[ ص: 404 ] المسألة السابعة  
الأوامر والنواهي ضربان :  
صريح ، وغير صريح .  
فأما  الصريح   فله نظران .  
أحدهما : من حيث مجرده لا يعتبر فيه علة مصلحية ، وهذا نظر من يجري مع مجرد الصيغة مجرى التعبد المحض من غير تعليل ، فلا فرق عند صاحب هذا النظر بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي كقوله  أقيموا الصلاة   مع قوله :  اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة  ، وقوله :  فاسعوا إلى ذكر الله      [ الجمعة : 9 ] مع قوله :  وذروا البيع      [ الجمعة : 9 ] ، وقوله :  ولا تصوموا يوم النحر  مثلا مع قوله :  لا تواصلوا     .  
 [ ص: 405 ] وما أشبه ذلك مما يفهم فيه التفرقة بين الأمرين ، وهذا نحو ما في الصحيح  أنه - عليه الصلاة والسلام - خرج على   أبي بن كعب  ، وهو يصلي فقال - عليه الصلاة والسلام - : يا  أبي  فالتفت إليه ولم يجبه وصلى فالتفت إليه ولم يجبه وصلى فخفف ثم انصرف ،  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا  أبي  ، ما منعك أن تجيبني إذا دعوتك ؟ فقال : يا رسول الله ، كنت أصلي   ، فقال : أفلم تجد فيما أوحي إلي :  استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم      [ الأنفال : 24 ] قال : بلى يا رسول الله ولا أعود إن شاء الله     .  
وهو في البخاري عن  أبي سعيد بن المعلى  ، وأنه صاحب القصة فهذا منه - عليه الصلاة والسلام - إشارة إلى النظر لمجرد الأمر ، وإن كان ثم معارض .  
وفي  أبي داود  أن   ابن مسعود  جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فسمعه يقول : اجلسوا فجلس بباب المسجد فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : تعال يا      [ ص: 406 ] عبد الله     .  وسمع   عبد الله بن رواحة  رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بالطريق يقول : اجلسوا فجلس بالطريق فمر به - عليه الصلاة والسلام - فقال : ما شأنك ؟ فقال : سمعتك تقول اجلسوا فقال له : زادك الله طاعة     .  
 [ ص: 407 ] وفي   البخاري  قال - عليه الصلاة والسلام - يوم الأحزاب : لا يصل أحد العصر إلا في  بني قريظة   فأدركهم وقت العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم ، بل نصلي ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين     .  
 [ ص: 408 ]  [ ص: 409 ] وكثير من الناس فسخوا البيع الواقع في وقت النداء لمجرد قوله تعالى :  وذروا البيع      [ الجمعة : 9 ] .  
وهذا وجه من الاعتبار يمكن الانصراف إليه والقول به عاما ، وإن كان غيره أرجح منه وله مجال في النظر منفسح ، فمن وجوهه أن يقال : لا يخلو أن نعتبر في الأوامر والنواهي المصالح أولا ، فإن لم نعتبرها فذلك أحرى في الوقوف مع مجردها ، وإن اعتبرناها فلم يحصل لنا من معقولها أمر يتحصل عندنا دون اعتبار الأوامر والنواهي ، فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة فنحن جاهلون بها على التفصيل ، فقد علمنا أن حد الزنا مثلا لمعنى الزجر بكونه في      [ ص: 410 ] المحصن الرجم دون ضرب العنق ، أو الجلد إلى الموت ، أو إلى عدد معلوم ، أو السجن ، أو الصوم ، أو بذل مال كالكفارات ، وفي غير المحصن جلد مائة ، وتغريب عام دون الرجم ، أو القتل ، أو زيادة عدد الجلد على المائة ، أو نقصانه عنها إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل .  
هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حد فيه على الخصوص دون غيره ، وإذا لم نعقل ذلك ولا يمكن ذلك للعقول دل على أن فيما حد من ذلك مصلحة لا نعلمها ، وهكذا يجرى الحكم في سائر ما يعقل معناه أما التعبدات ، فهي أحرى بذلك فلم يبق لنا إذا وزر دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهي .  
وكثيرا ما يظهر لنا ببادئ الرأي للأمر ، أو النهي معنى مصلحي ، ويكون في نفس الأمر بخلاف ذلك يبينه نص آخر يعارضه ، فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك المعنى .  
وأيضا فقد مر في كتاب المقاصد أن كل أمر ، ونهي لا بد فيه من معنى      [ ص: 411 ] تعبدي ، وإذا ثبت هذا لم يكن لإهماله سبيل فكل معنى يؤدى إلى عدم اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه ، فإذا المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كر عليه بالإهمال ، فلا سبيل إليه ، وإلا فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه فآل الأمر في القول باعتبار المصالح أنه لا سبيل إلى اعتبارها مع الأمر والنهي ، وهو المطلوب .  
ولا يقال : إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة كما في قول القائل لا يجوز الوضوء بالماء الذي بال فيه الإنسان ، فإن كان قد بال في إناء ، ثم صبه في الماء جاز الوضوء به ; لأنا نقول : هذا أيضا معارض بما يضاده في الطرف الآخر في تتبع المعاني مع إلغاء الصيغ كما قيل : في قوله - عليه الصلاة والسلام - :  في أربعين شاة شاة  إن المعنى قيمة شاة ; لأن المقصود سد الخلة ، وذلك حاصل      [ ص: 412 ] بقيمة الشاة فجعل الموجود معدوما والمعدوم موجودا ، وأدى ذلك إلى أن لا تكون الشاة واجبة ، وهو عين المخالفة ، وأشباه ذلك من أوجه المخالفة الناشئة عن تتبع المعاني .  
وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق ، وإنما تعتبر من حيث هي مقصود الصيغ فاتباع أنفس الصيغ التي هي الأصل واجب ; لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل ، ويكفي من التنبيه على رجحان هذا النحو ما ذكر .  
والثاني من النظرين هو من حيث يفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي بحسب الاستقراء ، وما يقترن بها من القرائن الحالية ، أو المقالية الدالة على      [ ص: 413 ] أعيان المصالح في المأمورات والمفاسد في المنهيات ، فإن المفهوم من قوله :  أقيموا الصلاة   المحافظة عليها والإدامة لها ، ومن قوله :  اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة  الرفق بالمكلف خوف العنت ، أو الانقطاع لا أن المقصود نفس التقليل من العبادة ، أو ترك الدوام على التوجه لله .  
وكذلك قوله :  فاسعوا إلى ذكر الله      [ الجمعة : 9 ] مقصوده الحفظ على إقامة الجمعة وعدم التفريط فيها لا الأمر بالسعي إليها فقط .  
وقوله :  وذروا البيع      [ الجمعة : 9 ] جار مجرى التوكيد لذلك بالنهي عن ملابسة الشاغل عن السعي لا أن المقصود النهي عن البيع مطلقا في ذلك الوقت على حد النهي عن بيع الغرر ، أو بيع الربا ، أو نحوهما .  
وكذلك إذا قال :  لا تصوموا يوم النحر  المفهوم منه مثلا قصد الشارع إلى ترك إيقاع الصوم فيه خصوصا ، ومن قوله :  لا تواصلوا  ، أو قوله :  لا      [ ص: 414 ] تصوموا الدهر  الرفق بالمكلف أن لا يدخل فيما لا يحصيه ولا يدوم عليه ولذلك كان - عليه الصلاة والسلام - يواصل ويسرد الصوم .  
وكذلك سائر الأوامر والنواهي التي مغزاها راجع إلى هذا المعنى ، كما أنه قد يفهم من مغزى الأمر والنهي الإباحة ، وإن كانت الصيغة لا تقتضي بوضعها الأصلي ذلك ، كقوله تعالى :  وإذا حللتم فاصطادوا      [ المائدة : 2 ] ،  فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض      [ الجمعة : 10 ] ; إذ علم قطعا أن مقصود      [ ص: 415 ] الشارع ليس ملابسة الاصطياد عند الإحلال ولا الانتشار عند انقضاء الصلاة وإنما مقصوده أن سبب المنع من هذه الأشياء قد زال ، وهو انقضاء الصلاة وزوال حكم الإحرام فهذا النظر يعضده الاستقراء أيضا .  
وقد مر منه أمثلة .  
وأيضا فقد قام الدليل على اعتبار المصالح شرعا ، وأن الأوامر والنواهي مشتملة عليها فلو تركنا اعتبارها على الإطلاق لكنا قد خالفنا الشارع من حيث قصدنا موافقته ، فإن الفرض أن هذا الأمر وقع لهذه المصلحة ، فإذا ألغينا النظر فيها في التكليف بمقتضى الأمر كنا قد أهملنا في الدخول تحت حكم الأمر ما اعتبره الشارع فيه فيوشك أن نخالفه في بعض موارد ذلك الأمر ، وذلك أن الوصال وسرد الصيام قد جاء النهي عنه ، وقد واصل - عليه الصلاة والسلام - بأصحابه حين نهاهم فلم ينتهوا .  
 [ ص: 416 ] وفي هذا أمران إن أخذنا بظاهر النهي .  
أحدهما : أنه نهاهم فلم ينتهوا فلو كان المقصود من النهي ظاهره لكانوا قد عاندوا نهيه بالمخالفة مشافهة ، وقابلوه بالعصيان صراحا ، وفي القول بهذا ما فيه .  
والآخر أنه واصل بهم حين لم يمتثلوا نهيه ولو كان النهي على ظاهره لكان تناقضا ، وحاشى لله من ذلك ، وإنما كان ذلك النهي للرفق بهم خاصة ، وإبقاء عليهم فلما لم يسامحوا أنفسهم بالراحة وطلبوا فضيلة احتمال التعب في مرضاة الله أراد - عليه الصلاة والسلام - أن يريهم بالفعل ما نهاهم لأجله ، وهو دخول المشقة حتى يعلموا أن نهيه - عليه الصلاة والسلام - هو الرفق بهم والأخلق بالضعفاء الذين لا يصبرون على احتمال اللأواء في مرضاة ربهم .  
وأيضا فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن أشياء ، وأمر بأشياء ، وأطلق القول فيها إطلاقا ليحملها المكلف في نفسه ، وفي غيره على التوسط لا على مقتضى الإطلاق الذي يقتضيه لفظ الأمر والنهي فجاء الأمر بمكارم الأخلاق وسائر الأمور المطلقة والنهي عن مساوئ الأخلاق وسائر المناهي المطلقة .  
وقد تقدم أن المكلف جعل له النظر فيها بحسب ما يقتضيه حاله ومنته ، ومثل ذلك لا يتأتى مع الحمل على الظاهر مجردا من الالتفات إلى المعاني .  
وقد نهى - عليه الصلاة والسلام - عن  بيع الغرر   ، وذكر منه أشياء  كبيع      [ ص: 417 ] الثمرة قبل أن تزهى   وبيع حبل الحبلة والحصاة ، وغيرها .  
وإذا أخذنا بمقتضى مجرد الصيغة امتنع علينا بيع كثير مما هو جائز بيعه ،      [ ص: 418 ] وشراؤه كبيع الجوز واللوز والقسطل في قشرها ، وبيع الخشبة والمغيبات في الأرض والمقاثي كلها ، بل كان يمتنع كل ما فيه وجه مغيب كالديار والحوانيت المغيبة الأسس والأنقاض ، وما أشبه ذلك مما لا يحصى ولم يأت فيه نص بالجواز ، ومثل هذا لا يصح فيه القول بالمنع أصلا ; لأن الغرر المنهي عنه محمول على ما هو معدود عند العقلاء غررا مترددا بين السلامة والعطب فهو مما خص بالمعنى المصلحي ولا يتبع فيه اللفظ بمجرده .  
 [ ص: 419 ] وأيضا فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء والتفرقة بين ما هو منها أمر وجوب ، أو ندب ، وما هو نهي تحريم ، أو كراهة لا تعلم من النصوص ، وإن علم منها بعض فالأكثر منها غير معلوم ، وما حصل لنا الفرق بينها إلا باتباع المعاني والنظر إلى المصالح ، وفي أي مرتبة تقع ، وبالاستقراء المعنوي ولم نستند فيه لمجرد الصيغة ، وإلا لزم في الأمر أن لا يكون في الشريعة إلا على قسم واحد لا على أقسام متعددة والنهي كذلك أيضا ، بل نقول : كلام العرب على الإطلاق لا بد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ ، وإلا صار ضحكة وهزأة ألا ترى إلى قولهم فلان أسد ، أو حمار ، أو عظيم الرماد ، أو جبان الكلب ، وفلانة بعيدة مهوى القرط ، وما لا      [ ص: 420 ] ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول فما ظنك بكلام الله ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .  
وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه .  
وقد حكى   إمام الحرمين  عن  ابن سريج  أنه ناظر  أبا بكر بن داود الأصبهاني  في القول بالظاهر فقال له  ابن سريج  أنت تلتزم الظواهر .  
وقد قال تعالى :  فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره      [ الزلزلة : 7 ] فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين فقال مجيبا الذرتان ذرة وذرة فقال  ابن سريج  فلو عمل مثقال ذرة ونصف ؟ فتبلد وانقطع .  
وقد نقل  عياض  عن بعض العلماء أن مذهب  داود  بدعة ظهرت بعد المائتين ، وهذا وإن كان تغاليا في رد العمل بالظاهر فالعمل بالظواهر أيضا      [ ص: 421 ] على تتبع وتغال بعيد عن مقصود الشارع كما أن إهمالها إسراف أيضا كما تقدم تقريره في آخر كتاب المقاصد ، وسيذكر بعد إن شاء الله تعالى .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					