وقسم الإمام الحافظ ابن الجوزي الصحبة إلى ثلاث مراتب :
( الأولى ) : من كثرت معاشرته ومخالطته للنبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث لا يعرف صاحبها إلا بها ، فيقال : هذا صاحب فلان وخادمه لمن تكررت خدمته ، لا لمن خدمه مرة واحدة أو ساعة أو يوما .
( الثانية ) : من اجتمع به - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا ولو مرة واحدة ; لأنه يصدق عليه أنه صحبه ، وإن لم ينته إلى الاشتهار به .
( الثالثة ) : من رآه - صلى الله عليه وسلم - رؤية ، ولم يجالسه ولم يماشه ، فهذا ألحق بالصحبة إلحاقا ، وإن كانت لم توجد في حقه ، ولكنها صحبة إلحاقية حكمية لشرف قدر [ ص: 53 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستواء الكل في انطباع طلعة حقيقة الصحبة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيهم برؤيته إياهم ، أو رؤيتهم إياه مؤمنين بما جاء به ، وإن تفاوتت رتبهم ، رضوان الله عليهم .
وفي وصفنا إياهم بالأبرار إشارة إلى المذهب الراجح من أنهم عدول كلهم ، ولا يبحث عن عدالة أحد منهم ، لا في رواية ولا في شهادة ، والمراد ما لم يظهر معارض كزنا ماعز ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، دليل على ، إذ لو لم يكونوا عدولا ، لما حصل الاهتداء بالاقتداء بهم . وعلى الناس ذكر محاسنهم ، والكف عما جرى بينهم من الفتن ، ويجب حمل ذلك على اجتهادهم ، وظن كل فريق منهم أن ما صار إليه هو الواجب ، وأنه أرفق للدين وأوفق للمسلمين ، وكل مجتهد مأجور ، والله ولي الأمور ، ولهذا وصفهم بقوله " معادن " جمع معدن ، وهي المواضع التي يستخرج منها جواهر الأرض كالذهب والفضة وغيرهما ، والعدن الإقامة ، والمعدن مركز كل شيء ، ومنه حديث : " عدالتهم . أي عن أصولها التي ينسبون إليها ويتفاخرون بها ، أي هم مستقر " التقوى " ومواضعها ، والتقوى لغة الحجز بين الشيئين ، وشرعا التحرز بطاعة الله عن مخالفته وامتثال أمره واجتناب نهيه ، وأصل اتقى اوتقى ; لأنه من وقى وقاية ، فقلبت الواو تاء ، وأدغمت التاء في التاء ، ( مع الأسرار ) البديعة والأحوال الرفيعة . والسر ما استودعته لأخيك ، وكرهت أن يطلع عليه أحدا ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم : " فعن معادن العرب تسألوني ؟ قالوا : نعم . رواه المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس : سفك دم حرام ، وفرج حرام ، واقتطاع مال بغير حق أبو داود من حديث جابر مرفوعا ، وأخرج من حديث الإمام أحمد : " أبي الدرداء . وقال من سمع من رجل حديثا لا يشتهي أن يذكر عنه ، فهو أمانة وإن لم يستكتمه لابنه العباس بن عبد المطلب عبد الله - رضي الله عنهما : يا بني ، إن أمير المؤمنين يدنيك - يعني : عمر - رضي الله عنه - فاحفظ عني ثلاثا : لا تفشين له سرا ، ولا تغتابن عنده أحدا ، ولا يطلعن منك في كذبة . ولا شك أن ، وأبرهم قلوبا ، وأعلاهم أنوارا . الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا أعمق الناس أسرارا