الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              المسألة الخامسة

              المطلوب الشرعي ضربان :

              أحدهما : ما كان شاهد الطبع خادما له ، ومعينا على مقتضاه بحيث يكون الطبع الإنساني باعثا على مقتضى الطلب كالأكل والشرب والوقاع والبعد عن استعمال القاذورات من أكلها والتضمخ بها ، أو كانت العادة الجارية من العقلاء في محاسن الشيم ، ومكارم الأخلاق موافقة لمقتضى ذلك الطلب من غير منازع طبيعي كستر العورة والحفظ على النساء والحرم ، وما أشبه ذلك ، وإنما قيد بعدم المنازع تحرزا من الزنا ، ونحوه مما [ ص: 386 ] يصد فيه الطبع عن موافقة الطلب .

              والثاني : ما لم يكن كذلك كالعبادات من الطهارات والصلوات والصيام والحج ، وسائر المعاملات المراعى فيها العدل الشرعي والجنايات والأنكحة المخصوصة بالولاية والشهادة ، وما أشبه ذلك .

              فأما الضرب الأول ، فقد يكتفي الشارع في طلبه بمقتضى الجبلة الطبيعية والعادات الجارية ، فلا يتأكد الطلب تأكد غيره ، حوالة على الوازع الباعث على الموافقة دون المخالفة ، وإن كان في نفس الأمر متأكدا ألا ترى أنه لم يوضع في هذه الأشياء على المخالفة حدود معلومة زيادة على ما أخبر به من الجزاء الأخروي ؟

              ومن هنا يطلق كثير من العلماء على تلك الأمور أنها سنن ، أو مندوب إليها ، أو مباحات على الجملة مع أنه لو خولف الأمر والنهي فيها مخالفة ظاهرة لم يقع الحكم على وفق ذلك المقتضى ؛ كما جاء في قاتل نفسه أنه يعذب في جهنم بما قتل به نفسه .

              [ ص: 387 ] وجاء في مذهب مالك أن من صلى بنجاسة ناسيا ، فلا إعادة عليه إلا استحسانا ، ومن صلى بها عامدا أعاد أبدا من حيث خالف الأمر الحتم فأوقع على إزالة النجاسة لفظ السنة اعتمادا على الوازع الطبيعي والمحاسن العادية ، فإذا خالف ذلك عمدا رجع إلى الأصل من الطلب الجزم فأمر بالإعادة أبدا .

              وأبين من هذا أنه لم يأت نص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس الواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل ، وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة ، أو الندب ؛ حتى إذا كان المكلف في مظنة مخالفة الطبع أمر وأبيح له المحرم إلى أشباه ذلك .

              [ ص: 388 ] وأما الضرب الثاني ؛ فإن الشارع قرره على مقتضاه من التأكيد في المؤكدات والتخفيف في المخففات ; إذ ليس للإنسان فيه خادم طبعي باعث على مقتضى الطلب ، بل ربما كان مقتضى الجبلة يمانعه ، وينازعه كالعبادات ; لأنها مجرد تكليف .

              وكما يكون ذلك في الطلب الأمري ، كذلك يكون في النهي ؛ فإن المنهيات على الضربين : فالأول كتحريم الخبائث ، وكشف العورات ، وتناول السموم واقتحام المهالك وأشباهها ، ويلحق بها اقتحام المحرمات لغير شهوة عاجلة ولا باعث طبعي ؛ كالملك الكذاب والشيخ الزاني والعائل المستكبر ، فإن مثل هذا قريب مما تخالفه الطباع ، ومحاسن العادات ، فلا تدعو إليه شهوة ولا يميل إليه عقل سليم فهذا الضرب لم يؤكد بحد معلوم في [ ص: 389 ] الغالب ولا وضعت له عقوبة معينة ، بل جاء النهي فيه كما جاء الأمر في المطلوبات التي لا يكون الطبع خادما لها ؛ إلا أن مرتكب هذا لما كان مخالفا لوازع الطبع ، ومقتضى العادة إلى ما فيه من انتهاك حرمة الشرع أشبه بذلك المجاهر بالمعاصي المعاند فيها ، بل هو هو فصار الأمر في حقه أعظم بسبب أنه لا يستدعي لنفسه حظا عاجلا ولا يبقى لها في مجال العقلاء بل البهائم مرتبة ولأجل ذلك جاء من الوعيد في الثلاثة : " الشيخ الزاني وأخويه " ما جاء ، وكذلك فيمن قتل نفسه .

              بخلاف العاصي بسبب شهوة عنت وطبع غلب ناسيا لمقتضى الأمر ، ومغلقا عنه باب العلم بمآل المعصية ، ومقدار ما جنى بمخالفة الأمر ولذلك قال تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة الآية : [ النساء : 17 ] .

              أما الذي ليس له داع إليها ولا باعث عليها فهو في حكم المعاند المجاهر فصار هاتكا لحرمة النهي والأمر مستهزئا بالخطاب ؛ فكان الأمر فيه أشد ، ولكن كل ما كان الباعث فيه على المخالفة الطبع جعل فيه في الغالب [ ص: 390 ] حدود وعقوبات مرتبة إبلاغا في الزجر عما تقتضيه الطباع .

              بخلاف ما خالف الطبع ، أو كان الطبع وازعا عنه ، فإنه لم يجعل له حد محدود .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية