نستطيع فقط ، وأن نفعل مرة واحدة نؤدي ما ألزمنا ، ولا يلزمنا تكراره فأي حاجة بأحد إلى القياس أو رأي مع هذا البيان الواضح ، ونحمد الله على عظيم نعمه . 
فإن قال قائل منهم : لا يجوز إبطال القول بالقياس إلا حتى توجدونا تحريم القول به نصا في القرآن . قلنا : قد أوجدناكم البرهان نصا بذلك بألا تردوا التنازع إلا إلى القرآن والسنة فقط ، قال الله تعالى : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء    ) ( 7 : 3 ) وقال تعالى : ( فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون    ) ( 16 : 74 ) والقياس ضرب أمثال في الدين لله تعالى . 
ثم يقال لهم : إن عارضتم الروافض  بمثل هذا فقالوا لكم : لا يجوز القول بإبطال الإلهام ، ولا بإبطال اتباع الإمام ، إلا حتى توجدونا تحريم ذلك نصا . أو قال لكم ذلك أهل كل مقالة في تقليد إنسان بعينه ، بماذا تتفصون ؟ بل الحق أن يقال : إنه لا يحل أن يقال على الله تعالى : إنه حرم أو حلل أو أوجب إلا بنص فقط ، وبالله تعالى التوفيق اهـ . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					