ثم قال تعالى : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في انتصاب قوله ( رسلا ) وجوه :
الأول : قال صاحب " الكشاف " : الأوجه أن ينتصب على المدح .
والثاني : أنه انتصب على البدل من قوله : ( ورسلا ) .
الثالث : أن يكون التقدير : أوحينا إليهم رسلا فيكون منصوبا على الحال والله أعلم .
المسألة الثانية : اعلم أن هذا الكلام أيضا جواب عن شبهة اليهود ، وتقريره أن المقصود من بعثة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أن يبشروا الخلق على اشتغالهم بعبودية الله ، وأن ينذروهم على الإعراض عن العبودية ، فهذا هو المقصود الأصلي من البعثة ، فإذا حصل هذا المقصود فقد كمل الغرض وتم المطلوب ، وهذا المقصود الأصلي حاصل بإنزال الكتاب المشتمل على بيان هذا المطلوب ، ومن المعلوم أنه لا يختلف حال هذا المطلوب بأن يكون ذلك الكتاب مكتوبا في الألواح أو لم يكن ، وبأن يكون نازلا دفعة واحدة أو منجما مفرقا ، بل لو قيل : إن إنزال الكتاب منجما مفرقا أقرب إلى المصلحة لكان أولى لأن الكتاب إذا نزل دفعة واحدة كثرت التكاليف وتوجهت بأسرها على المكلفين فيثقل عليهم قبولها ، ولهذا السبب أصر قوم موسى - عليه السلام - على التمرد ولم يقبلوا تلك التكاليف ، أما إذا نزل الكتاب منجما مفرقا لم يكن كذلك ، بل ينزل التكاليف شيئا فشيئا وجزءا فجزءا ، فحينئذ يحصل الانقياد والطاعة من القوم وحاصل هذا الجواب أن هو الإعذار والإنذار ، وهذا المقصود حاصل سواء نزل الكتاب دفعة واحدة أو لم يكن كذلك ، فكان اقتراح المقصود من بعثة الرسل وإنزال الكتب اليهود في إنزال الكتاب دفعة واحدة اقتراحا فاسدا . وهذا أيضا جواب عن تلك الشبهة في غاية الحسن ، ثم ختم الآية بقوله : ( وكان الله عزيزا حكيما ) يعني هذا الذي يطلبونه من الرسول أمر هين في القدرة ، ولكنكم طلبتموه على سبيل اللجاج وهو تعالى عزيز ، وعزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه فكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع لعلمه تعالى بأنه لو فعل ذلك لبقوا مصرين على لجاجهم ، وذلك لأنه تعالى أعطى موسى - عليه السلام - هذا التشريف ومع ذلك فقومه بقوا معه على المكابرة والإصرار واللجاج والله أعلم .
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن قالوا لأن قوله : ( وجوب معرفة الله تعالى لا يثبت إلا بالسمع لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) يدل على أن قبل البعثة يكون للناس حجة في ترك الطاعات والعبادات ، ونظيره قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) [الإسراء : 15] وقوله : ( ولو أنا ) [ ص: 88 ] ( أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) [طه : 134] .
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أن العبد قد يحتج على الرب ، وأن الذي يقوله أهل السنة من ليس بشيء ، قالوا : لأن قوله : ( أنه تعالى لا اعتراض عليه في شيء ، وأن له أن يفعل ما يشاء كما يشاء لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) يقتضي أن لهم على الله حجة قبل الرسل ، وذلك يبطل قول أهل السنة .
والجواب : المراد لئلا يكون للناس على الله حجة ، أي : ما يشبه الحجة فيما بينكم . قالت المعتزلة : وتدل هذه الآية أيضا على أن لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذرا فبأن يكون عدم المكنة والقدرة صالحا لأن يكون عذرا كان أولى ، وجوابه المعارضة بالعلم والله أعلم . تكليف ما لا يطاق غير جائز