( بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=2هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=3وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ) .
افتتح الله كتابه بالحمد ، ثم افتتح به أربع سور مكيات أخرى مشتملة كل منها على دعوة الإسلام ومحاجة المشركين فيها ، الأولى " الأنعام " وهي آخر سورة كاملة في الربع الأول من القرآن ، والثانية " الكهف " وهي مشتركة بين آخر الربع الثاني وأول الربع الثالث والثالثة والرابعة " سبأ " و " فاطر " ، وهما آخر الربع الثالث ، وليس في الربع الرابع سورة مفتتحة بالحمد ، وقد قرن الحمد في الأولى بخلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، وفي الثانية بإنزال القرآن على عبده الكامل ، وكل منهما سمي نورا بل هما أعظم أنوار الهداية وفي الثالثة بخلق السماوات والأرض وبحمده تعالى في الآخرة ، وبصفات الحكمة والخبرة والعلم بما ينزل من السماء وما يعرج فيها والرابعة بخلق السماوات والأرض وجعل الملائكة
[ ص: 244 ] رسلا أولي أجنحة ووصفه بسعة القدرة ،
nindex.php?page=treesubj&link=28734والملائكة من الأنوار الإلهية التي تنزل من السماء والتي تعرج فيها . فظهر بها أن السور الثلاث مفصلة لما أجمل في الأولى " الأنعام " مما حمد الله عليه ، كما أنها مؤيدة لما فيها من إثبات التوحيد والرسالة والبعث .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور )
nindex.php?page=treesubj&link=33144الحمد هو الثناء الحسن والذكر بالجميل كما تقدم شرحه في سورة الفاتحة ، وإسناد الحمد إلى الله تعالى خبر منه تعالى على المختار ، والعبد يحكيه بالتلاوة مؤمنا به فيكون حامدا لمولاه ، ويذكره في غير التلاوة إنشاء للحمد وتذكرا له ، ويجوز أن يكون الحمد هنا إنشاء منه تعالى ، وإن إنشاء الحمد بالجملة الخبرية جمع بين الخبر والإنشاء ، أثنى سبحانه على نفسه بما علم به عباده الثناء عليه ، فأثبت أن كل ثناء حسن فهو ثابت له بالاستحقاق وبما هو متصف به من الخلق والإيجاد والإعداد والإمداد . فذاته تعالى متصفة بجميع صفات الكمال وجوبا فالكمال الأعلى داخل في مفهوم حقيقتها أو لازم بين من لوازمه . وقد وصف تعالى نفسه في مقام هذا الحمد بصفتين من صفاته الفعلية التي هي من موجبات الحمد له ، وهما خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور .
أما
nindex.php?page=treesubj&link=31756خلق السماوات والأرض فمعناه إيجاد هذه العوالم العلوية التي نرى كثيرا منها فوقنا ، وهذا العالم الذي نعيش فيه إيجادا مرتبا منظما . وقد تقدم القول في معنى الخلق لغة وشرعا .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28977جعل الظلمات والنور فهو في الحسيات بمعنى إيجادهما لأن هذا هو معنى الجعل المتعدي إلى مفعول واحد ، وسيأتي بيان معناه في المعنويات . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في الكشاف جعل يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وجعل الظلمات والنور ) وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=19وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) ( 43 : 19 )
nindex.php?page=treesubj&link=28910والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئا ، أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=189وجعل منها زوجها ) ( 7 : 189 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وجعل الظلمات والنور ) لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=38وجعلنا لهم أزواجا ) ( 13 : 38 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=5أجعل الآلهة إلها واحدا ) ( 38 : 5 ) اهـ . وقد أخذه
الرازي من غير عزو وزاد عليه قوله : وإنما حسن لفظ الجعل هنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر انتهى . وقال
أبو السعود : والجعل هو الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني .
[ ص: 245 ] وفيه معنى التقدير والتسوية ، وهذا عام له كما في الآية الكريمة وللتشريعي أيضا كما في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103ما جعل الله من بحيرة ) الآية انتهى المراد منه ، وفيه كلام آخر فيما يلابس مفعوله من الظروف ، وقد بينا في تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=97جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ) ( 5 : 97 ) أن الجعل فيها خلق تكويني وأمر شرعي معا . وقد بين
الراغب في مفرداته وجوه استعمال الجعل فكانت خمسة فليراجعها في مفرداته من شاء .
والظلمة الحالة التي يكون عليها كل مكان ليس فيه نور ، لا عدم النور أي فقده كما يوهمه كلام كثير من العلماء مع قولهم إن الظلمة هي الأصل كما سيأتي . قال
الراغب : الظلمة عدم النور ، وقال : النور الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار ، وقال : الضوء ما انتشر من الأجسام النيرة ، ويقال : ضاءت النار وأضاءها غيرها انتهى . وفرق بعضهم بين الضياء والنور بما لا محل لذكره هنا . ولا يوجد شيء من العالم أظهر ولا أغنى عن التعريف من المظاهر الحسية للرب تبارك وتعالى . على أن بيان حقيقته العلمية من أعسر الأمور ، وكثيرا ما كان الخفاء من شدة الظهور ، وأقرب ما نعرفه به للجمهور أن نقول : هو اشتعال يحدث في أجسام لطيفة منبثة في الهواء وفي الأجسام الكثيفة التي تستوقد بها النار .
والنور قسمان : حسي صوري ، وهو ما يدرك بالبصر ، ومعنوي عقلي أو روحي وهو ما يدرك بالبصيرة ، وقد
nindex.php?page=treesubj&link=28867أطلقت كلمة النور في التنزيل على القرآن ، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في سورتي النساء والمائدة .
وقد أفرد النور وجمعت الظلمة هنا وفي كل آية قوبل فيها بين النور والظلام سواء كان ذلك في الحسي أو المعنوي ، بل لم يذكر النور في القرآن ، إلا مفردا والظلمة إلا جمعا وحكمة ذلك أن النور شيء واحد وإن تعددت مصادره ، ولكنه يكون قويا ويكون ضعيفا وأما الظلمة فهي تحدث بما يحجب النور من الأجسام غير النيرة وهي كثيرة جدا ، وكذلك النور المعنوي شيء واحد في كل نوع من أنواعه أو جزئي من جزئياته ، ويقابل كلا منهما ظلمات متعددة ، فالحق واحد لا يتعدد والباطل الذي يقابله كثير ، والهدى واحد لا يتعدد والضلال الذي يقابله كثير ، مثال ذلك توحيد الله تعالى وما يقابله من التعطيل والشرك في الألوهية بأنواعه ، والشرك في الربوبية بأنواعه وفضيلة العدل وما يقابلها من أنواع الظلم وقد بينا ذلك في تفسير سورتي البقرة والمائدة .
وقدمت الظلمات في الذكر على النور لأن جنسها مقدم في الوجود ، فقد وجدت مادة الكون وكان دخانا مظلما أو سديما كما يقول علماء الفلك ثم تكونت الشموس بما حدث فيها من الاشتعال من شدة الحركة كما يقولون ، ويشير إليه أو يؤيده حديث
عبد الله [ ص: 246 ] بن عمرو عند
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=hadith&LINKID=919655 " إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره وفي رواية ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل والظاهر أن هذا النور هو المعنوي من حيث إنه مشبه بالنور الحسي في تكوينه . وأما حديث
عائشة عند
مسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=919656 " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " فالظاهر أن النور فيه هو الحسي ، ولا يقتضي ذلك أن ترى الملائكة كما يرى النور فالفرق بين الشيء وما خلق منه أصله عظيم كما نراه في أنفسنا . ويجوز أن يكونوا من نور غير هذا الذي نراه بأعيننا .
وسبق الظلمات المعنوية للنور المعنوي أظهر ، فإن نور العلم والهداية كسبي في البشر وما كان غير كسبي في ذاته كالوحي فتلقيه كسبي وفهمه والعمل به كسبيان ، وظلمات الجهل والأهواء سابقة على هذا النور ، فالرسول لا يولد رسولا وإنما يؤتى الرسالة إذا بلغ أشده واستوى ، والعالم لا يولد عالما ، ولا الفاضل فاضلا
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003292 " إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم " (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) ( 16 : 78 ) .
وقد اختلف مفسرو السلف في المراد من الظلمات والنور هنا فأخرج
أبو الشيخ عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس "
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977وجعل الظلمات والنور " قال : الكفر والإيمان . وأخرج هو وغيره عن
قتادة أنه قال في الآية : "
nindex.php?page=treesubj&link=28661خلق الله السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار " إلخ وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : الظلمات ظلمة الليل والنور نور النهار . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن
مجاهد قال : نزلت هذه الآية في الزنادقة . قالوا : إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئا قبيحا وإنما خلق النور وكل شيء حسن ، فأنزل الله فيهم هذه الآية ، وأخرج
أبو الشيخ عنه أيضا أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977خلق السماوات والأرض ) رد على الزنادقة المنكرين لوجود الله تعالى وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977وجعل الظلمات والنور ) رد على المجوس الذين زعموا أن الظلمة والنور هما المدبران وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) رد على مشركي العرب ومن دعا دون الله إلها .
وجملة القول أن بعضهم قال بأن المراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية وبالنور النور الحسي ، وبعضهم قال بما يقابل ذلك ، وفي القول الأول رد على المجوس أو الثنوية الذين زعموا أن للعالم ربين ، أحدهما النور وهو الخالق للخير ، والثاني الظلمة وهو خالق الشر . ويجوز الجمع بين إرادة الحسي والمعنوي من كل من اللفظين . وقال
الواحدي : الأول حمل اللفظين عليهما واستشكله
الرازي ; لأنه مبني على القول بجواز
nindex.php?page=treesubj&link=28914الجمع بين الحقيقة والمجاز ، والمختار عندنا جوازه وجواز استعمال المشترك في معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام
[ ص: 247 ] ذلك بلا التباس كما هنا ، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا ، فإن الجعل يشمل الخلق والأمر أي الشرع كما تقدم فيفسر جعل كل نور بما يليق به ، فجعل الدين شرعه والقرآن إنزاله والرسول إرساله والعلم والهدى تهيئة أسبابهما .
وقد ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=31756خلق السماوات على
nindex.php?page=treesubj&link=31756خلق الأرض لأنه أعظم وأشرف ، وقيل : لأنها خلقت قبل الأرض كما ذكر عن قتادة آنفا والأول أظهر ، وفي الثاني خلاف معروف .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) هذه الجملة معطوفة على جملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الحمد لله ) أو على جملة "
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1خلق السماوات والأرض " وقد عطفت بثم الدالة على بعد ما بين مدلولي المعطوف والمعطوف عليه; لإفادة استبعاد ما فعله الكافرون وكونه ضد ما كان يجب عليهم للإله الحقيق بجميع المحامد; لكونه هو الخالق لجميع الكون العلوي والسفلي وما فيه من الظلمات الحسية والمعنوية ، والهادي لما فيه من النور الذي يهتدي به الموفقون في كل ظلمة منها ، كأنه قال : وهم مع ذلك يعدلون به غيره أي يجعلونه عدلا له ، أي عديلا مساويا له في كونه يعبد ويدعى لكشف الضر وجلب النفع ، فهو بمعنى يشركون به ، ويتخذون له أندادا وقيل : يعدلون بأفعاله عنه وينسبونها إلى غيره ممن لم يجعله سببا لتلك الأفعال ، كالمعبودات التي ينسبون إليها ما ليس لها أدنى تأثير فيه ، وأدنى من هذا أن تنسب إلى الأسباب مع نسيان فضل الله الذي سخر لهم تلك الأسباب ، وإنما الواجب معرفة السبب والخالق الواضع للأسباب رحمة منه بالعباد ، وقيل : معناه يعدلون عن الحق وهو التوحيد وما يستلزمه من حمد الخالق وشكره من قولهم : عدل عن الشيء عدولا إذا جار عنه وانحرف ، ومال إلى غيره وانصرف .
( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=2هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=3وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) .
افْتَتَحَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِالْحَمْدِ ، ثُمَّ افْتَتَحَ بِهِ أَرْبَعَ سُوَرٍ مَكِّيَّاتٍ أُخْرَى مُشْتَمِلَةً كُلٌّ مِنْهَا عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِيهَا ، الْأُولَى " الْأَنْعَامُ " وَهِيَ آخِرُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ فِي الرُّبُعِ الْأَوَّلِ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَالثَّانِيَةُ " الْكَهْفُ " وَهِيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ آخِرِ الرُّبُعِ الثَّانِي وَأَوَّلِ الرُّبُعِ الثَّالِثِ وَالثَّالِثةُ وَالرَّابِعَةُ " سَبَأٌ " وَ " فَاطِرٌ " ، وَهُمَا آخِرُ الرُّبُعِ الثَّالِثِ ، وَلَيْسَ فِي الرُّبُعِ الرَّابِعِ سُورَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالْحَمْدِ ، وَقَدْ قَرَنَ الْحَمْدَ فِي الْأَوْلَى بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعْلِ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَى عَبْدِهِ الْكَامِلِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا سُمِّيَ نُورًا بَلْ هُمَا أَعْظَمُ أَنْوَارِ الْهِدَايَةِ وَفِي الثَّالِثةِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَبِحَمْدِهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ ، وَبِصِفَاتِ الْحِكْمَةِ وَالْخِبْرَةِ وَالْعِلْمِ بِمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَالرَّابِعَةِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعْلِ الْمَلَائِكَةِ
[ ص: 244 ] رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ وَوَصْفُهُ بِسَعَةِ الْقُدْرَةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28734وَالْمَلَائِكَةُ مِنَ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَالَّتِي تَعْرُجُ فِيهَا . فَظَهَرَ بِهَا أَنَّ السُّوَرَ الثَّلَاثَ مُفَصِّلَةٌ لِمَا أَجْمَلَ فِي الْأُولَى " الْأَنْعَامِ " مِمَّا حَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّهَا مُؤَيِّدَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ )
nindex.php?page=treesubj&link=33144الْحَمْدُ هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَالذِّكْرُ بِالْجَمِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ ، وَإِسْنَادُ الْحَمْدِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى خَبَرٌ مِنْهُ تَعَالَى عَلَى الْمُخْتَارِ ، وَالْعَبْدُ يَحْكِيهِ بِالتِّلَاوَةِ مُؤْمِنًا بِهِ فَيَكُونُ حَامِدًا لِمَوْلَاهُ ، وَيَذْكُرُهُ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ إِنْشَاءً لِلْحَمْدِ وَتَذَكُّرًا لَهُ ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ هُنَا إِنْشَاءً مِنْهُ تَعَالَى ، وَإِنَّ إِنْشَاءَ الْحَمْدِ بِالْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ جَمْعٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ ، أَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا عَلَّمَ بِهِ عِبَادَهُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ ، فَأَثْبَتَ أَنَّ كُلَّ ثَنَاءٍ حَسَنٍ فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَبِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ مِنَ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَادِ وَالْإِمْدَادِ . فَذَاتُهُ تَعَالَى مُتَّصِفَةٌ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وُجُوبًا فَالْكَمَالُ الْأَعْلَى دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ حَقِيقَتِهَا أَوْ لَازِمٌ بَيِّنٌ مِنْ لَوَازِمِهِ . وَقَدْ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي مَقَامِ هَذَا الْحَمْدِ بِصِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِهِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحَمْدِ لَهُ ، وَهُمَا خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَعْلُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ .
أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=31756خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَمَعْنَاهُ إِيجَادُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي نَرَى كَثِيرًا مِنْهَا فَوْقَنَا ، وَهَذَا الْعَالَمُ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ إِيجَادًا مُرَتَّبًا مُنَظَّمًا . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْخَلْقِ لُغَةً وَشَرْعًا .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28977جَعْلُ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَهُوَ فِي الْحِسِّيَّاتِ بِمَعْنَى إِيجَادِهِمَا لِأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْجَعْلِ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَعْنَاهُ فِي الْمَعْنَوِيَّاتِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ جَعَلَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى أَحْدَثَ وَأَنْشَأَ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) وَإِلَى مَفْعُولَيْنِ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى صَيَّرَ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=19وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا ) ( 43 : 19 )
nindex.php?page=treesubj&link=28910وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْجَعْلِ أَنَّ الْخَلْقَ فِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ ، وَفِي الْجَعْلِ مَعْنَى التَّضْمِينِ ، كَإِنْشَاءِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ ، أَوْ تَصْيِيرِ شَيْءٍ شَيْئًا ، أَوْ نَقْلِهِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=189وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) ( 7 : 189 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) لِأَنَّ الظُّلُمَاتِ مِنَ الْأَجْرَامِ الْمُتَكَاثِفَةِ وَالنُّورَ مِنَ النَّارِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=38وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا ) ( 13 : 38 ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=5أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ) ( 38 : 5 ) اهـ . وَقَدْ أَخَذَهُ
الرَّازِيُّ مِنْ غَيْرِ عَزْوٍ وَزَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ : وَإِنَّمَا حَسُنَ لَفْظُ الْجَعْلِ هُنَا لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَمَّا تَعَاقَبَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّمَا تَوَلَّدَ مِنَ الْآخَرِ انْتَهَى . وَقَالَ
أَبُو السُّعُودِ : وَالْجَعْلُ هُوَ الْإِنْشَاءُ وَالْإِبْدَاعُ كَالْخَلْقِ خَلَا أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْشَاءِ التَّكْوِينِيِّ .
[ ص: 245 ] وَفِيهِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ ، وَهَذَا عَامٌّ لَهُ كَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلِلتَّشْرِيعِيِّ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ) الْآيَةَ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ ، وَفِيهِ كَلَامٌ آخَرُ فِيمَا يُلَابِسُ مَفْعُولَهُ مِنَ الظُّرُوفِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=97جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ) ( 5 : 97 ) أَنَّ الْجَعْلَ فِيهَا خَلْقٌ تَكْوِينِيٌّ وَأَمْرٌ شَرْعِيٌّ مَعًا . وَقَدْ بَيَّنَ
الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ وُجُوهَ اسْتِعْمَالِ الْجَعْلِ فَكَانَتْ خَمْسَةً فَلْيُرَاجِعْهَا فِي مُفْرَدَاتِهِ مَنْ شَاءَ .
وَالظُّلْمَةُ الْحَالَّةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا كُلُّ مَكَانٍ لَيْسَ فِيهِ نُورٌ ، لَا عَدَمُ النُّورِ أَيْ فَقْدُهُ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ الظُّلْمَةَ هِيَ الْأَصْلُ كَمَا سَيَأْتِي . قَالَ
الرَّاغِبُ : الظُّلْمَةُ عَدَمُ النُّورِ ، وَقَالَ : النُّورُ الضَّوْءُ الْمُنْتَشِرُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى الْإِبْصَارِ ، وَقَالَ : الضَّوْءُ مَا انْتَشَرَ مِنَ الْأَجْسَامِ النَّيِّرَةِ ، وَيُقَالُ : ضَاءَتِ النَّارُ وَأَضَاءَهَا غَيْرُهَا انْتَهَى . وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الضِّيَاءِ وَالنُّورِ بِمَا لَا مَحَلَّ لِذِكْرِهِ هُنَا . وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنَ الْعَالَمِ أَظْهَرُ وَلَا أَغْنَى عَنِ التَّعْرِيفِ مِنَ الْمَظَاهِرِ الْحِسِّيَّةِ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . عَلَى أَنَّ بَيَانَ حَقِيقَتِهِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ أَعْسَرِ الْأُمُورِ ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ الْخَفَاءُ مِنْ شِدَّةِ الظُّهُورِ ، وَأَقْرَبُ مَا نُعَرِّفُهُ بِهِ لِلْجُمْهُورِ أَنْ نَقُولَ : هُوَ اشْتِعَالٌ يَحْدُثُ فِي أَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ مُنْبَثَّةٍ فِي الْهَوَاءِ وَفِي الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ الَّتِي تَسْتَوْقِدُ بِهَا النَّارَ .
وَالنُّورُ قِسْمَانِ : حِسِّيٌّ صُورِيٌّ ، وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصَرِ ، وَمَعْنَوِيٌّ عَقْلِيٌّ أَوْ رُوحِيٌّ وَهُوَ مَا يُدْرَكُ بِالْبَصِيرَةِ ، وَقَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=28867أُطْلِقَتْ كَلِمَةُ النُّورِ فِي التَّنْزِيلِ عَلَى الْقُرْآنِ ، وَعَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَتَيِ النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ .
وَقَدْ أُفْرِدَ النُّورُ وَجُمِعَتِ الظُّلْمَةُ هُنَا وَفِي كُلِّ آيَةٍ قُوبِلَ فِيهَا بَيْنَ النُّورِ وَالظَّلَامِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحِسِّيِّ أَوِ الْمَعْنَوِيِّ ، بَلْ لَمْ يُذْكَرِ النُّورُ فِي الْقُرْآنِ ، إِلَّا مُفْرَدًا وَالظُّلْمَةُ إِلَّا جَمْعًا وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ النُّورَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مَصَادِرُهُ ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ قَوِيًّا وَيَكُونُ ضَعِيفًا وَأَمَّا الظُّلْمَةُ فَهِيَ تَحْدُثُ بِمَا يَحْجُبُ النُّورَ مِنَ الْأَجْسَامِ غَيْرِ النَّيِّرَةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَكَذَلِكَ النُّورُ الْمَعْنَوِيُّ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ أَوْ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ ، وَيُقَابِلُ كُلًّا مِنْهُمَا ظُلُمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ ، فَالْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَالْبَاطِلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ ، وَالْهُدَى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَالضَّلَالُ الَّذِي يُقَابِلُهُ كَثِيرٌ ، مِثَالُ ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يُقَابِلُهُ مِنَ التَّعْطِيلِ وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِأَنْوَاعِهِ ، وَالشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ بِأَنْوَاعِهِ وَفَضِيلَةُ الْعَدْلِ وَمَا يُقَابِلُهَا مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ .
وَقُدِّمَتِ الظُّلُمَاتُ فِي الذِّكْرِ عَلَى النُّورِ لِأَنَّ جِنْسَهَا مُقَدَّمٌ فِي الْوُجُودِ ، فَقَدْ وُجِدَتْ مَادَّةُ الْكَوْنِ وَكَانَ دُخَانًا مُظْلِمًا أَوْ سَدِيمًا كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ الْفَلَكِ ثُمَّ تَكَوَّنَتِ الشُّمُوسُ بِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الِاشْتِعَالِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرَكَةِ كَمَا يَقُولُونَ ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ أَوْ يُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ
عَبْدِ اللَّهِ [ ص: 246 ] بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ
أَحْمَدَ nindex.php?page=showalam&ids=13948وَالتِّرْمِذِيِّ nindex.php?page=hadith&LINKID=919655 " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلَقَ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ فَمَنْ أَصَابَهُ نُورُهُ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا النُّورَ هُوَ الْمَعْنَوِيُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالنُّورِ الْحِسِّيِّ فِي تَكْوِينِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ
عَائِشَةَ عِنْدَ
مُسْلِمٍ nindex.php?page=hadith&LINKID=919656 " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ " فَالظَّاهِرُ أَنَّ النُّورَ فِيهِ هُوَ الْحِسِّيُّ ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ تُرَى الْمَلَائِكَةُ كَمَا يُرَى النُّورُ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمَا خُلِقَ مِنْهُ أَصْلُهُ عَظِيمٌ كَمَا نَرَاهُ فِي أَنْفُسِنَا . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ بِأَعْيُنِنَا .
وَسَبْقُ الظُّلُمَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلنُّورِ الْمَعْنَوِيِّ أَظْهَرُ ، فَإِنَّ نُورَ الْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ كَسْبِيٌّ فِي الْبَشَرِ وَمَا كَانَ غَيْرُ كَسْبِيٍّ فِي ذَاتِهِ كَالْوَحْيِ فَتَلَقِّيهِ كَسْبِيٌّ وَفَهْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ كَسْبِيَّانِ ، وَظُلُمَاتُ الْجَهْلِ وَالْأَهْوَاءِ سَابِقَةٌ عَلَى هَذَا النُّورِ ، فَالرَّسُولُ لَا يُولَدُ رَسُولًا وَإِنَّمَا يُؤْتَى الرِّسَالَةَ إِذَا بَلَغَ أَشَدَّهُ وَاسْتَوَى ، وَالْعَالِمُ لَا يُولَدُ عَالِمًا ، وَلَا الْفَاضِلُ فَاضِلًا
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003292 " إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ " (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=78وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( 16 : 78 ) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ فِي الْمُرَادِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ هُنَا فَأَخْرَجَ
أَبُو الشَّيْخِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ "
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ " قَالَ : الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ . وَأَخْرَجَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ
قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ : "
nindex.php?page=treesubj&link=28661خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ قَبْلَ الْأَرْضِ وَالظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّورِ وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّارِ " إِلَخْ وَأَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ nindex.php?page=showalam&ids=16328وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيِّ قَالَ : الظُّلُمَاتُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَالنُّورُ نُورُ النَّهَارِ . وَأَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ
مُجَاهِدٍ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الزَّنَادِقَةِ . قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقِ الظُّلْمَةَ وَلَا الْخَنَافِسَ وَلَا الْعَقَارِبَ وَلَا شَيْئًا قَبِيحًا وَإِنَّمَا خَلَقَ النُّورَ وَكُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَأَخْرَجَ
أَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) رَدٌّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الظُّلْمَةَ وَالنُّورَ هُمَا الْمُدَبِّرَانِ وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28977ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) رَدٌّ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ دَعَا دُونَ اللَّهِ إِلَهًا .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلُمَاتِ هُنَا الظُّلُمَاتُ الْحِسِّيَّةُ وَبِالنُّورِ النُّورُ الْحِسِّيُّ ، وَبَعْضَهُمْ قَالَ بِمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ ، وَفِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ رَدٌّ عَلَى الْمَجُوسِ أَوِ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ رَبَّيْنِ ، أَحَدُهُمَا النُّورُ وَهُوَ الْخَالِقُ لِلْخَيْرِ ، وَالثَّانِي الظُّلْمَةُ وَهُوَ خَالِقُ الشَّرِّ . وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ إِرَادَةِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ مِنْ كُلٍّ مِنَ اللَّفْظَيْنِ . وَقَالَ
الْوَاحِدِيُّ : الْأَوَّلُ حَمَلَ اللَّفْظَيْنِ عَلَيْهِمَا وَاسْتَشْكَلَهُ
الرَّازِيُّ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ
nindex.php?page=treesubj&link=28914الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا جَوَازُهُ وَجَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ إِذَا احْتَمَلَ الْمَقَامُ
[ ص: 247 ] ذَلِكَ بِلَا الْتِبَاسٍ كَمَا هُنَا ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْجَعْلِ دُونَ الْخَلْقِ يُلَائِمُ هَذَا ، فَإِنَّ الْجَعْلَ يَشْمَلُ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ أَيِ الشَّرْعَ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُفَسَّرُ جَعْلُ كُلِّ نُورٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ ، فَجَعْلُ الدِّينِ شَرْعُهُ وَالْقُرْآنِ إِنْزَالُهُ وَالرَّسُولِ إِرْسَالُهُ وَالْعِلْمِ وَالْهُدَى تَهْيِئَةُ أَسْبَابِهِمَا .
وَقَدْ ذُكِرَ
nindex.php?page=treesubj&link=31756خَلْقُ السَّمَاوَاتِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=31756خَلْقِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ ، وَقِيلَ : لِأَنَّهَا خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ كَمَا ذُكِرَ عَنْ قَتَادَةَ آنِفًا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَفِي الثَّانِي خِلَافٌ مَعْرُوفٌ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أَوْ عَلَى جُمْلَةِ "
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " وَقَدْ عُطِفَتْ بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى بُعْدِ مَا بَيْنَ مَدْلُولَيِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ; لِإِفَادَةِ اسْتِبْعَادِ مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُونَ وَكَوْنِهِ ضِدَّ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ لِلْإِلَهِ الْحَقِيقِ بِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ; لِكَوْنِهِ هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ الْكَوْنِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَمَا فِيهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ ، وَالْهَادِي لِمَا فِيهِ مِنَ النُّورِ الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ الْمُوَفَّقُونَ فِي كُلِّ ظُلْمَةٍ مِنْهَا ، كَأَنَّهُ قَالَ : وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ أَيْ يَجْعَلُونَهُ عَدْلًا لَهُ ، أَيْ عَدِيلًا مُسَاوِيًا لَهُ فِي كَوْنِهِ يُعْبَدُ وَيُدْعَى لِكَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ ، فَهُوَ بِمَعْنَى يُشْرِكُونَ بِهِ ، وَيَتَّخِذُونَ لَهُ أَنْدَادًا وَقِيلَ : يَعْدِلُونَ بِأَفْعَالِهِ عَنْهُ وَيَنْسُبُونَهَا إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَجْعَلْهُ سَبَبًا لِتِلْكَ الْأَفْعَالِ ، كَالْمَعْبُودَاتِ الَّتِي يَنْسُبُونَ إِلَيْهَا مَا لَيْسَ لَهَا أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِيهِ ، وَأَدْنَى مِنْ هَذَا أَنْ تُنْسَبَ إِلَى الْأَسْبَابِ مَعَ نِسْيَانِ فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي سَخَّرَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَسْبَابَ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ مَعْرِفَةُ السَّبَبِ وَالْخَالِقِ الْوَاضِعِ لِلْأَسْبَابِ رَحْمَةً مِنْهُ بِالْعِبَادِ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ حَمْدِ الْخَالِقِ وَشُكْرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ : عَدَلَ عَنِ الشَّيْءِ عُدُولًا إِذَا جَارَ عَنْهُ وَانْحَرَفَ ، وَمَالَ إِلَى غَيْرِهِ وَانْصَرَفَ .