الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2924 [ 1654 ] وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع".

                                                                                              رواه البخاري (2287)، ومسلم (1564)، وأبو داود (3345)، والترمذي (1308)، والنسائي ( 7 \ 317 )، وابن ماجه (2404).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: مطل الغني ظلم ) المطل: منع قضاء ما استحق أداؤه مع التمكن من ذلك، وطلب المستحق حقه. وهو الذي قال فيه في الحديث الآخر: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) أي: مطل الموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ظلم للمستحق، يبيح من عرضه أن يقال فيه: فلان يمطل الناس، ويحبس حقوقهم. ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك. حكي معناه عن سفيان . و (الظلم): وضع الشيء في غير موضعه في أصل اللغة. وهو في الشرع محرم مذموم. ووجهه هنا: أنه وضع المنع موضع ما يجب عليه من البذل، فحاق به [ ص: 439 ] الذم والعقاب. والغني الذي أضيف المطل إليه هو الذي عليه الحق؛ بدليل قوله: (لي الواجد) وهو الظاهر من الحديث والمراد منه، ولا يلتفت لقول من قال: إنه صاحب الحق، لبعد المعنى، وعدم ما يدل عليه.

                                                                                              و (قوله: وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع ) أتبع - بضم الهمزة، وتخفيف التاء، وكسر الباء - مبنيا لما لم يسم فاعله عند الجميع. فأما: (فليتبع) فبعضهم قيده بتشديد التاء، وكذلك قيدته على من يوثق به. وقد روي بتخفيفها. وهو الأجود؛ لأن العرب تقول: تبعت الرجل بحقي، أتبعه، تباعة: إذا طلبته به، فأنا له تبيع - كل ذلك بالتخفيف -، ومنه قوله تعالى:ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [الإسراء: 69]، ومعناه: إذا أحيل أحدكم فليحتل. وهذا الأمر عند الجمهور محمول على الندب؛ لأنه من باب المعروف والتيسير على المعسر. وقد حمله داود على الوجوب تمسكا بظاهر الأمر. وهذا ليس بصحيح؛ لأن ملك الذمم كملك الأموال. وقد أجمعت الأمة على أن الإنسان لا يجبر على المعاوضة بشيء من ملكه بملك غيره، فكذلك الذمم. وأيضا: فإن نقل الحق من ذمة إلى ذمة تيسير على المعسر، وتنفيس عنه، فلا يجب، وإنما هو من باب المعروف بالاتفاق. وإذا تقرر ذلك فالحوالة معناها: تحويل الدين من ذمة إلى ذمة. وهي مستثناة من بيع الدين بالدين لما فيها من الرفق، والمعروف. ولها شروط:

                                                                                              [ ص: 440 ] فمنها: أن تكون بدين، فإن لم تكن بدين لم تكن حوالة، لاستحالة حقيقتها إذ ذاك، وإنما تكون حمالة.

                                                                                              ومنها: رضا المحيل والمحال دون المحال عليه. وهو قول الجمهور، خلافا للإصطخري ، فإنه اعتبره. وإطلاق الحديث حجة عليه. وقد اعتبره مالك إن قصد المحيل بذلك الإضرار بالمحال عليه. وهذا من باب دفع الضرر.

                                                                                              ومنها: أن يكون الدين المحال به حالا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( مطل الغني ظلم ). ولا يصح المطل، ولا يصدق الظلم إلا في حق من وجب عليه الأداء، فيمطل. ثم قال بعده: ( فإذا أتبع أحدكم فليتبع ) فأفاد ذلك: أن الدين المحال به لا بد أن يكون حالا؛ لأنه إن لم يكن حالا كثر الغرر بتأجيل الدينين.

                                                                                              ومنها: أن يكون الدين المحال عليه من جنس المحال به؛ لأنه إن خالفه في نوعه خرج من باب المعروف إلى باب المبايعة، والمكايسة، فيكون بيع الدين بالدين المنهي عنه.

                                                                                              فإذا كملت شروطها برئت ذمة المحيل بانتقال الحق الذي كان عليه إلى ذمة المحال عليه. فلا يكون للمحال الرجوع على المحيل، وإن أفلس المحال عليه، أو مات. وهذا قول الجمهور.

                                                                                              وقد ذهب أبو حنيفة إلى رجوعه عليه، إن تعذر أخذه الدين من المحال عليه. والأول الصحيح؛ لأن الحوالة عقد معاوضة، فلا يرجع بطلب أحد العوضين بعد التسليم، كسائر عقود المعاوضات؛ ولأن ذمة المحيل قد برئت من الحق المحال به بنفس الحوالة، فلا تعود مشتغلة به إلا بعقد آخر، ولا عقد، فلا شغل. غير أن مالكا قال: إن غر المحيل المحال بذمة المحال عليه كان له الرجوع على المحيل. وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه؛ لوضوحه.




                                                                                              الخدمات العلمية