( ( الباب الثاني في
nindex.php?page=treesubj&link=28785الأفعال المخلوقة ) )
( ( وسائر الأشياء غير الذات وغير ما الأسماء والصفات ) ) ( ( مخلوقة لربنا من العدم
وضل من أثنى عليها بالقدم ) ) ( ( وربنا يخلق باختيار
من غير حاجة ولا اضطرار ) ) ( ( لكنه لا يخلق الخلق سدى
كما أتى في النص فاتبع الهدى ) )
( ( وسائر ) ) أي بقية ( ( الأشياء ) ) جمع شيء ( ( غير الذات ) ) المقدسة ( ( وغير ما ) ) زائدة لتأكيد النفي ( ( الأسماء ) ) أي غير أسمائه تعالى ، فإنها قديمة كالذات ( ( و ) ) وغير ( ( الصفات ) ) الذاتية والخبرية التي ثبتت في الكتاب والسنة الفعلية ، فكل شيء غير الذات العلية وأسمائها وصفاتها ( ( مخلوقة لربنا ) ) تبارك وتعالى ( ( من العدم ) ) ، مسبوقة به ، وتبين لك حكمة تعبير الناظم بسائر لأنها بمعنى البقية ، قال في القاموس : والسائر الباقي لا الجميع كما توهم جماعات ، أو قد يستعمل له ، ومنه قول
الأحوص :
فجلتها لنا لبابة لما وقذ النوم سائر الحراس
.
قال : وضاف أعرابي قوما فأمروا الجارية بتطييبه ، فقال :
بطني عطري وسائري ذري
.
فكل ما سواه سبحانه بأسمائه وصفاته محدث مسبوق بالعدم ، وهذا المتفق عليه عند سلف الأمة وأئمتها من أن
nindex.php?page=treesubj&link=28658_28783الله تعالى خالق كل شيء وربه ومليكه ، وأنه خالق كل شيء بقدرته ومشيئته ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فهو سبحانه وتعالى خالق الممكنات المحدثات من الأجسام والأعراض القائمة بالحيوان والجماد والمعادن والنبات وغيرها .
وهذا الذي دلت عليه الكتب المنزلة ، وأخبرت به الرسل المرسلة وعليه سلف الأمة وأئمتها بل وعليه جماهير العقلاء وأكابرهم
[ ص: 277 ] من جميع الطوائف خلافا لبعض
الفلاسفة ، كأرسطو القائل بقدم العالم ، وخلافا
لديمقراطيس القائل بقدم العلة والنفس والهيولى والخلاء والدهر . قال
شيخ الإسلام ابن تيمية في ( جواب المسائل الإسكندرية ) : قد نقلوا عن أساطين
الفلاسفة المتقدمين أنهم كانوا يقرون بحدوث صورة الفلك ولكنهم مضطربون في المادة ومتنازعون فيها ، نعم أرسطو وأتباعه قائلون بقدم صورته .
قال : وليس لهم دليل صحيح على قدم شيء من العالم ألبتة ، ولهذا قال : ( ( وضل ) ) عن الصراط المستقيم ، والنهج البين القويم ( ( من ) ) أي شخص وكل ( ( إنسان من كل ) ) طائفة من طوائف العالم ( ( أثنى عليها ) أي على سائر الأشياء سوى الذات المقدسة وصفاتها القديمة ، فسائر ما عدا ذلك من أثنى على شيء منها ( ( بالقدم ) ) فقد ضل وأضل ، وقد أخبر الله في محكم الذكر بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام .
وفي صحيح
مسلم عن
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026160إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء " أي
nindex.php?page=treesubj&link=28784_28661مقادير الخلائق التي خلقها في ستة أيام إلى أن يدخل أهل الجنة منازلهم ، وأهل النار منازلهم ، كما في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1025781 " أول ما خلق الله القلم : فقال : اكتب قال وما أكتب ؟ قال ما هو كائن إلى يوم القيامة " فقد بين أن القلم الذي هو أول المخلوقات من هذا العالم إنما كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهذا هو التقدير المذكور في قوله قدر مقادير الخلائق .
وفي الصحيح
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026161أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب أصحابه فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم ، وأهل النار منازلهم .
وقد جاء عن الصحابة والتابعين من الآثار والأخبار من هذا النهج شيء كثير ، وفي التوراة ما يوافق الكتاب والسنة من ذكر الماء الذي كان مخلوقا قبل أن يخلق السماوات والأرض ، وأن الله خلق السماء من بخار ذلك الماء . وذلك البخار هو الدخان المذكور في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين والعرش أيضا خلق
[ ص: 278 ] قبل ذلك كما دل عليه الكتاب والسنة
قال
شيخ الإسلام في الأجوبة الإسكندرية : قد أخبرت الكتب الإلهية أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، فتلك الأيام الستة مقدرة بحركة الشمس والقمر ، فإنه فيها
nindex.php?page=treesubj&link=28661خلق الشمس والقمر والأفلاك ، وسواء كانت بقدر هذه الأيام ، أو كان كل يوم بقدر ألف سنة فعلى القولين ، ليس مقدار هذه الحركات ما خلق فيها ، والحاصل أن الكتب الإلهية ، والسنة النبوية ، وإجماع المسلمين على أن الله خالق كل شيء ، فإن كل ما سوى الله مخلوق . قال
شيخ الإسلام : وصفاته تعالى ليست خارجة عن مسمى اسمه . وتقدم .
قال
شيخ الإسلام : وليس بين أهل الملل خلاف في أن
nindex.php?page=treesubj&link=28733الملائكة جميعهم مخلوقون ، وفي صحيح
مسلم وغيره من حديث
عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026162خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " .
وقال الإمام المحقق
شمس الدين ابن القيم في كتابه ( إغاثة اللهفان ) ،
وشيخه شيخ الإسلام في ( شرح الأصبهانية ) : أول من عرف عنه
nindex.php?page=treesubj&link=29620القول بقدم العالم أرسطو ، وكان ضالا مشركا يعبد الأصنام - يعني المصورات في هياكلهم على صور الكواكب السيارة .
قال : وله في الهيئات كلام كله خطأ ، قد تعقبه في الرد عليه طوائف المسلمين حتى
الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه .
قال
ابن القيم : قد جاء في كلامه بما يسخر منه العقلاء ، فأنكر أن يكون الله تعالى يعلم شيئا من الموجودات ، وقرر ذلك بأن لو علم شيئا لكمل بمعلوماته ، ولم يكن كاملا في نفسه ، وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات .
قال المحقق
ابن القيم - يسخر به ويهزأ منه : فهذا غاية عقد هذا المعلم والأستاذ ، وقد حكى عنه ذلك
أبو البركات البغدادي ، فيلسوف الإسلام ، وبالغ في إبطال هذه الحجج وردها . قال
ابن القيم : فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لاتباعه الكفر بالله ، وملائكته وكتبه واليوم الآخر ، ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة ممن يتستر باتباع الرسل ، وهو منحل من كل ما جاءوا به .
قال : وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء - عليهم السلام - ، ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه ، فما وافقه منها قبلوه ، وما خالفه لم يعبئوا به
[ ص: 279 ] شيئا ، ويسمونه المعلم الأول ، لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية ، والمعلم الثاني من
الفلاسفة nindex.php?page=showalam&ids=14868أبو نصر الفارابي ، إلا أنه من
فلاسفة الإسلام ، وهو الذي وضع لهم التعاليم الصوتية ، ووسع لهم في صناعة المنطق وبسطها ، وشرح فلسفة
أرسطو وهذبها ، وبالغ في ذلك ، وكان على طريقة سلفه ، والمعلم الثالث
nindex.php?page=showalam&ids=13251أبو علي بن سينا ، فإنه بالغ في تهذيب الفلسفة وقربها من شريعة الرسل ودين الإسلام بجهده وغاية ما أمكنه .
قال الإمام
ابن القيم : وحسبك جهلا بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله من يقول إنه سبحانه وتعالى لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب ، واستكمل بغيره ، وحسبك خذلانا وضلالا وعمى السير خلف هؤلاء ، وإحسان الظن بهم ، وأنهم ذوو العقول ، وحسبك عجبا من جهلهم وضلالهم ما قالوه في سلسلة الموجودات ، وصدور العالم عن العقول العشرة والنفوس التسعة ، إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة لا علم له بما صدر عنه ، ولا قدرة له عليه ولا إرادة ، وأنه لم يصدر عنه إلا واحد .
قال
ابن القيم : وصرح
أفلاطون بحدوث العالم كما كان عليه الأساطين ، وحكى عنه ذلك تلميذه
أرسطو ، وخالفه فيه ، فزعم أنه قديم ، وتبعه على ذلك
ملاحدة الفلاسفة من المنتسبين إلى الملل وغيرهم .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - : ليس لأرسطو ولا لأتباعه ولا غيرهم حجة واحدة تدل على قدم شيء من العالم أصلا ، وقد قدمنا قول
شيخ الإسلام وغيره : إن أول من قال بقدم العالم من
الفلاسفة هو
أرسطو ، قال
شيخ الإسلام : وأما الأساطين قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة الفلك ، وإن كان لهم في المادة أقوال أخر .
والحاصل أن
nindex.php?page=treesubj&link=28661_28784الحق الذي لا ريب فيه ولا شك يعتريه أن الله تعالى خالق لكل ما سواه فليس معه شيء قديم بقدمه ، ولا نفس ولا عقل ولا غيرهما . قال في ( إغاثة اللهفان ) :
والفلاسفة فرق شتى لا يحصيهم إلا الله ، وأحصى المعتنون بمقالات الناس منهم اثنتي عشرة فرقة مختلفة اختلافا كثيرا ، منهم أصحاب الرواق ، وأصحاب الظلة ، والمشاؤون وهم
شيعة أرسطو ، وفلسفتهم هي الدائرة اليوم بين الناس ، وهي التي يحكيها
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابن سينا ،
nindex.php?page=showalam&ids=14868والفارابي ،
وابن الخطيب ، وغيرهم ، ومنهم
الفيثاغورية والأفلاطونية ، قال : ولا نجد منهم اثنين متفقين على رأي
[ ص: 280 ] واحد بل قد تلاعب بهم الشيطان كتلاعب الصبيان بالكرة ، قال : وبالجملة فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض ، فإنهم عطلوا الشرائع ، وعطلوا المصنوع عن الصانع ، وعطلوا الصانع عن صفات كماله ، وعطلوا العالم عن الحق الذي خلق له وبه ، فعطلوه عن مبدئه ومعاده عن فاعله في غايته ، ثم سرى هذا الداء منهم في الأمم ، وفي فرق المعطلة أولا وآخرا . ولهذا قال : ( وضل من أثنى عليها بالقدم ) فهؤلاء هم الضلال ومن نحا نحوهم من الفرق الضالة ، والله على كل شيء قدير .
( ( الْبَابُ الثَّانِي فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28785الْأَفْعَالِ الْمَخْلُوقَةِ ) )
( ( وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ الذَّاتِ وَغَيْرُ مَا الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ ) ) ( ( مَخْلُوقَةٌ لِرَبِّنَا مِنَ الْعَدَمِ
وَضَلَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْهَا بِالْقِدَمِ ) ) ( ( وَرَبُّنَا يَخْلُقُ بِاخْتِيَارٍ
مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا اضْطِرَارٍ ) ) ( ( لَكِنَّهُ لَا يَخْلُقُ الْخَلْقَ سُدًى
كَمَا أَتَى فِي النَّصِّ فَاتْبَعِ الْهُدَى ) )
( ( وَسَائِرُ ) ) أَيْ بَقِيَّةُ ( ( الْأَشْيَاءِ ) ) جَمْعُ شَيْءٍ ( ( غَيْرُ الذَّاتِ ) ) الْمُقَدَّسَةِ ( ( وَغَيْرُ مَا ) ) زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ ( ( الْأَسْمَاءُ ) ) أَيْ غَيْرِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى ، فَإِنَّهَا قَدِيمَةٌ كَالذَّاتِ ( ( وَ ) ) وَغَيْرُ ( ( الصِّفَاتِ ) ) الذَّاتِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ ، فَكُلُّ شَيْءٍ غَيْرُ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ وَأَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا ( ( مَخْلُوقَةٌ لِرَبِّنَا ) ) تَبَارَكَ وَتَعَالَى ( ( مِنَ الْعَدَمِ ) ) ، مَسْبُوقَةٌ بِهِ ، وَتَبَيَّنَ لَكَ حِكْمَةُ تَعْبِيرِ النَّاظِمِ بِسَائِرٍ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْبَقِيَّةِ ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ : وَالسَّائِرُ الْبَاقِي لَا الْجَمِيعُ كَمَا تَوَهَّمَ جَمَاعَاتٌ ، أَوْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ
الْأَحْوَصِ :
فَجَلَّتَهَا لَنَا لُبَابَةٌ لَمَّا وَقَذَ النَّوْمُ سَائِرَ الْحُرَّاسِ
.
قَالَ : وَضَافَ أَعْرَابِيٌّ قَوْمًا فَأَمَرُوا الْجَارِيَةَ بِتَطْيِيبِهِ ، فَقَالَ :
بَطْنِي عِطْرِي وَسَائِرِي ذَرِّي
.
فَكُلُّ مَا سِوَاهُ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ ، وَهَذَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مِنْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28658_28783اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى خَالِقُ الْمُمْكِنَاتِ الْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِالْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَغَيْرِهَا .
وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ ، وَأَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ الْمُرْسَلَةُ وَعَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا بَلْ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ وَأَكَابِرُهُمْ
[ ص: 277 ] مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ خِلَافًا لِبَعْضِ
الْفَلَاسِفَةِ ، كَأَرِسْطُو الْقَائِلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ ، وَخِلَافًا
لِدِيمَقْرَاطِيسَ الْقَائِلِ بِقِدَمِ الْعِلَّةِ وَالنَّفْسِ وَالْهَيُولَى وَالْخَلَاءِ وَالدَّهْرِ . قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي ( جَوَابِ الْمَسَائِلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ) : قَدْ نَقَلُوا عَنْ أَسَاطِينِ
الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِحُدُوثِ صُورَةِ الْفَلَكِ وَلَكِنَّهُمْ مُضْطَرِبُونَ فِي الْمَادَّةِ وَمُتَنَازِعُونَ فِيهَا ، نَعَمْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ قَائِلُونَ بِقِدَمِ صُورَتِهِ .
قَالَ : وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ أَلْبَتَّةَ ، وَلِهَذَا قَالَ : ( ( وَضَلَّ ) ) عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَالنَّهْجِ الْبَيِّنِ الْقَوِيمِ ( ( مَنْ ) ) أَيُّ شَخْصٍ وَكُلُّ ( ( إِنْسَانٍ مِنْ كُلِّ ) ) طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْعَالَمِ ( ( أَثْنَى عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ سِوَى الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ وَصِفَاتِهَا الْقَدِيمَةِ ، فَسَائِرُ مَا عَدَا ذَلِكَ مَنْ أَثْنَى عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا ( ( بِالْقِدَمِ ) ) فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ .
وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=13عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026160إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ " أَيْ
nindex.php?page=treesubj&link=28784_28661مَقَادِيرُ الْخَلَائِقِ الَّتِي خَلَقَهَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1025781 " أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ : فَقَالَ : اكْتُبْ قَالَ وَمَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْقَلَمَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِنَّمَا كَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَهَذَا هُوَ التَّقْدِيرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ .
وَفِي الصَّحِيحِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026161أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ أَصْحَابَهُ فَذَكَرَ بَدْءَ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ .
وَقَدْ جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ الْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ مِنْ هَذَا النَّهْجِ شَيْءٌ كَثِيرٌ ، وَفِي التَّوْرَاةِ مَا يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ ذِكْرِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاءَ مِنْ بُخَارِ ذَلِكَ الْمَاءِ . وَذَلِكَ الْبُخَارُ هُوَ الدُّخَانُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=11ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وَالْعَرْشُ أَيْضًا خُلِقَ
[ ص: 278 ] قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْأَجْوِبَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ : قَدْ أَخْبَرَتِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، فَتِلْكَ الْأَيَّامُ السِّتَّةُ مُقَدَّرَةٌ بِحَرَكَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، فَإِنَّهُ فِيهَا
nindex.php?page=treesubj&link=28661خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْأَفْلَاكَ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ بِقَدْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، أَوْ كَانَ كُلُّ يَوْمٍ بِقَدْرِ أَلْفِ سَنَةٍ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ ، لَيْسَ مِقْدَارُ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ مَا خُلِقَ فِيهَا ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ ، وَالسُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ ، وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ . قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَصِفَاتُهُ تَعَالَى لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ مُسَمَّى اسْمِهِ . وَتَقَدَّمَ .
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَلَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ خِلَافٌ فِي أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28733الْمَلَائِكَةَ جَمِيعَهُمْ مَخْلُوقُونَ ، وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1026162خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ ، وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ " .
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ
شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ ( إِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ ) ،
وَشَيْخُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي ( شَرْحِ الْأَصْبَهَانِيَّةِ ) : أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُ
nindex.php?page=treesubj&link=29620الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ أَرِسْطُو ، وَكَانَ ضَالًّا مُشْرِكًا يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ - يَعْنِي الْمُصَوَّرَاتِ فِي هَيَاكِلِهِمْ عَلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ .
قَالَ : وَلَهُ فِي الْهَيْئَاتِ كَلَامٌ كُلُّهُ خَطَأٌ ، قَدْ تَعَقَّبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ طَوَائِفُ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى
الْجَهْمِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ وَفَلَاسِفَةُ الْإِسْلَامِ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ .
قَالَ
ابْنُ الْقَيِّمِ : قَدْ جَاءَ فِي كَلَامِهِ بِمَا يَسْخَرُ مِنْهُ الْعُقَلَاءُ ، فَأَنْكَرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِأَنْ لَوْ عَلِمَ شَيْئًا لَكَمُلَ بِمَعْلُومَاتِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ كَامِلًا فِي نَفْسِهِ ، وَبِأَنَّهُ كَانَ يَلْحَقُهُ التَّعَبُ وَالْكَلَالُ مِنْ تَصَوُّرِ الْمَعْلُومَاتِ .
قَالَ الْمُحَقِّقُ
ابْنُ الْقَيِّمِ - يَسْخَرُ بِهِ وَيَهْزَأُ مِنْهُ : فَهَذَا غَايَةُ عَقْدِ هَذَا الْمُعَلِّمِ وَالْأُسْتَاذِ ، وَقَدْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ
أَبُو الْبَرَكَاتِ الْبَغْدَادِيُّ ، فَيْلَسُوفُ الْإِسْلَامِ ، وَبَالَغَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الْحُجَجِ وَرَدِّهَا . قَالَ
ابْنُ الْقِيَمِ : فَحَقِيقَةُ مَا كَانَ عَلَيْهِ هَذَا الْمُعَلِّمِ لِاتِّبَاعِهِ الْكُفْرَ بِاللَّهِ ، وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَدَرَجَ عَلَى أَثَرِهِ أَتْبَاعُهُ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ مِمَّنْ يَتَسَتَّرُ بِاتِّبَاعِ الرُّسُلِ ، وَهُوَ مُنْحَلٌّ مِنْ كُلِّ مَا جَاءُوا بِهِ .
قَالَ : وَأَتْبَاعُهُ يُعَظِّمُونَهُ فَوْقَ مَا يُعَظَّمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - ، وَيَرَوْنَ عَرْضَ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى كَلَامِهِ ، فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا قَبِلُوهُ ، وَمَا خَالَفَهُ لَمْ يَعْبَئُوا بِهِ
[ ص: 279 ] شَيْئًا ، وَيُسَمُّونَهُ الْمُعَلِّمَ الْأَوَّلَ ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ لَهُمُ التَّعَالِيمَ الْمَنْطِقِيَّةَ ، وَالْمُعَلِّمُ الثَّانِيَ مِنَ
الْفَلَاسِفَةِ nindex.php?page=showalam&ids=14868أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ
فَلَاسِفَةِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ الَّذِي وَضَعَ لَهُمُ التَّعَالِيمَ الصَّوْتِيَّةَ ، وَوَسَّعَ لَهُمْ فِي صِنَاعَةِ الْمَنْطِقِ وَبَسَّطَهَا ، وَشَرَحَ فَلْسَفَةَ
أَرِسْطُو وَهَذَّبَهَا ، وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ سَلَفِهِ ، وَالْمُعَلِّمُ الثَّالِثُ
nindex.php?page=showalam&ids=13251أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا ، فَإِنَّهُ بَالَغَ فِي تَهْذِيبِ الْفَلْسَفَةِ وَقَرَّبَهَا مِنْ شَرِيعَةِ الرُّسُلِ وَدِينِ الْإِسْلَامِ بِجُهْدِهِ وَغَايَةِ مَا أَمْكَنَهُ .
قَالَ الْإِمَامُ
ابْنُ الْقَيِّمِ : وَحَسْبُكَ جَهْلًا بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ عَلِمَ الْمَوْجُودَاتِ لَحِقَهُ الْكَلَالُ وَالتَّعَبُ ، وَاسْتُكْمِلَ بِغَيْرِهِ ، وَحَسْبُكَ خِذْلَانًا وَضَلَالًا وَعَمًى السَّيْرُ خَلْفَ هَؤُلَاءِ ، وَإِحْسَانُ الظَّنِّ بِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ ذَوُو الْعُقُولِ ، وَحَسْبُكَ عَجَبًا مِنْ جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ مَا قَالُوهُ فِي سِلْسِلَةِ الْمَوْجُودَاتِ ، وَصُدُورِ الْعَالَمِ عَنِ الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ وَالنُّفُوسِ التِّسْعَةِ ، إِلَى أَنْ أَنْهَوْا صُدُورَ ذَلِكَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا صَدَرَ عَنْهُ ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا إِرَادَةَ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إِلَّا وَاحِدٌ .
قَالَ
ابْنُ الْقَيِّمِ : وَصَرَّحَ
أَفْلَاطُونُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَسَاطِينُ ، وَحَكَى عَنْهُ ذَلِكَ تِلْمِيذُهُ
أَرِسْطُو ، وَخَالَفَهُ فِيهِ ، فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدِيمٌ ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ
مَلَاحِدَةُ الْفَلَاسِفَةِ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ .
قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ - : لَيْسَ لِأَرِسْطُو وَلَا لِأَتْبَاعِهِ وَلَا غَيْرِهِمْ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ تَدُلُّ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ أَصْلًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ
شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهِ : إِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مِنَ
الْفَلَاسِفَةِ هُوَ
أَرِسْطُو ، قَالَ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَأَمَّا الْأَسَاطِينُ قَبْلَهُ فَلَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ بِقِدَمِ صُورَةِ الْفَلَكِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِي الْمَادَّةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28661_28784الْحَقَّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ يَعْتَرِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ فَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِقَدَمِهِ ، وَلَا نَفْسٌ وَلَا عَقْلٌ وَلَا غَيْرُهُمَا . قَالَ فِي ( إِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ ) :
وَالْفَلَاسِفَةُ فِرَقٌ شَتَّى لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَحْصَى الْمُعْتَنُونَ بِمَقَالَاتِ النَّاسِ مِنْهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً مُخْتَلِفَةً اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، مِنْهُمْ أَصْحَابُ الرِّوَاقِ ، وَأَصْحَابُ الظُّلَّةِ ، وَالْمَشَّاؤُونَ وَهُمْ
شِيعَةُ أَرِسْطُو ، وَفَلْسَفَتُهُمْ هِيَ الدَّائِرَةُ الْيَوْمَ بَيْنَ النَّاسِ ، وَهِيَ الَّتِي يَحْكِيهَا
nindex.php?page=showalam&ids=13251ابْنُ سِينَا ،
nindex.php?page=showalam&ids=14868وَالْفَارَابِيُّ ،
وَابْنُ الْخَطِيبِ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَمِنْهُمُ
الْفِيثَاغُورِيَّةُ وَالْأَفْلَاطُونِيَّةُ ، قَالَ : وَلَا نَجِدُ مِنْهُمُ اثْنَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى رَأْيٍ
[ ص: 280 ] وَاحِدٍ بَلْ قَدْ تَلَاعَبَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ كَتَلَاعُبِ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ ، قَالَ : وَبِالْجُمْلَةِ فَمَلَاحِدَتُهُمْ هُمْ أَهْلُ التَّعْطِيلِ الْمَحْضِ ، فَإِنَّهُمْ عَطَّلُوا الشَّرَائِعَ ، وَعَطَّلُوا الْمَصْنُوعَ عَنِ الصَّانِعِ ، وَعَطَّلُوا الصَّانِعَ عَنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ ، وَعَطَّلُوا الْعَالَمَ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي خُلِقَ لَهُ وَبِهِ ، فَعَطَّلُوهُ عَنْ مَبْدَئِهِ وَمَعَادِهِ عَنْ فَاعِلِهِ فِي غَايَتِهِ ، ثُمَّ سَرَى هَذَا الدَّاءُ مِنْهُمْ فِي الْأُمَمِ ، وَفِي فِرَقِ الْمُعَطِّلَةِ أَوَّلًا وَآخِرًا . وَلِهَذَا قَالَ : ( وَضَلَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْهَا بِالْقِدَمِ ) فَهَؤُلَاءِ هُمُ الضُّلَّالُ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .