أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ
وَكَذَا قَوْلُهُ : وَكَذَا وَعْدُهُ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْجَازِ دُونَ وَعْدِ غَيْرِهِ ، وَالتَّنْكِيرُ فِي الْبَوَاقِي لِلتَّعْظِيمِ [ ص: 55 ] وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ : التَّعْرِيفُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الِاسْمِ بِالْحَقِيقَةِ إِذْ هُوَ مُقْتَضَى الْأَدَاةِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَوَعْدُهُ ; لِأَنَّ وَعْدَهُ كَلَامُهُ ، وَتُرِكَتْ فِي الْبَوَاقِي ; لِأَنَّهَا أُمُورٌ مُحْدَثَةٌ وَالْمُحْدَثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْبَقَاءُ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ ، وَبَقَاءُ مَا يَدُومُ مِنْهُ عُلِمَ بِخَبَرِ الصَّادِقِ لَا مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ فَنَائِهِ ، قَالَ الطِّيبِيُّ : وَهُنَا سِرٌّ دَقِيقٌ وَهُوَ أَنَّهُ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا نَظَرَ إِلَى الْمَقَامِ الْإِلَهِيِّ وَمُقَرَّبِي حَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَظَّمَ شَأْنَهُ وَفَخَّمَ مَنْزِلَتَهُ حَيْثُ ذَكَرَ النَّبِيِّينَ ، وَعَرَّفَهَا بِلَامِ الِاسْتِغْرَاقِ ، ثُمَّ خَصَّ مُحَمَّدًا ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مِنْ بَيْنِهِمْ وَعَطَفَهُ عَلَيْهِمْ إِيذَانًا بِالتَّغَايُرِ ، وَأَنَّهُ فَائِقٌ عَلَيْهِمْ بِأَوْصَافٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ ، فَإِنَّ تَغَايُرَ الْوَصْفِ بِمَنْزِلَةِ التَّغَايُرِ فِي الذَّاتِ ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَيْهِ اسْتِقْلَالًا بِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَرَّدَهُ عَنْ ذَاتِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُهُ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ تَصْدِيقَهُ ، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ وَنَظَرَ إِلَى افْتِقَارِ نَفْسِهِ نَادَى بِلِسَانِ الِاضْطِرَارِ فِي مَطَاوِي الِانْكِسَارِ فَقَالَ : ( اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ) انْقَدْتُ وَخَضَعْتُ لِأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ ( وَبِكَ آمَنْتُ ) أَيْ صَدَّقْتُ ( وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ) أَيْ فَوَّضْتُ أُمُورِي تَارِكًا النَّظَرَ فِي الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ ( وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ) رَجَعَتْ إِلَيْكَ مُقْبِلًا بِقَلْبِي عَلَيْكَ ( وَبِكَ ) أَيْ بِمَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْبُرْهَانِ وَبِمَا لَقَّنْتَنِي مِنَ الْحُجَّةِ ( خَاصَمْتُ ) مَنْ خَاصَمَنِي مِنَ الْكُفَّارِ أَوْ بِتَأْيِيدِكَ وَنَصْرِكَ قَاتَلْتُ ( وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ ) كُلَّ مَنْ جَحَدَ الْحَقَّ وَمَا أَرْسَلْتَنِي بِهِ لَا إِلَى مَنْ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَتَحَاكَمُ إِلَيْهِ مِنْ كَاهِنٍ وَنَحْوِهِ ، وَقَدَّمَ جَمِيعَ صِلَاتِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَيْهَا إِشْعَارًا بِالتَّخْصِيصِ وَإِفَادَةً لِلْحَصْرِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَلَكَ الْحَمْدُ ( فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ ) قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ ( وَأَخَّرْتُ ) عَنْهُ ( وَأَسْرَرْتُ ) أَخْفَيْتُ ( وَأَعْلَنْتُ ) أَظْهَرْتُ ، أَوْ مَا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي وَمَا تَحَرَّكَ بِهِ لِسَانِي ، زَادَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ : " وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي " وَهُوَ مِنَ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ ، وَقَالَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ إِمَّا تَوَاضُعًا وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا لِرَبِّهِ ، أَوْ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ لِيُقْتَدَى بِهِ ، قَالَ الْحَافِظُ : كَذَا قِيلَ ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ إِذْ لَوْ كَانَ لِلتَّعْلِيمِ فَقَطْ لَكَفَى فِيهِ أَمْرُهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا زَادَ فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ عَنْ طَاوُسٍ : أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ ، أَيِ الْمُقَدِّمِ لِي فِي الْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمُؤَخِّرِ لِي فِي الْبَعْثِ فِي الدُّنْيَا .ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكذا قوله : وكذا وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره ، والتنكير في البواقي للتعظيم [ ص: 55 ] وقال السهيلي : التعريف للدلالة على أنه المستحق لهذا الاسم بالحقيقة إذ هو مقتضى الأداة ، وكذا قوله ووعده ; لأن وعده كلامه ، وتركت في البواقي ; لأنها أمور محدثة والمحدث لا يجب له البقاء من جهة ذاته ، وبقاء ما يدوم منه علم بخبر الصادق لا من جهة استحالة فنائه ، قال الطيبي : وهنا سر دقيق وهو أنه ، صلى الله عليه وسلم ، لما نظر إلى المقام الإلهي ومقربي حضرة الربوبية عظم شأنه وفخم منزلته حيث ذكر النبيين ، وعرفها بلام الاستغراق ، ثم خص محمدا ، صلى الله عليه وسلم ، من بينهم وعطفه عليهم إيذانا بالتغاير ، وأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة به ، فإن تغاير الوصف بمنزلة التغاير في الذات ، ثم حكم عليه استقلالا بأنه حق وجرده عن ذاته كأنه غيره وأوجب عليه تصديقه ، ولما رجع إلى مقام العبودية ونظر إلى افتقار نفسه نادى بلسان الاضطرار في مطاوي الانكسار فقال : ( اللهم لك أسلمت ) انقدت وخضعت لأمرك ونهيك ( وبك آمنت ) أي صدقت ( وعليك توكلت ) أي فوضت أموري تاركا النظر في الأسباب العادية ( وإليك أنبت ) رجعت إليك مقبلا بقلبي عليك ( وبك ) أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة ( خاصمت ) من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت ( وإليك حاكمت ) كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه ، وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعارا بالتخصيص وإفادة للحصر ، وكذا قوله ولك الحمد ( فاغفر لي ما قدمت ) قبل هذا الوقت ( وأخرت ) عنه ( وأسررت ) أخفيت ( وأعلنت ) أظهرت ، أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني ، زاد في رواية البخاري : " وما أنت أعلم به مني " وهو من العام بعد الخاص ، وقال ذلك مع أنه مغفور له إما تواضعا وهضما لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه ، أو تعليما لأمته ليقتدى به ، قال الحافظ : كذا قيل ، والأولى أنه لمجموع ذلك إذ لو كان للتعليم فقط لكفى فيه أمرهم بأن يقولوا زاد في رواية سليمان عن طاوس : أنت المقدم والمؤخر ، أي المقدم لي في البعث يوم القيامة والمؤخر لي في البعث في الدنيا .