الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان معنى القسمة لغة وشرعا ، أما في اللغة : فهي عبارة عن إفراز النصيب ، وفي الشريعة : عبارة عن إفراز بعض الأنصباء عن بعض ، ومبادلة بعض ببعض ; لأن ما من جزأين من العين المشتركة لا يتجزآن قبل القسمة ، إلا وأحدهما ملك أحد الشريكين ، والآخر ملك صاحبه غير عين ، فكان نصف العين مملوكا لهذا ، والنصف مملوكا لذاك على الشيوع ، فإذا قسمت بينهما نصفين ، والأجزاء المملوكة لكل واحد منهما شائعة غير معينة ، فتجتمع بالقسمة في نصيبه دون نصيب صاحبه ، فلا بد وأن يجتمع في نصيب كل واحد منهما أجزاء ، بعضها مملوكة له ، وبعضها مملوكة لصاحبه على الشيوع .

                                                                                                                                فلو لم تقع القسمة مبادلة في بعض أجزاء المقسوم ، لم يكن المقسوم كله ملكا للمقسوم عليه ، بل يكون بعضه ملك صاحبه ، فكانت القسمة منهما بالتراضي ، أو بطلبها من القاضي رضا من كل واحد منهما بزوال ملكه عن نصف نصيبه بعوض - وهو نصف نصيب صاحبه - وهو تفسير المبادلة ، فكانت القسمة في حق الأجزاء المملوكة له إفرازا وتمييزا ، أو تعيينا لها في الملك وفي حق الأجزاء المملوكة لصاحبه معاوضة ، وهي مبادلة بعض الأجزاء المجتمعة في نصيبه ببعض الأجزاء المجتمعة في نصيب صاحبه ، فكانت إفراز بعض الأنصباء ومعاوضة البعض ضرورة ، وهذا هو حقيقة القسمة المعقولة في الأملاك المشتركة ، فكان معنى المعاوضة لازما في كل قسمة شرعية ، إلا أنه أعطى لها حكم الإفراز في ذوات الأمثال في بعض الأحكام ; لأن المأخوذ من العوض مثل المتروك من المعوض ، فجعل كأنه يأخذ عين حقه بمنزلة المقرض ، حتى كان لكل واحد منهما أن يأخذ نصيبه من غير رضا صاحبه ، فجعل إفرازا حكما ، وهذا المعنى لا يوجد في غير ذوات الأمثال فإن قيل : أليس أنه يجبر على القسمة والمعاوضات مما لا يجرى فيها الجبر كالبيع ونحوه ؟ .

                                                                                                                                ( فالجواب ) أن المعاوضة قد يجرى فيها الجبر ، ألا ترى أن الغريم يجبر على قضاء الدين ، وقضاء الدين لا يتحقق إلا بطريق المعاوضة - على ما بينا في كتاب الوكالة - دل أن الجبر لا ينفي المعاوضة فجاز أن يجبر على القسمة ، وإن كانت معاوضة مع ما أن الجبر لا يجري في المعاوضات المطلقة ، كالبيع ونحوه ، والقسمة ليست بمعاوضة مطلقة ، بل هي إفراز من وجه ، ومعاوضة من وجه ، فجاز أن يجري فيها الجبر ; وعلى هذا الأصل تخرج قسمة المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة ، أنها لا تجوز مجازفة كما لا يجوز بيعها مجازفة ; لاعتبار معنى المبادلة ، وذكر في الكتاب في كر حنطة مشترك بين [ ص: 18 ] رجلين ثلاثون منه رديئة وعشرة منه جيدة قيمتها سواء فأرادا أن يقتسماه فيأخذ أحدهما ثلاثين والآخر عشرة أنه لا يجوز ; لتمكن الربا فيه لتحقق معنى المعاوضة .

                                                                                                                                ولو زاد صاحب الزيادة ثوبا أو شيئا آخر جاز ; لأن الزيادة صارت مقابلة بالثوب ، فزال معنى الربا وقال في زرع مشترك بين رجلين في أرض مملوكة لهما فأرادا قسمة الزرع دون الأرض ، وقد سنبل الزرع : إنه لا تجوز قسمته ; لأن قسمته بطريق المجازفة ، ولا تجوز المعاوضة بطريق المجازفة في الأموال الربوية ، وكذا لو أوصى بصوف على ظهر غنم لرجلين ، أو أوصى باللبن في الضرع لهما ، لم تجز قسمته قبل الجز والحلب ; لأن الصوف واللبن من الأموال الربوية فلا يحتملان القسمة مجازفة ، كما لا يحتملان البيع مجازفة ، وكذا خيار العيب يدخل في نوعي القسمة كما يدخل في البيع ، وخيار الرؤية والشرط يدخل في أحد النوعين دون الآخر ، لا لانعدام معنى المبادلة ، بل لمعنى آخر نذكره في موضعه ولو اشترى رجلان من رجل كر حنطة بمائة درهم فاقتسماه ، فلكل واحد منهما أن يبيع نصيبه مرابحة على خمسين درهما .

                                                                                                                                ولو اشتريا دارا بمائة درهم فاقتسماها ، ليس لواحد منهما أن يبيع نصيبه مرابحة على خمسين ، وإنما افترق النوعان في هذا الحكم ، لا لاعتبار معنى الإفراز في أحدهما والمبادلة في الآخر ، بل لمعنى آخر وهو أن المرابحة بيع بمثل المذكور ثمنا في الأول مع زيادة شيء ، وإنما يجوز البيع بمثل المذكور ثمنا في الأول مع زيادة شيء فيما يحتمل الزيادة .

                                                                                                                                وأما فيما لا يحتمل الزيادة فلا ، كما إذا اشترى كر حنطة بكر حنطة لا يبيعه مرابحة على الكر كذا هنا بل أولى ; لأن ذلك معاوضة مقصودة ، والمعاوضة في القسمة ليست بمقصودة ، وإذا كان كذلك يسقط اعتبار هذا الثمن شرعا في هذا الحكم ; لأنه لا يحتمل الزيادة فكان له أن يبيعه مرابحة على أول ثمن يحتمل الزيادة ، وهو الخمسون بخلاف قسمة الدار ; لأن هناك يمكن البيع بالثمن الأول - وهو ثمن القسمة - وزيادة شيء بأن يبيع نصفه من شريكه بالنصف الذي في يده وربح درهم مثلا ، كما إذا اشترى دارا بدار ، أو اشترى كر حنطة بثوب ، فأمكن بيعه مرابحة على الثمن الأول ، وفي الجملة فلم يجز بيعه مرابحة على خمسين ، إلا أنه إذا باعه مرابحة ، أو باعه من بائعه بالنصف الذي في يده بربح ده يازده لا يجوز ; لمعنى عرف في كتاب البيوع ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية