الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ابتداء الاختلاف بين الأمين والمأمون

وفي هذه السنة ابتدأ الاختلاف بين الأمين والمأمون ابني الرشيد .

وكان سبب ذلك أن الرشيد لما سار نحو خراسان ، وأخذ البيعة للمأمون على جميع من في عسكره من القواد وغيرهم ، وأقر له بجميع ما معه من الأموال وغيرها ، على ما سبق ذكره - عظم على الأمين ذلك ، ثم بلغه شدة مرض الرشيد ، فأرسل بكر بن المعتمر ، وكتب معه كتبا ، وجعلها في قوائم صناديق المطبخ ، وكانت منقورة ، وألبسها جلود البقر ، وقال : لا تظهرن أمير المؤمنين ولا غيره على ذلك ، ولو قتلت ، فإذا مات فادفع إلى كل إنسان منهم ما معك .

فلما قدم بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه ، فدعا به ، وسأله عن سبب قدومه ، فقال : بعثني الأمين لآتيه بخبرك . قال : فهل معك كتاب ؟ قال : لا . فأمر بما معه ففتش ، فلم يصيبوا شيئا ، فأمر به فضرب ، فلم يقر بشيء ، فحبسه وقيده ، ثم أمر الفضل بن الربيع بتقريره ، فإن أقر وإلا ضرب عنقه ، فقرره فلم يقر بشيء ، ثم غشي على الرشيد ، فصاح النساء ، فأمسك الفضل عن قتله ، وحضر عند الرشيد ، فأفاق وهو ضعيف قد شغل عن بكر وغيره ثم مات .

وكان بكر قد كتب إلى الفضل يسأله أن لا يعجل في أمره بشيء ، فإن عنده أشياء يحتاج إلى عملها ، فأحضره الفضل ، وأعلمه بموت الرشيد ، وسأله عما عنده ، فخاف أن [ ص: 397 ] يكون الرشيد حيا ، فلما تيقن موته أخرج الكتب التي معه ، وهي كتاب إلى أخيه المأمون يأمره بترك الجزع ، وأخذ البيعة على الناس لهما ولأخيهما المؤتمن ، ولم يكن المأمون حاضرا ، كان بمرو ، وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر واستصحاب ما فيه ، وأن يتصرف هو ومن معه برأي الفضل ، وكتاب إلى الفضل يأمره بالحفظ والاحتياط على ما معه من الحرم والأموال وغير ذلك ، وأقر كل من كان له عمل على عمله ، كصاحب الشرطة والحرس والحجابة .

فلما قرءوا الكتب تشاوروا هم والقواد في اللحاق بالأمين ، فقال الفضل بن الربيع : لا أدع ملكا حاضرا لآخر ما أدري ما يكون من أمره . وأمر الناس بالرحيل ، فرحلوا محبة منهم لأهلهم ووطنهم ، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون .

فلما بلغ المأمون ذلك جمع من عنده من قواد أبيه ، وهم : عبد الله بن مالك ، ويحيى بن معاذ ، وشبيب بن حميد بن قحطبة ، والعلاء مولى هارون ، وهو على حجابته ، والعباس بن المسيب بن زهير ، وهو على شرطته ، وأيوب بن أبي سمير ، وهو على كتابته ، وعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح ، وذو الرياستين ، وهو أعظمهم عنده قدرا ، وأخصهم به ، واستشارهم ، فأشاروا أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة ، فيردهم ، فخلا به ذو الرياستين وقال : إن فعلت ما أشار به هؤلاء جعلوك هدية إلى أخيك ، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا وتوجه رسولا يذكرهم البيعة ، ويسألهم الوفاء ، ويحذرهم الحنث وما فيه دنيا وآخرة .

ففعل ذلك ، ووجه سهل بن صاعد ، ونوفلا الخادم ، ومعهما كتاب ، فلحقا الجند والفضل بنيسابور ، فأوصلا إلى الفضل كتابه ، فقال : إنما أنا واحد من الجند . وشد عبد الرحمن بن جبلة الأنباري على سهل بالرمح ليطعنه ، فأمره على جنبه ، وقال له : قل لصاحبك : لو كنت حاضرا لوضعته في فيك . وسب المأمون .

فرجعا إليه بالخبر ، فقال ذو الرياستين : أعداء استرحت منهم ، ولكن افهم عني ؛ إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام المنصور ، فخرج عليه المقنع وهو يدعي الربوبية ، وقيل طلب بدم أبي مسلم ، فضعضع العسكر بخروجه بخراسان ، وخرج بعده يوسف [ ص: 398 ] البرم ، وهو عند المسلمين كافر ، فتضعضعوا أيضا له ، فأخبرني أنت ، أيها الأمير ، كيف رأيت الناس عندما ورد عليهم خبر رافع ؟ قال : رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا . قال : فكيف بك وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم ، كيف يكون اضطراب أهل بغداذ ؟ اصبر ، وأنا أضمن لك الخلافة .

قال المأمون : قد فعلت ، وجعلت الأمر إليك ، فقم به .

قال ذو الرياستين : والله لأصدقنك ، إن عبد الله بن مالك ومن معه من القواد إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع لك مني برياستهم المشهورة ، وبما عندهم من القوة على الحرب ، فمن قام بالأمر كنت خادما له ، حتى تبلغ أملك وترى رأيك .

وقام ذو الرياستين وأتاهم في منازلهم ، وذكرهم ما يجب عليهم من الوفاء ، قال : فكأني جئتهم بجيفة على طبق . فقال بعضهم : هذا لا يحل ، اخرج ! وقال بعضهم : من الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه ؟ فجئت وأخبرته ، فقال : قم بالأمر ! قال : قلت له : قرأت القرآن ، وسمعت الأحاديث ، وتفقهت في الدين ، فأرى أن تبعث إلى من بحضرتك من الفقهاء ، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة ، وتقعد على الصوف ، وترد المظالم .

ففعل ذلك جميعه ، وأكرمه القواد والملوك وأبناء الملوك ، وكان يقول للتميمي : نقيمك مقام موسى بن كعب ، وللربعي : نقيمك مقام أبي داود ، وخالد بن إبراهيم ولليماني : نقيمك مقام قحطبة ، ومالك بن الهيثم . وكل هؤلاء نقباء الدولة العباسية ، ووضع عن خراسان ربع الخراج ، فحسن ذلك عند أهلها ، وقالوا : ابن أختنا ، وابن عم نبينا .

وأما الأمين ، فلما سكن الناس ببغداذ أمر ببناء ميدان حول قصر المنصور بعد بيعته بيوم ، [ للصوالجة واللعب ] ، فقال شاعرهم :

بنى أمين الله ميدانا وصير الساحة بستانا     وكانت الغزلان فيه بانا
يهدى إليه فيه غزلانا



[ ص: 399 ] وأقام المأمون يتولى ما كان بيده من خراسان والري ، وأهدى إلى الأمين ، وكتب إليه وعظمه .

التالي السابق


الخدمات العلمية