الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإن ادعى رجل ولاء رجل فجاء بشاهدين ، فشهد أحدهما أن أباه أعتقه في مرضه ولا وارث له غيره وشهد الآخر أن أباه أعتقه عن دبر موته وهو يملكه فالشهادة باطلة ; لاختلافهما في المشهود به لفظا ومعنى ، فإن التدبير غير العتق المنجز في المرض ، ومثل هذا لو شهد أحدهما أن أباه قد علق عتقه بدخول الدار ، وقد دخل ، والآخر أنه علق عتقه بكلام فلان وقد فعل أو شهد أحدهما أن أباه كاتبه واستوفى البدل ، والآخر أنه أعتقه بمال فإن الكتابة غير العتق بمال ، ألا ترى أنه يملك الكتابة من لا يملك العتق فكان هذا اختلافا في المشهود به لفظا ومعنى ، بخلاف ما لو اختلفا في الزمان والمكان حيث تقبل شهادتهما ; لأن العتق قول ولا يختلف باختلاف الزمان والمكان إذ القول يعاد ويكرر ، ويكون الثاني هو الأول ، ولو مات رجل فأخذ رجل ماله ، وادعى أنه وارثه لم يؤخذ منه ; لأنه لا منازع له في ذلك ، وخبر المخبر محمول على الصدق في حقه إذا لم يكن هناك من يعارضه ; ولأن المال في يده في الحال وهو يزعم أنه ملكه فالقول قوله في ذلك ، فإن خاصمه فيه إنسان سألته البينة ; لأنه يدعي استحقاق اليد عليه في هذا المال ولا يثبت الاستحقاق إلا ببينة فما لم تقم البينة على سبب استحقاقه لا يؤخذ المال من يد ذي اليد ، فإن ادعى رجل أنه أعتق الميت وهو يملكه ، وأنه لا وارث له غيره وأقام الذي في يديه المال البينة على مثل ذلك قضيت بالولاء والميراث بينهما نصفين ; لأن المقصود بهذه البينة إثبات السبب وهو الولاء [ ص: 105 ] وإنما قامت بينة على كل واحد منهما على الميت وقد استوت البينتان في ذلك ، فيقضى بينهما بالولاء ، ثم استحقاق المال يترتب على ذلك ( فإن قيل ) : لا كذلك بل المقصود إثبات استحقاق المال وأحدهما فيها صاحب اليد والآخر خارج فإما أن يجعل هذا كبينة ذي اليد والخارج على الملك المطلق فيقضى للخارج ، أو يجعل كما لو ادعيا تلقي الملك من واحد ، وأقاما البينة فتكون بينة ذي اليد أولى .

( قلنا ) : لا كذلك بل الولاء حق مقصود يستقيم إثباته بالبينة ، وإن لم يكن هناك مال ، وإنما ينظر إلى إقامتهما البينة على الولاء أولا ، وهما في ذلك سواء ثم استحقاق الميراث ينبني على ذلك ، وليس هذا نظير ما لو ادعيا تلقي الملك من واحد بالشراء ; لأن السبب هناك غير مقصود حتى لا يمكن إثباته بدون الحكم ، وهو الملك ; ولأن السبب هناك يتأكد بالقبض ، فذو اليد يثبت شراء متأكدا بالقبض ; فلهذا كانت بينته أولى ، وهنا الولاء متأكد بنفسه ولا تأثير لليد على المال في تأكيد السبب ، فلهذا قضي بينهما .

فإن أقام مسلم شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه ، وأنه مات وهو مسلم لا وارث له غيره ، وأقام ذو اليد الذمي شاهدين مسلمين أنه أعتقه وهو يملكه ، وأنه مات كافرا لا وارث له غيره ، فللمسلم نصف الميراث ، ونصف الميراث لأقرب الناس إلى الذمي من المسلمين ، فإن لم يكن له منهم قرابة جعلته لبيت المال ; لما بينا أن المقصود إثبات الولاء ، وقد استوت الحجتان في ذلك ، فإن شهود الذمي مسلمون وهو حجة على المسلم كشهود المسلم ، فيثبت الولاء بينهما نصفين ، ثم إحدى البينتين توجب كفره عند الموت ، والأخرى توجب إسلامه عند الموت ، والذي يثبت إسلامه أولى وإذا ثبت أنه مات مسلما فالمسلم يرثه المسلم دون الكافر ، ولكن الإرث بحسب السبب ، وللمسلم نصف ولاية فلا يرث به إلا نصف الميراث ، ونصف الولاء للذمي وهو ليس بأهل أن يرثه ، فيجعل كالميت ، ويكون هذا النصف لأقرب عصبة له من المسلمين ، فإذا لم يوجد ذلك فهو لبيت المال بمنزلة ما لو مات الذمي ولا وارث له فالولاء في هذا مخالف للنسب ، فإن النسب لا يتجزأ بحال فيتكامل السبب في حق كل واحد منهما ، فإذا لم يكن أحدهما ممن يرثه فللآخر جميع المال لتكامل السبب في حقه ، فأما الولاء يحتمل التجزؤ حتى لو أعتق رجلان عبدا كان لكل واحد منهما نصف ولائه ، فلهذا لا يرث المسلم إلا نصف الميراث ، فإن كان شهود الذمي نصارى لم تجز شهادتهم على المسلم ; لأن إسلام الميت يثبت بشهادة الشهود المسلمين ، والحجة في الولاء تقوم عليه ، وشهادة النصارى ليست بحجة عليه ; ولأن المسلم أثبت [ ص: 106 ] دعواه بما هو حجة على خصمه ، والذمي أثبت دعواه بما ليس بحجة على خصمه ، فلا تتحقق المعارضة بينهما ولكن يقضى بولائه للمسلم وبجميع الميراث له ، فإن وقت كل واحدة من البينتين وقتا في العتق ، وهو حي والشهود كلهم مسلمون ، فصاحب الوقت الأول أحق ; لأن صاحب الوقت الأول أثبت عتقه من حين أرخ شهوده فلا تصور للعتق من الآخر بعد ذلك ، ومتى كانت إحدى البينتين طاعنة في الأخرى دافعة لها فالعمل بها أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية