الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2960 [ 1674 ] وعن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام. فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها أجملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه.

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 326)، والبخاري (2236)، ومسلم (1581)، وأبو داود (3486)، والترمذي (1297)، والنسائي ( 7 \ 309 )، وابن ماجه (2167).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و (قوله: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها ) دليل: على أن أواني الخمر إذا لم تكن مضراة بالخمر؛ أنه يجوز استعمالها في غير الخمر إذا غسلت، ألا ترى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إبقاءها عنده، ولا أمره بشقها، ولو كانت نجسة لا يطهرها الغسل لأمره بشقها، وتقطيعها، كما فعل أبو طلحة لما قال لأنس : قم إلى هذه الجرار فكسرها. قال أنس : فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى تكسرت.

                                                                                              و (الراوية): القربة الكبيرة التي يحمل فيها الماء. وقد سمي البعير الذي يحملها: راوية؛ لأنه يحملها. وسميت بذلك: لأنها تروي من كانت عنده، وتسمى أيضا: مزادة؛ لأنها زيد فيها جلد آخر، ويحتمل أن تسمى بذلك؛ لأنها من كانت عنده في سفره كان عنده معظم الزاد.

                                                                                              [ ص: 461 ] و (قول جابر رضي الله عنه: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام ) كذا صحت الرواية: (حرم) مسندا إلى ضمير الواحد. وكان أصله: حرما؛ لأنه تقدم اثنان، لكن تأدب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجمع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين؛ لأن هذا من نوع ما رده على الخطيب الذي قال: ومن يعصهما فقد غوى. فقال له: (بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله) وقد قدمنا الكلام عليه في كتاب الصلاة. وصار هذا مثل قوله تعالى: الله بريء من المشركين ورسوله، فيمن قرأ بنصب (رسوله) غير أن الحديث فيه تقديم، وتأخير؛ لأنه كان حقه أن يقدم: (حرم) على (رسوله) كما جاء في الآية، والله تعالى أعلم.

                                                                                              وهذا الحديث يدل: على أن تحريم الخمر كان متقدما على فتح مكة، وقد سوى في هذا الحديث بين الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فلا يجوز بيع شيء مما يقال عليه خمر. وقد قدمنا، ويأتي: أن الخمر: كل شراب يسكر من أي شيء كان، من عنب أو غيره. فيحرم بيع قليله وكثيره. وقد قلنا: إن تحريم نفعه معلل بنجاسته، وأنه ليس فيه منفعة مسوغة شرعا.

                                                                                              وأما الميتة: فيحرم بيع [ ص: 462 ] جميع أجزائها، حتى عظمها، وقرنها، ولا يستثنى عندنا منها شيء إلا ما لا تحله الحياة كالشعر، والصوف، والوبر، فإنه طاهر من الميتة، وينتزع من الحيوان في حال حياته وهو قول مالك ، وأبي حنيفة . وزاد أبو حنيفة ، وابن وهب من أصحابنا إلى ذلك: أن العظم من الفيل وغيره، والسن، والقرن، والظلف، كلها لا تحلها الحياة، فلا تنجس بالموت.

                                                                                              والجمهور على خلافهما في العظم، وما ذكر معه، فإنها تحله الحياة. وهو الصحيح. فإن العظم والسن يألم، وتحس به الحرارة والبرودة، بخلاف الشعر، وهذا معلوم بالضرورة. فأما أطراف القرون، والأظلاف، وأنياب الفيل: فاختلف فيها. هل حكمها حكم أصولها فتنجس؟ أو حكمها حكم الشعر؟ على قولين.

                                                                                              وأما الريش: فالشعري منه شعر، وأسفله عظم. ومتوسطه؛ هل يلحق بأطرافه أو بأصله؟ فيه قولان لأصحابنا. وقد قال بنجاسة الشعر الحسن البصري ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، لكنها تطهر بالغسل عندهم، فكأنها عندهم نجسة بما يتعلق بها من رطوبات الميتة. وإلى نحو من هذا ذهب ابن القاسم في أنياب الفيل فقال: تطهر إن سلقت بالماء.

                                                                                              وعن الشافعي في الشعور ثلاث روايات:

                                                                                              إحداها: أن الشعر ينجس بالموت.

                                                                                              والثانية: أنها طاهرة كقولنا.

                                                                                              والثالثة: أن شعر ابن آدم وحده طاهر، وأن ما عداه نجس.

                                                                                              وأما جلود الميتة : فلا تباع قبل الدباغ، ولا ينتفع بها؛ لأنها كلحم الميتة، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب) وأما بعد الدباغ؛ فمشهور مذهب مالك : أنها لا تطهر بالدباغ، وإنما ينتفع بها. وهو مذهب جماعة [ ص: 463 ] من أهل العلم. وعلى هذا فلا يجوز بيعها، ولا الصلاة عليها، ولا بها، ولا ينتفع بها إلا في اليابسات دون المائعات، إلا في الماء وحده.

                                                                                              وذهب الجمهور من السلف، والخلف: إلى أنها تطهر طهارة مطلقة، وأنها يجوز بيعها، والصلاة عليها، وبها. وإليه ذهب الشافعي ، ومالك في رواية ابن وهب . وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (دباغ الإهاب طهوره) وغير ذلك. وكلها صحيح.

                                                                                              ومما لا يجوز بيعه لأنه ميتة جسد الكافر. وقد أعطي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق في جسد نوفل بن عبد الله المخزومي عشرة آلاف درهم. فلم يأخذها، ودفعه إليهم، وقال: (لا حاجة لنا بجسده، ولا بثمنه).

                                                                                              وأما الخنزير، وهو الحيوان المعروف البري، ولا تعرف العرب في البحر خنزيرا. وقد سئل مالك عن خنزير الماء؟ فقال: أنتم تسمونه خنزيرا؛ أي: لا تسميه العرب بذلك. وقد اتقاه مرة أخرى على جهة الورع، والله تعالى أعلم.

                                                                                              فأما البري: فلا خلاف في تحريمه، وتحريم بيعه، وأنه لا تعمل الذكاة فيه. ومن هنا قال كافة العلماء: إن جلده لا يطهره الدباغ، وإنما يطهر الدباغ جلد ما تعمل الذكاة في حيه. وألحق الشافعي بالخنزير الكلب، فلا يطهر جلده عنده. وقال الأوزاعي ، وأبو ثور : إنما يطهر الدباغ جلد ما يؤكل لحمه .

                                                                                              وقد أجاز مالك تذكية السباع والفيل لأخذ جلودها، وهذا إنما يتمشى على قوله بكراهة لحومها. وأما [ ص: 464 ] على ما قاله في "الموطأ" من أن السباع حرام: فلا تعمل الذكاة فيها، فلا تطهر جلودها بالدباغ، كالخنزير. وقد شذ داود ، وأبو يوسف فقالا: إنه يطهر بالدباغ جلد كل حيوان، حتى الخنزير. ومتمسكهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقد طهر). ويعتضد أبو يوسف بقياس جلد الخنزير على جلد الميتة. وينفصل الجمهور عنهما: بأن هذا العموم محمول على نوع السبب الذي أخرجه. وهو ميتة ما تعمل الذكاة فيه، وبأن جلد الخنزير نادر لا يخطر بالبال حالة الإطلاق، فلا يقصد بالعموم، كما قررناه في أصول الفقه، وبأنه: لا يقال: إهاب إلا على جلد ما يؤكل لحمه، كما قاله النضر بن شميل . وأما القياس: فليس بصحيح؛ لوجود الفرق. وذلك: أن الأصل: ميتة ما تعمل الذكاة فيه. والفرع: ميتة ما لا تعمل الذكاة فيه. فكانت أغلظ، وأفحش. والله تعالى أعلم.

                                                                                              وأما الأصنام: فهي الصور المتخذة للعبادة، ولا خلاف في تحريم اتخاذها، وبيعها، وأنها يجب كسرها، وتغييرها. وكذلك كل صورة مجسدة، كانت صورة ما يعقل، أو ما لا يعقل. وأما ما كان رقما في ثوب أو بناء في حائط، ففيه تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.

                                                                                              و (قوله - وقد سئل عن بيع شحوم الميتة -: لا، هو حرام ) نص في أنه يحرم بيعها؛ وإن كانت فيها منافع، وذلك: لأنها جزء من الميتة كاللحم، أو هي كالشحم مع اللحم، فإنه عنه يكون. ولا يلزم من تحريم بيعها، والحكم بنجاستها، ألا يجوز الانتفاع بها، على ما قدمناه. وهذا هو الذي يتمشى على مذهب مالك، [ ص: 465 ] فإنه قد أجاز الانتفاع بما ماتت فيه ميتة من المائعات؛ كالزيت، والسمن، والعسل، وغير ذلك، مع الحكم بنجاسته. فقال: يعمل من الزيت النجس الصابون، ويستصبح به في غير المساجد. ويعلف العسل النحل. ويطعم النجس الماشية. وإلى نحو ذلك ذهب الشافعي ، والثوري ، وأبو حنيفة . وروي عن علي وابن عمر . وقد فرق بعض أهل العلم بين شحوم الميتة، وبين ما ينجس بما وقعت فيه نجاسة. فقال: لا ينتفع بالشحوم؛ لأنها نجسة لعينها، بخلاف ما ينجس بما وقع فيه، فإنه ينتفع به؛ لأن نجاسته ليست لعينه، بل عارضة.

                                                                                              قلت: وهذا الفرق ليس بصحيح. فإن النجاسة حكم شرعي. والأحكام الشرعية ليست صفات للأعيان، بل هي راجعة لقول الشارع: افعلوا، أو لا تفعلوا. كما قد حققناه في الأصول. ولو سلمناه لقلنا: إن النجاسة العينية قد اختلطت مع العارضة ولا مميز، فحكمهما سواء.

                                                                                              فإن قيل: فكيف يجوز أن يقال بجواز الانتفاع بشيء من ذلك، وفي الحديث الصحيح: ( إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه ). والانتفاع بها قربان لها فلا يجوز؟ ! ثم في الانتفاع بها التلطخ بها عند مباشرتها، ولا يجوز التلطخ بالنجاسات شرعا.

                                                                                              فالجواب: القول بموجب ما ذكر. فإن القرب المنهي عنه إنما هو الأكل؛ بدليل قوله في أول الحديث: (إن كان جامدا فألقوها، وكلوه) وفي بعض طرقه: (وكلوا سمنكم) ثم قال بعد هذا: (وإن كان مائعا فلا تقربوه) أي: بأكل. وأيضا: فقد قررنا في أصول الفقه: أن الشرع إذا نهى عن شيء، وأوقع نهيه عليه، فإنما يعني به: النهي [ ص: 466 ] عما يراد ذلك الشيء له، وإن سكت عنه. كما قال تعالى: ولا تقربوهن حتى يطهرن [البقرة: 222] أي: بالوطء، وكقوله: حرمت عليكم أمهاتكم [النساء: 23] أي: وطؤهن ومقدماته. وكذلك العرف إذا قال العربي : لا تقرب الماء؛ أي: لا تشربه. والخبز؛ أي: لا تأكله. وهذا معلوم.

                                                                                              وأما النهي عن مباشرة النجاسات: فإنما يحمل على التحريم عند محاولة فعل الطهارة شرط فيه؛ كالصلاة، ودخول المسجد، ونحو ذلك. وأما فيما لم يكن كذلك فلا يكون حراما بالاتفاق.

                                                                                              ثم اختلف القائلون بجواز الانتفاع بها. هل يجوز بيع ما ينتفع به منها أو لا؟ على قولين؛ والصحيح: منع الجواز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( قاتل الله اليهود ، نهوا عن الشحم، فباعوه، وأكلوا ثمنه ). وفي بعض طرقه: (إن الله إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه).

                                                                                              وقوله: ( قاتل الله اليهود ) أي: قتلهم؛ كقوله تعالى: قاتلهم الله أنى يؤفكون [التوبة: 30] قاله الهروي . قال: وسبيل (فاعل) أن يكون من اثنين، وربما يكون من واحد؛ كقولك: سافرت، وطارقت النعل. وقال ابن عباس : لعنهم. وقد جاء ذلك مصرحا به في الرواية الأخرى. وقال غيره: عاداهم.

                                                                                              و (قوله: اجتملوها ) أي: أذابوها. يقال: جملت الشحم، واجتملته: [ ص: 467 ] إذا أذبته. والجميل: الشحم المذاب. قال أبو عبيد : يقال: جملت، وأجملت، واجتملت.




                                                                                              الخدمات العلمية